النخلة والقرعة والكلمة الطيبة
الشيخ كمال خطيب
قد يظنّ ظانّ أن نصرة الإسلام والجهاد في سبيل الله لا يستطيعها إلا من ملك المال الوفير والجسد القوي، فينفق المال ويتعب الجسد في سبيل الله تعالى. يفهم ذلك من قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} آية 11 سورة التوبة. وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ*تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} آية 10-11 سورة الصف، ولكنها ظروف يمر بها الفرد أو تمر بها الأمة قد لا يملك الفرد المال لينفقه ويبذله للجهاد في سبيل الله، أو أنه يملكه، ولكنه لا يستطيع ذلك لأسباب كثيرة، عند ذلك يصبح الجهاد بالكلمة واللسان من الضرورات، بل من الواجبات. ولأن المعركة التي بيننا وبين أعدائنا لها وجوه كثيرة، عسكرية وسياسية وفكرية، فنجد أنفسنا في هذا الزمان أننا في أوج معركة وعي ميدانها هذا المسلم الذي جهل دينه فأصبح في حالة تتجاذبه فيها مفاهيم الأعداء عن الإسلام، حيث لا بد عندها من تدخلنا وأداء دورنا في معركة الوعي هذه ليكون سلاحنا الكلمة.
الكلمة الطيبة
ودور هذه الكلمة ليس في أن تكون كلمة حق وصدق فقط، بل لا بد أن تكون بأسلوب طيّب لضمان أن تخترق ليس آذان السامعين، بل قلوبهم. وإن كلمة الحق والكلمة الطيبة هما من سلاح معركة الوعي، وقد قال النبي ﷺ: “والكلمة الطيبة صدقة”. وقال: “أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”. وإن القرآن الكريم قد وصف الكلمة الطيبة وأثرها البالغ لمّا قال :{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ*تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} آية 23-24 سورة إبراهيم.
إنها الكلمة الطيبة الصادقة مثل الشجرة بثباتها وعمقها واستقرارها، إنها التي لا تزعزعها الرياح ولا تقوى عليها معاول الباطل، إنها مثمرة لا تنقطع ثمارها ، لأن بذورها تنبت في النفوس الطيبة والفطرة السليمة. أما الكلمة الخبيثة التي لا يُبتغى بها وجه الله سبحانه فإنها مثل شجرة تهيج وتعلو وتتشابك أغصانها، ولكن لأن جذورها سطحية غير ضاربة في عمق الأرض فسرعان ما تعصف بها الريح فتتحطم أغصانها، بل وتقتل جذورها فتصبح هشيمًا تذروه الرياح: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍۢ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ٱجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ ٱلْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍۢ…..} آية 26 سورة إبراهيم.
طيب الكلمة
ليس المطلوب في معركة الوعي هذه أن تكون الكلمة طيبة فحسب، بل لا بد من طيب منطق من يقولها. ولأن المسلم لا بد أن يتميز عن الآخرين بأخلاقه وكلامه وسلوكه، فلا بد كذلك أن يميزه طيب المنطق، وقد وصف الله تعالى هؤلاء لما قال: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَىٰ صِرَاطِ الْحَمِيدِ} آية 24 سورة الحج وقال سبحانه: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} آية 83 سورة البقرة. ولأن الألسن مغارف القلوب، فإذا كانت القلوب طيبة فلن تغرف الألسن منها إلا طيبًا، والمسلم مثل النحلة لا تقع إلا على طيب، ولا يخرج منها إلا كل طيب، وإذا وقعت على شيء لم تخدشه ولم تكسره.
ولقد بيّن الله سبحانه في محكم آياته أن من أسباب تأثير الكلمة والنفع بها وصداها على السامع وبالتالي الانتصار في معركة الوعي والتغيير الإيجابي عند الفرد وعند الأمة، أن يكون منطقها طيبًا وصالحًا لأن ذلك ضمان صلاح الأعمال بعد صلاح الأقوال كما في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ…} آية 71 سورة الأحزاب. ثم إنه سبحانه قد بيّن في كتابه العزيز أن طيب الكلمة يأسر السامع ويوقعه في شباك قائلها، حين تصبح الكلمة تاج الوقار الذي يزيّن قائلها {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} آية 72 سورة الفرقان، لا بل أن أصحاب طيب الكلمة وأصحاب المنطق الطيب فإنهم يكونون دائمًا كالشجرة السامقة هاماتهم مرفوعة بمستوى كلامهم وأخلاقهم :{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} آية 63 سورة الفرقان. ولعل من أجمل ما وصف به أصحاب طيب الكلمة والكلمة الطيبة ما قاله الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله لمّا قال: “كونوا مع الناس كالشجر يرمونه بالحجر فيرميهم بأطيب الثمر”.
وليس وجوب استخدام الكلمة الطيبة ومنطق طيب الكلام معناه أن يبلغ المسلم درجة العصمة، فإن هذا ليس له، فالمسلم من بني آدم الذين قال عنهم النبي ﷺ: “كل ابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون”. فليس أننا لن نحوز العصمة التي هي من خصائص الأنبياء والملائكة، وإنما لأن الله سبحانه لن يهبنا إياها. وقد حُكي عن أحد الصالحين أنه قال: “طفت حول الكعبة في ليلة مظلمة ومطيرة وقد خلا المطاف وطابت نفسي، فوقفت عند الملتزم ودعوت الله فقلت: اللهم اعصمني حتى لا أعصيك. فهتف بي هاتف يقول : تسألني العصمة وكل عبادي يسألوني العصمة، فإذا عصمتهم فعلى من أتفضل ولمن أغفر. فسعيت حتى الصباح أستغفر الله حياء منه”.
النخلة والقرعة
إن الكلمة الطيبة وإن طيب الكلام والمنطق مما هو مطلوب من المسلم {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} آية 83 سورة البقرة، {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ} آية 29 سورة الكهف. إنه مطالب بقبولها، حتى لو لم يرَ ثمرتها، تمامًا مثل البذرة، أمر الفلاح بأن ينثرها في الأرض، ولكن ليس على صاحبها ضمان أن تنبت ويكون منها ثمر، بل لعلّ هذا قد يتأخر بل ولعلّ من النباتات الضارة من تنمو أسرع منها وتثمر أكثر منها. فعلى الفلاح أن لا ييأس، وعلى صاحب الكلمة الطيبة أن لا يندم كما قال فضيلة الشيخ المرحوم يوسف القرضاوي:
لا تيأسن من الزمان وأهله وتقول مقالة قانط وحزين
فعليك بذر الحَب لا قطف الجنا والله للساعين خير معين
وقد قيل في تلك القصة الشعبية عن شجرة نخيل باسقة في السماء ضاربة في الأرض وعمرها سنوات طويلة. وذات يوم وإذا بالنخلة هذه تشعر أن شيئًا يزحف على ساقها وما لبث أن وصل إلى أغصانها فسألته: من أنت، قال: أنا بيت القرع، فقالت له النخلة: وماذا تريد؟ قال: أريد أن أصل إلى ما وصلت إليه؟ قالت له: كم عمرك؟ ومنذ متى ألقى الفلاح بذرتك في الأرض؟ قال: منذ 30 يومًا. فضحكت النخلة وقالت للقرعة: عمرك 30 يومًا وأنا عمري 30 سنة وأصبحت في نفس علوي وارتفاعي، “والله يا قرعة ما أنت بنت معيشة” أي أن عمرك قصير. المقصود أن نبات القرع سريع النمو سريع الفناء، وأن جذور نبات القرع تكون قريبة من سطح الأرض غير ضاربة في أعماقها مثل شجرة النخيل.
وإنه الحوار الذي دار يومًا بين الحق وبين الباطل:
قال الباطل: أنا أعلى منك رأسًا.
قال الحق: أنا أثبت منك قدمًا.
قال الباطل: أنا أقوى منك.
قال الحق: أنا أبقى منك.
قال الباطل: إن معي الأقوياء والمترفين.
قال الحق: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ۖ وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} آية 123 سورة الأنعام.
قال الباطل: أستطيع أن أقتلك الآن.
قال الحق: ولكن أولادي وأحفادي سيقتلونك ولو طال الزمان.
حصاد اللسان
كانت نتائج دراسة علمية تشير إلى أن المرأة تتكلم في اليوم الواحد ما معدله ثلاثة عشر ألف كلمة، بينما يتكلم الرجل في اليوم الواحد ما معدله تسعة آلاف كلمة. فليت الواحد منا رجلًا أو امرأة وضع كلماته هذه في الميزان حتى لا تكون كلماته هذه شاهدة عليه يوم القيامة. ولماذا لا نفعل ذلك ونحن نعلم حديث رسول الله ﷺ الذي يقول فيه: “وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم”.
أمَّا وقد أضيف إلى واقعنا الجديد ما لم يكن سابقًا أي وسائل التواصل الاجتماعي التي سهّلت وجرّأت ويسّرت لمن هبّ ودبّ أن يكتب ما يشاء وبكل لفظ يشاء ويوجهه لمن يشاء دون أن ترتعش له يد وهو ينقر على لوحة الأحرف على هاتفه أو على حاسوبه، ويظن أن هذه ليست ضمن حصاد اللسان الذي سيسأل عنه يوم القيامة.
إنه الشخص الذي لعلّه لم ينهِ دراسته الابتدائية وقد فشل فيها لكنه يفاخر بنفسه أنه وحيد زمانه، فيخوض في الدين والسياسة والتاريخ والجغرافيا وعلم الفلك، ليس فقط محللًا، بل مسفّهًا ومتطاولًا على كل من لا يوافقه الرأي، لا بل إن لسانه ليغرف مما في قلبه من البذاءات تترجمها أصابعه إلى أحرف وكلمات يصبّها شتائم على غيره.
ما أحوجنا أن نذكّر أنفسنا وغيرنا بأهمية الكلمة ونحن في خضمّ معركة الوعي لكنها الكلمة التي يجب أن نعلم أننا سنسأل عنها يوم القيامة. لذلك لا بد أن تكون كلماتنا طيبة كشجرة طيبة، لا أن تكون خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
ولعلم الصالحين بأهمية الكلمة وخطورتها على صاحبها فقد كان أحدهم يتمنى على الله أن لو جعل رقبته طويلة مثل رقبة الجمل، فلما سئل عن ذلك قال: حتى يتسنى لي مدة أطول من الوقت منذ صدور الأمر بالكلام من الدماغ واستفتاء القلب بذلك وحتى تصل إلى اللسان، فإن كان خيرًا نطقت بها وإلا فلماذا أنطق وأتكلم بما سأحاسب عنه بين يدي الله تعالى.
فما أجمل وأعظم أن نتخلق بأخلاق القرآن {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} آية 24 سورة الحج. وأن نتخلق بأخلاق المصطفى العدنان الذي قال عنه ربه {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} آية 4 سورة القلم.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولنفسه ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.