دعوها فإنها منتنة
ليلى غليون
ما أعظم الإسلام الذي اعتبر الفتنة جريمة أشد من القتل لما قال الله تعالى في كتابه العزيز: (والفتنة أشد من القتل)، فنبذ العصبية وحارب القبلية وانتزع من النفوس كل شعار وكل دعوى تنادي بها وتدعو لها بل اعتبرها من دعاوى الجاهلية التي أتى الإسلام من أجل القضاء عليها واستئصال شأفتها. فالوحدة القوية والصف المرصوص والرباط المتين الذي لا تنفك عراه لا يمكن أن تقوم له قائمة، ولا يثبت له حال، إلا إذا كانت رايته التوحيد والعقيدة، فهي الراية التي لا تُنكس، والقوة الغالبة التي لا تُقهر، فلا لون ولا جنس ولا قومية ولا وطنية ولا حزبية تملك من مقومات هذه الوحدة وهذا الصف ولو اجتمعت كلها في واد واحد، والذي يحب ويبغض ويوالي ويعادي بناء على راية اللون والجنس والقومية والوطنية والحزبية، فإن هذه الراية بالتأكيد ستسقط وتتهاوى مع أقل هزة، لأنها دعوة صريحة من دعاوى الجاهلية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما تشاجر بعض الأنصار والمهاجرين: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة).
إن التعصب الأعمى لفئة ما أو لرأي ما، واعتبار أن هذه الفئة ليس مثلها لا في الأولين ولا في الآخرين، أو أن هذا الرأي هو الأصوب والأصح وكل رأي دونه خطأ وضلال، إن مثل هذا التعصب البغيض باب واسع من أبواب الفتنة المشتعلة في مجتمعاتنا والذي يظهر جليًا عند قطاع لا بأس به من أفراد المجتمع، حيث من المفروض أن الاختلاف بالرأي لا يفسد للود قضية كما يقولون، ولكن الواقع وللأسف يفرز عكس ذلك في غالب الأحيان، لنجد شرارة صغيرة يمكن أن تشعل حربًا ضروسًا بين مختلفين في الرأي بحيث تراهم يصفقون ويبتسمون ملء الشفاه، لمن يوافقهم رأيهم أو جماعتهم ويعادون من يعادونهم، يخترقون الصف بتعصبهم لأفكارهم، ويبغضون من يخالفهم بل ربما يضعونهم في خانة الأعداء ويحسبون أنهم على الحق وأنهم يحسنون صنعًا وغيرهم على باطل ساء ما يعملون، لتستيقظ الفتنة من سباتها وتمتد كالأخطبوط تهدم كل صلة بينهم، وتقطع كل وشائج محبة وقربى وعلاقات طيبة كانت بالأمس القريب تربط بينهم، لتشتعل هذه الفتنة وتأكل الأخضر واليابس فيكون الاقتتال والاحتراب وخراب الديار والسبب رأي أو موقف مخالف.
ونحن نعايش في هذه الزمان أيامًا عصيبة تموج بها الفتن كموج البحر، فتن عن أيماننا وفتن عن شمائلنا ومن خلفنا ومن أمامنا ومن تحتنا، فتن توالت وتنوعت وعمت وطمت نسأل الله تعالى العفو والعافية من شرورها.
يقول صلى الله عليه وسلم: “يتقارب الزمان، ويقبض العلم، وتظهر الفتن، ويُلقى الشّح، ويَكثر الهَرج قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: القتل”.
وقد حذَّر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من هذه الفتن التي ستجتاح هذه الأمة وتعصف بها عصفًا وتزلزل الأرض من تحتها حتى أنه من شدة وعظمة وكثرة هذه الفتن يمر الرجل على أهل القبور فيتمنى لو أنه منهم لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بالقبر فيقول: يا ليتني مكانه).
ومن أوصاف هذه الفتن كما بينها صلى الله عليه وسلم أنها كقطع الليل المظلم، وأنها كرياح الصيف، أي في تتابعها وسرعة مجيئها وتنوعها، وأنها يرقق بعضها بعضًا، بمعنى أنها تتعاظم مع مرور الزمن أي تكون الفتنة التي تلي سابقتها أعظم منها وأشد، وأنها تموج كموج البحر أي متتابعة لا نهاية لها بالإضافة إلى أنه عند هيجان البحر يهلك ناس كثيرون، وأنها تُعرض على القلوب لا على الأسماع والأبصار فلا ينجو منها إلا من كان قلبه سليمًا.
وقد دلَّنا رحمة الله للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن سبيل السلام وقارب النجاة من هذا الشر المستطير هو:
- الاعتصام والاستمساك بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعض عليهما بالنواجذ.
- تقوى الله تعالى باب واسع ومخرج فسيح وصمام أمان من كل شر ومن كل شدة ومن كل فتنة (فاتقوا الله ما استطعتم).
- اتباع العلماء الراسخين في العلم والمشهود لهم بالصلاح والثقة والاستقامة والأخذ منهم.
- لزوم الجماعة، لأن يد الله مع الجماعة وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، ولأن الجماعة رحمة والفرقة عذاب.
- الدعاء الخالص والصادق والدائم بالثبات وأن يجنبنا الله عز وجل شر الفتن.
نسأل الله تعالى السلامة من كل فتنة، والعافية من كل بلية، وأن يثبتنا ويحفظ لنا ديننا وأعراضنا وأوطاننا وقدسنا وأقصانا ومجتمعاتنا وأن ينجينا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.