انتخابات الكنيست.. واستنطاق الأرقام
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
عادة ما تستعين الأحزاب في حملاتها الانتخابية بعدد من المكاتب الإعلامية والدعائية وبعدد لا بأس به من استطلاعات الرأي تفحص من خلالها وضعيتها، إمَّا لتحسين ما تبين أنه يسيء للحزب ويؤثر على فرص نجاحه، أو زيادة وتعزيز ما يتبين أنَّه يُساعدُ في تعزيز مكانته البرلمانية وتوسيع رقعة ناخبيه. لذلك كانت استطلاعات الرأي إحدى الأدوات الهامة التي يتمُّ من خلالها قياس مكانة ومقام الأحزاب جماهيريًا ومدى تقبل الشارع لطروحاتها ولبرامجها السياسية. وكلَّما كانت الأحزاب أكثر تمرسًا فإنها تجري عددًا من الاستطلاعات ولا تعلن عنها- بالضرورة- لتستفيد منها. استنطاق الأرقام مهمة صعبة تحتاج إلى نطاس وخبير ليس بعلم الإحصاء الاجتماعي، بل لتحليل هذه الاستطلاعات، وهو ما يستلزم من المحلل قراءات عميقة للمجتمع الذي يعمل معه وضمنه، وإلمامًا تاريخيًا بالسيرورة السياسية وتجاذباتها وتناقضاتها وتقاطع المصالح فيما بينها وعلاقاتها الثنائية مع المجتمع والمجتمع المقابل، ومع القوى السياسية فيه.
استنطاق الأرقام التي تفرزها الاستطلاعات تكمن أهميتها في المقاربات التي تكشفها، ولذلك كانت الحاجة دائمًا إلى الخبراء الذين يستطيعون تحويل الأرقام الإحصائية إلى تحليلات تفيد السياسي شخصًا وحزبًا، وعملية الاستنطاق بحد ذاتها، علم قائم بذاته بات يتطور في السنوات الأخيرة بشكل كبير بعد الثورة المعلوماتية والرقمية، وارتبط ذلك بعودة الأبحاث الكمّية إلى الصدارة تبعًا لقربها من الإنسان والكيان وارتباطاتها بعلوم عديدة منها الإحصاء كعلم قائم بذاته بات يتطور في العصر الرقمي وتُقارب بياناته الدقة العالية.
في سياق المراكمات الإحصائية والبيانات الرسمية النهائية لنتائج الانتخابات للكنيست ومكانة ودور الأحزاب العربية، وتحويل مقاعدها إلى فعل مؤثر، والنقاش السفسطائي الذي سيطر على الحياة السياسية في العشريتين الأخيرتين، سنجد أنَّ الأحزاب العربية لم تحوّل قطّ المعطى الاحصائي الذي تحصلت عليه مع انتهاء الانتخابات إلى قوة حقيقية فاعلة، سواء داخل بيئتها ومحيطها الحقيقي، أي الداخل الفلسطيني أو داخل الكنيست بحيث تكون أحزابًا “مقاتلة” توجع رأس السلطة والائتلاف، بل ولم تنجح هذه الأحزاب في تسييس الشباب برسم أنهم المادة الحقيقية لكل عمل سياسي، بل أحالت من هم تحت أطرها إلى حالة تحزب أثَّرت سلبًا على داخلنا الفلسطيني، وهو ما أحال الأحزاب الى حالة غثائية سياسيًا، وفقدت عمليًا مكانتها ومقامها كأداة تغيير مجتمعي وتثوير سياسي. وقد دخل إلى الفراغ الذي خلفته هذه الهيئات المجال الرقمي لتكون منصاته محل “حروب” والذي أحال الأحزاب إلى هياكل عظمية، ولم تقدم شيئًا للواقع السياسي المُعاش، بحيث تصبح المراكمات الرقمية واستطلاعات الرأي البيان التوضيحي لتحقيق قراءات دقيقة للحالة السياسية وتحديدًا فيما يتعلق في انتخابات الكنيست، وأنماط التصويت العربي، وتوزيعها وبيان المقاطعة والاحتجاج.
كان وسيبقى من مميزات النظام الديموقراطي، حرية التعبير عن الرأي، وحرية التصويت والانتخاب، كما حرية الاحتجاج والمقاطعة. ولم يكن المُقاطع والمحتج في السياق الديموقراطي معاديًا للديموقراطية ولا مناوئًا لها، على اعتبار أنَّه يفعل ذلك ضمن هذه الدائرة الواسعة التي تمنحها الديموقراطية لجمهور الناخبين، وبالتالي لا يجوز لأحدٍ أن يخوّن الآخر لأنه رفض التصويت، احتجاجًا أو مقاطعةً. وقد شهد الداخل الفلسطيني مثل هذه المشاهد والحالات، وهو ما يؤكد بُعد الأحزاب والقوائم العربية عن الرشد السياسي (مصطلح الرشد، مصطلح قرآني استفيد منه لبيان الحالة السياسية على اعتبار أنَّ الرشد يحمل معنى النضج العقلي وتحمل المسؤولية والانضباط بضوابط أخلاقية. والرشد السياسي يحمل معنى المسؤولية بسياقاتها السياسية وهو ما يترتب عليه وجود منظومات من القيم والضوابط يرومها السياسي في مجتمعه ويعمل على تنزيلها لتحقيق النماء السياسي وتطوير الإمكان السياسي في المجتمع..). وهذه القضية بحدّ ذاتها تستوجب من المفكرين والمثقفين المنتسبين للأحزاب بيانها والعمل على تذويتها حزبيًا ومجتمعيًا.
استنطاق الأرقام..
اعتمادًا على المعطيات النهائية لانتخابات 2021 للكنيست، يتضح أنَّ نسبة المقاطعين في مجتمعنا العربي الفلسطيني بلغت 46% أي أن قرابة نصف من لهم حق الاقتراع، رفضوا الوصول إلى الدوائر الانتخابية وصناديق الاقتراع. ومع تبيان الأجيال التي لم تصوت يتضح أنَّ 54% من الذين لم يصوتوا اجيالهم بين 18 وحتى 44 عامًا.
نسبة المقاطعين للدورة الانتخابية الـ 24 للعام2021. وهذا معطى كان من المفترض أن يكون محل دراسة عند من يمارسون السياسة تحت سقف الكنيست، ذلكم أنّ هذه المجموعة من المقاطعين، هي العمود الفقري والمُؤَملُ عليها في راهن ومستقبل الداخل الفلسطيني ،وكون هذه المجموعة التي هي الكتلة الثقيلة في المجتمع رافضة للانتخابات، دون الخوض في أنماط الرفض، هل هو أيديولوجي أو احتجاجي، فنحن عمليًا أمام حقيقة تقول إن هذه المجموعة لها موقف من الأحزاب وبرامجها السياسية وطروحاتها وطرق عملها والنتائج التي تتحصل عليها هذه الأحزاب من خلال الكنيست، فضلًا عن أن المجتمع عمليًا يعيش حالةً من الانشطار إلى فريقين، فريق مصوت وآخر رافض. هذا مع أخذنا بعين الاعتبار اننا نتعاطى مع أرقام يذهب البعض إلى انها غير دقيقة على اعتبار ما يحدث في الساعة الأخيرة من ليلة الانتخابات. ومع ذلك فهذا المعطى بحد ذاته يبين أنّ مجتمعنا في الداخل الفلسطيني يتجه نحو المقاطعة، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن سؤال المقاطعة هو الحاضر الغائب في التحليلات السياسية لأنماط التصويت لدى الناخب الفلسطيني، وهو سؤال مرتبط بإحالات سياسية واجتماعية وأخلاقية تمسُّ جوهر العمل الوطني في الداخل الفلسطيني، حتى أولئك الذين يعتقدون بوطنية العمل السياسي تحت سقف الكنيست.
يُلفت الانتباه الى أنَّ نسبة غير المصوتين من كافة الأجيال وقعت في دائرة العشرينيات، أي أنَّ الفئة العمرية لرافضي التصويت في الداخل الفلسطيني من كافة الأجيال، تصل إلى 25% من كل قطاع عمري، وهو أمرٌ دارج ومعروف في النُظم الديموقراطية الراسخة، بل إن هذه الأرقام ترتفع في دول مثل بريطانيا وفرنسا على الرغم من تعزز مكانة التيارات اليمينية في تلكم الدول. وهذا المعطى في واقع مثل الداخل الفلسطيني يحمل بيانات ودلالات سياسية-اجتماعية، إذا ما تعاطينا معها كمتلازمات احصائية ذات علاقة بالأوضاع الاجتماعية والمعيشية والتعليمية.
في الخلاصات، لا يهمني إن كانت هذه الأرقام ستهدد الوجود السياسي للأحزاب داخل الكنيست من عدمه، بقدر ما يهمنا كيفية ترجمتها إلى فعل سياسي خلاق، وهو دور المؤمنين بأهمية المقاطعة باعتبارها حالة سياسية- أخلاقية.