الدروس المستفادة من زيارة جنوب أفريقيا (1)
ساهر غزاوي
تمهيد..
جملة (ليس الخبر كالمعاينة/ كالعيان) تُعد قاعدة لوصف الأحداث ودراستها وفهم طبيعتها وتحليلها على أرض الواقع، فالفرق واضح جدًا بين من يُعاين الحدث مكانًا وزمانًا من أجل معرفة التفاصيل عن الشيء المبحوث عنه وجلب المعلومات من مصادرها مباشرة، وبين من يتلقى المعلومات والتفاصيل كخبر دون معاينة. فمن خلال رحلتنا الدراسية إلى جنوب أفريقيا التي نظَّمتها مؤسسة ميزان لحقوق الإنسان (الناصرة) بالتعاون مع مؤسسة مانديلا الجنوب أفريقية على مدار عشرة أيام التي تقسمت بين مدينتي جوهانسبرغ وكيب تاون (وهما مدينتان تبعدان عن بعضهما مسافة تقدر بـ 1272 كم) استطعنا أن نتعرف على نظام الأبارتهايد (الفصل العنصري) معاينة من مكان الحدث.
بَيْدَ أنه بالرغم أن “الأبارتهايد” مرّ على إلغائه أكثر من 30 عامًا، إلا أنه قُدّر لنا، بمشيئة الله تعالى، أن نلتقي مع الكثير ممن عايشوا تلك الفترة وكانوا شهود عيان عليها، وبذلك استطعنا الجمع بين المعاينة المكانية والزمانية قدر الإمكان، وفي السياق، لا يفتوني الإشارة إلى أن مرشدنا في متحف “هيكتور بيترسون” في منطقة سويتو في جوهانسبرغ- وهو في الأربعينيات من العمر ومن آخر جيل عايش نظام الأبارتهايد- كان شديد التأثر والحزن ودموعه محبوسة في عينيه وهو يروي لنا مشاهد من الجرائم التي ارتكبها نظام الأبارتهايد بحق أبناء شعبه، لا سيّما وأنه كان ضحية للقمع والاضطهاد والتمييز العنصري في طفولته، الأمر الذي تسبب له بحالة نفسية صعبة إلى جانب أن آثار الضرب وتهشيم وجهه وتكسير أسنانه لا تزال بارزة على وجهه وجسمه إلى اليوم.
هناك الكثير من التشابه بين الاستعمار في فلسطين الممثل بالاحتلال الإسرائيلي، والاستعمار الغربي “الرجل الأبيض” الذي انتهج سياسة الأبارتهايد (الفصل العنصري) في جنوب إفريقيا ضد السكان السود الأصليين، مع التأكيد هنا أن جوهر الصراع في فلسطين هو على الاستعمار نفسه وليس على الممارسات والأساليب (الفصل العنصري) وإن كانت مقاومتها- كمقاومة الاستعمار نفسه- مشروعة تكفلها قوانين السماء والأرض، والمطلوب هو التحرر الكلي من الاستعمار- أي أن الصراع لا ينتهي إلا بانتهاء الاستعمار وليس متعلقًا فقط بمقاومة ورفض الأساليب والممارسات الإسرائيلية في فلسطين أو متعلقة بتحسين الظروف المعيشية للمجموعة المُسْتَعْمَرَة والمطالبة بالمساواة وتقبل الآخر….الخ، وهذا من أحد أوجه الاختلاف بين الحالتين سأتحدَّث عنه في مقالات لاحقة.
إن التجربة الجنوب أفريقية تُعد صورة مُلهمة للتقريب والتشبيه والوصف والمقارنة والمقاربة بين الاستعمار الغربي في جنوب أفريقيا، والاستعمار الغربي الممثل بالاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، ففي كلتا الحالتين، خلق الاستعمار الغربي الظروف الملائمة لممارسة التمييز والتفرقة العنصرية بحق الشعوب والسكان الأصليين. والتمييز العنصري، والعدوان، واستعباد الشعوب، هو القاسم المشترك بين حالتي الاستعمار، وفي كلتا الحالتين أيضًا، رأى كل من نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا والحركة الصهيونية نفسيهما على أنهم “صفوة شعوب الأرض” أو “شعب الله المختار”، إلى جانب توظيف المفاهيم الإنجيلية والتوراتية لخدمة أطماعهم في الأرض بحيث آمنوا بأن الأرض كانت لهم وأنها الآن “أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرض”.
حقيقة إن هذه الجولة الدراسية في جنوب أفريقيا، نُظمت لتعود علينا كأفراد ومجموعة ومجتمع بالفائدة الكبيرة على المستوى العلمي والثقافي والحقوقي الإنساني، لا سيّما وأن “ميزان” مؤسسة تعنى بحقوق الإنسان ولها باع طويل في هذا المجال، وأيضًا على مستوى بناء وتعزيز وتقوية المجتمع المدني في الداخل الفلسطيني، وأتى ذلك من خلال المعاينة والوقوف على الحدث في مكانه والاستماع مباشرة إلى من كانوا ضحايا لهذا النظام البائد والجلوس مع محامين وحقوقيين وهيئات ومؤسسات والاستماع إلى تجاربهم وخبراتهم في متابعاتهم وتناولهم لقضايا ضحايا الأبارتهايد.
لذا، سيكون لنا (بإذن الله تعالى) عدة مقالات تحت عنوان (الدروس المستفادة من زيارة جنوب أفريقيا)، نتحدث فيها عن الاستعمار الغربي لجنوب أفريقيا وإسقاطه على الحالة الفلسطينية مع تبيان أوجه التشابه والاختلاف بينهما، وتسليط الضوء على جوانب هامة ممكن أن تكون لنا كفلسطينيين مصدر إلهام لما فيها من الدروس والتجارب التي ممكن أن نستفيد ونتعلم منها في حالتنا الفلسطينية، كما سيكون لنا وقفة مع جانب مهم جدًا وهو (المجتمع المدني) لما له من دور كبير في تنظيم المجتمع أولًا، وثانيًا لدوره البارز في مناهضة نظام الأبارتهايد والعمل على انهائه.
لكن، قبل الحديث عن ذلك كله، لا بدّ من الإشارة إلى أن هذه الرحلة الدراسية إلى جنوب أفريقيا قد كتب لها النجاح والتوفيق بفضل الله تعالى، فللنجاح أسبابه وعوامله وأهمها، بنظري، أن مجموعة “ميزان” الدراسية التي ضمَّت محامين وحقوقيين وأكاديميين من الداخل الفلسطيني، كانت مجموعة متناسقة، متفاهمة، متعاونة، متآخية، متحابة، والعامل الذي لا يقل أهمية عمَّا ذُكر، أنها كانت مجموعة جدّية، ولم تكن مجموعة تبحث عن جوانب الترف والترفيه والتنزه، بل كانت هذه الجوانب هامشية أمام جدّية المجموعة وتعطشها للتعلم وحرصها الشديد على الاستفادة ودراسة التجربة الجنوب افريقية في مقاومة ومناهضة نظام الأبارتهايد الاستعماري والتحرر منه.
كانت هذه المقالة بمثابة تمهيد للدخول في صلب الموضوع والحديث عن الدروس المستفادة من جولتنا الدراسية في جنوب أفريقيا التي نظمتها مؤسسة ميزان لحقوق الإنسان في الناصرة (مشكورة)، على أمل أن تكون هذه بداية لمأسسة برامج أخرى مشابهة تصب في خدمة وتنظيم المجتمع المدني حتى يستطيع مجتمعنا أن يصل لمرحلة يكون فيها قادرًا على الوقوف في وجه التحديات التي تهدد حاضره ومستقبله.