الأمور المطلبية الخدماتية.. توظيفها كحالة وتعزيزها كمكانة
ساهر غزاوي
وجدها فرصة سانحة ذاك الصديق عندما التقينا في مدينة عرابة أثناء المشاركة في فعالية إحياء ذكرى هبة القدس والأقصى، ليبوح لي بما يجول في صدره من كلام يحمل بين طياته رسائل ما لم يستطع أن يوصلها لي سابقًا إلا في هذا اللقاء القصير الذي جمع بيننا، فقد قال لي بلهجة المُعاتب: “مالك على منصور عباس؟!”. لم أستغرب من لهجة العتاب هذه وهي ليست الأولى ولن تكون الأخيرة في ظل ما نعيشه في أيامنا هذه من شبه انعدام للحوار وتقبل الرأي الآخر المُخالف وحرف للنقاشات عن مسارها الطبيعي وتقزيمها وتحجميها وشخصنتها إلى حد حصرها في أشخاص هم كثيرًا ما يتقمصون دور “الضحية والمستهدف” حتى يعود عليهم هذا الدور بالفائدة والربح الانتخابي.
هنا لا بد من التأكيد على أنني أتحدى أن يجد أي أحد كلمة أو جملة من مقالة أو منشور أو تعليق لي في أي موضع كان، يستهدف أسماء وشخصيات بعينها ويتعرض لحياتهم الخاصة والشخصية ومنهم منصور عباس، فعلى هذا الصعيد أتمنى لعباس ولغيره التوفيق والنجاح والسعادة في حياتهم الشخصية والخاصة، أما على صعيد المكانة القيادية التي يمثلها أي شخص في الحقل السياسي والاجتماعي والشعبي، بغض النظر عن اسمه ولونه وحزبه، فهو تحت طائلة النقد والمساءلة ومن حق المُخالفين له ولنهجه التعبير عن حالة الرفض والانكار لسلوكياته وتصرفاته السياسية، لا سيّما ونحن نعيش في معركة شرسة ومرحلة حرجة يُراد من خلالها كيّ الوعي وصهره في بوتقة مشاريع وسياسات تعمل على تشويه هويتنا وتسعى لإعادة هندستها بما يتوافق ويتماثل مع سياق العملية الاستعمارية الصهيونية ضمن مساع ومخططات تهدف لقطع جذورنا الفلسطينية والعربية والإسلامية والحضارية والتاريخية.
المهم في هذا السياق، أن النقاش والتركيز على حالة التفكير والوعي التي يمثلها ذاك الصديق، وهنا لا أقصد ما قاله أعلاه “مالك على منصور عباس”.. إنما أقصد تحديدا ما قاله قبل افتراقنا من اللقاء القصير الذي لم يدم طويلًا بسبب أجواء فعالية إحياء ذكرى هبة القدس والأقصى.. “منصور عباس يمثل حالة وشريحة موجودة في مجتمعنا ولماذا أنتم معترضون”؟؟؟ وكأن الاعتراض على هذا النهج الذي تتشارك مع القائمة الموحدة فيه، قائمة الجبهة/ التغيير، حيث تدور حملاتهم الانتخابية حول التنافس على أمور مطلبية خدماتية لن تتحقق إلا من خلال انضمامهم للمعسكرات الصهيونية، بحسبهم، وكأن الاعتراض أصبح محرمًا وممنوعًا في عُرف من يتبنى هذا النهج في السر والعلن!!
في واقع الأمر، فإن هذه الحالة موجودة في مجتمعنا كما هي موجودة في سائر مجتمعات أهل الأرض، وهنالك دائمًا ما نجد في المجتمعات من يتبنى (نظرية الخلاص الفردي) ويقدّمها على (نظرية الخلاص الجماعي) وعلى القضايا الجماعية المصيرية، كما أن حالة مجتمعنا مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بتحول موقف الحكومة الإسرائيلية تجاه المجتمع العربي، في العقد الأخير بشكل خاص، التي تقف وراءه اعتبارات اقتصادية، حيث بدأت دوائر الدولة تنظر إلى المجتمع العربي وإلى الحريديين كعبء اقتصادي، وبالتالي يجب إحداث تغيير في سياسة الدولة تجاه هذين القطاعين من باب دمجهم في المجتمع الإسرائيلي اقتصاديًا وتوظيفيًا. أيضا فإن الدولة ذاتها واعية لوجود هذه الحالة في ثنايا المجتمع العربي، تمامًا مثلما أن الخطاب المدني يتوافق مع توجهاتها الأولوية التي تقضي بإشغال المجتمع العربي في قضايا مدنية تتمثل في تحصيل إنجازات مطلبية عينية عن الانشغال بالقضايا الوطنية والحقوق الجماعية.
عمليًا، فإن القائمة الموحدة برئاسة منصور عباس وظّفت هذه الحالة وعملت على تعزيز مكانتها في المجتمع العربي كسياسة انتخابية للوصول إلى مشروعها الحقيقي القائم على مقايضة الحقوق بالميزانيات تحت مفهوم “الرعايا” وليس كمجموعة أصيلة في وطن، ووضعت نفسها في موقع من يقود دعاية لسياسات المؤسسة الإسرائيلية ويتبنى روايتها وخطابها، وتعاملت القائمة الموحدة مع ذاتها كما لو أنها حزب إسرائيلي تقليدي يستطيع تحقيق إنجازات مدنية للمجتمع العربي، كذلك فإن خطابها ونهجها لا يحملان أي إشكالية حول التخلي عن أجزاء من الهوية الخاصة بفلسطينيي الداخل، حيث أنها أبدت ظاهريًا مدى استعدادها إلى الذهاب بعيدًا في دعم قرارات الحكومة الإسرائيلية المعادية للشعب الفلسطيني!! خلاصة القول، فإن هذه الحالة موجودة في مجتمعنا ولا يمكن انكارها، لكنها ليست حالة يمكن تعميمها على مجتمع بأكمله، وهي ليست بالحجم الذي يُروج له في الدعايات والحملات الانتخابية، بالإضافة إلى أن حجم هذه الحالة الانتخابي لا يتجاوز في أبعد تقدير الـ 20% من مجمل أصحاب حق الاقتراع العرب.
ويبقى السؤال: لماذا الإصرار على توظيف هذه الحالة والتعزيز من مكانتها في المجتمع العربي، علمًا أن هذ التعامل المدني مع الأمور المطلبية الخدماتية (لا ننكر أهميتها) تصلح للبلديات وللمجالس المحلية؟! لولا أن هذه الأحزاب، وأخصّ بالذكر هنا القائمة الموحدة وقائمة الجبهة/التغير، تتوافق وتتماثل مع مشاريع تهدف إلى تشويه هويتنا وإعادة هندستها لتتوافق من نظام الاستعمار الاستيطاني، مع أنه من المفترض أن تتعارض معه وتقاوم أجنداته ومخططاته بكل الوسائل المشروعة والمتاحة وعلى رأسها رفع حالة الوعي لدى أبناء مجتمعنا بأن تحصيل الحقوق المدنية في حالتنا ليست مشروطة عبر تغيير وتغييب مواقفنا السياسية ولا التخلي عن المطالبة بحقوقنا الجماعية، هذا فضلًا على أننا نستطيع أن نشتق حقوقنا المدنية والوطنية ونستطيع أن نحافظ على هويتنا الجزئية والجامعة من كوننا أهل الوطن وأصحاب البلاد الأصلانيين.