انتخابات الكنيست.. وسؤال الجدوى
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
مع اقتراب ساعات الحسم السياسي في الداخل الفلسطيني تزداد وتيرة التقاذفات بين الحزبية حول ماذا قدمت للجماهير العريضة وماذا ستقدم وأجوبتها على سؤال الجدوى، سواء بالتلميح أو التصريح أو حتى الإيماء. وتقوم الأحزاب والقوائم بعمل محموم من أجل التصويت لها، وفي ذات السياق يعمل كل حزب وقائمة على كيفية تجاوز نسبة الحسم ليضمن مكانة تحت سقف الكنيست. بعد مرور أكثر من سبعة عقود على مشاركة الأحزاب والقوائم العربية في انتخابات الكنيست، ما يزال سؤال الجدوى قائمًا شاخصًا وحاضرًا في كل راهن سياسي، إذ من طبيعة العمل السياسي البرلماني في النُّظم الديموقراطية، أن تعمل الأحزاب على تحقيق مصالح المجموعات التي تصوت لها ،وتجتهد أن تكون ضمن المنظومة الحاكمة لتحقيق ما وعدت ناخبيها أو أن تكون في المعارضة الفعالة وتمارس دورًا سياسيًا ليحقق مطالب ناخبيها. الحالة السياسية الإسرائيلية الديموقراطية لا تُقاس على أنظمة ديموقراطية غربية راسخة في ديموقراطيتها، وإن أضحى سؤال الديموقراطية وجوهره محل نقاش، إذ انتقل النقد من أروقة الأكاديميا إلى الواقع المُعاش، واضحى سؤال الأخلاق والسياسة مهمًا جدًا في الراهن السياسي الكوني السائل بعدئذ افتُضِحَ أمر الدول الديموقراطية الغربية الزاعمة لرسوخ الديموقراطية عندها. فإسرائيل من حيث جوهر وجودها كانت وستبقى حاجة استعمارية عالمية من جهة، واستجابة لسؤال اليهود وشتاتهم الكوني من جهة أخرى، ولذلك ارتبطت وستبقى في المنظومة اللاتينية التي تصارع المنظومة الإسلامية حضاريًا، وعليه فديموقراطيتها ذات مذاق خاص عبر عنه ابتداء تأسيس الحركة الصهيونية وما آلت إليه من بيان تأسيسي لقيامها عام 1948 فيما يعرف بوثيقة الاستقلال المعلن عنها في الخامس من شهر أيار العبري عام 5708، حسب التقويم العبري الموافق 14 أيار 1948مـ، وانتهاءً بقانون أساس قانون القومية المعلن عنه عام 2018مـ.
الأسس الثلاثة..
في السياق الإسرائيلي ومنذ اللحظات الأولى التي سبقت قيام الدولة وفي لحظاتها الأولى، أقرّت الأحزاب الناظمة للحركة الصهيونية ثلاث قواعد اساسية شكلت الأرضية السياسية-الأيديولوجية الناظمة للحياة السياسية الإسرائيلية، السقف السياسي الذي تتم تحت قبته العملية السياسية والتشريعية اسمه كنيست وهو مشتق من المنظومة الدينية، والدولة أي إسرائيل قامت لتحقيق تطلعات اليهود في العالم، وبالتالي هي تمثلهم أينما كانوا وتعمل على جلبهم إلى البلد “الجديد”، وإنها دولة يهودية وديموقراطية، وهذه الأخيرة ظلت محل جدل ونقاش داخليين إسرائيليًا حتى عام 2018 حيث أقرت الكنيست قانون أساس القومية الذي حسم النقاش إسرائيليًا، مقدمًا يهوديتها القومية والدينية على الديموقراطية أي قدمت المسوغ الديني- القومي على العلماني- الليبرالي. ومنذ سن القانون والمؤسسة الإسرائيلية تعمل وفقًا لمسطرته السياسية والأخلاقية، إذ يتمُّ تبرير كل عمل يصادم التطلعات الفلسطينية على أساس من هذه المسطرة التي تم صياغتها لاحقًا، أمنيًا واقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، فتقدمت تبعًا له منظومة قيم وأخلاق جديدة في المجتمع الإسرائيلي تعظم من شأن الدين في سياقاته الارثوذكسية والمُحدثة كما تعظم أمر القومية والعرق في سياقات دينية-علمانية، وهو ما يدفع في مثل هذه الأحوال إلى سؤال الجدوى من المشاركة في العملية السياسية، إذ تتجلى فيها قاعدة فاقد الشيء لا يعطيه، فلا هي بناء على ما أسلفت دولة غير اليهود ولا هي وطنهم ،ولا يمكن الاتكاء عليها لتحقيق غايات وأهداف سواء كانت استراتيجية أو مرحلية، بل ثمة تداخل فرضته الصيغة والتعريف علينا كفلسطينيين في جدل العلاقة القائم مع الدولة في ظل تعريفاتها لذاتها، وجدل العلاقة مع المؤسسة الفلسطينية في سياقات توقيعها لعديد الاتفاقيات مع دولة عرفت نفسها كما ذكرت، وهو ما خلق ويخلق مُشكلًا تعريفيًا- اجرائيًا للذات الفلسطينية في الداخل. وفي هذا السياق تحديدًا، لربما يكون تعريفنا لأنفسنا بالداخل الفلسطيني بيانًا تعريفيًا تأسيسيًا للهوية التي نحمل مضامينها الحضارية وتداخلاتها الثقافية، وهو ما يتقاطع لحظويًا مع سؤال الجدوى، بل ويجعله الحاضر الغائب في السيرورة السياسية للأحزاب والقوائم والحركات التي تخوض انتخابات الكنسيت.
العرقية كأساس للعلاقة مع الآخر
بعدئذ قررت الأحزاب السياسية وبعض القوائم والحركات أن السياسة في الداخل الفلسطيني لا تتم إلا عبر بوابة الكنيست، مستجيبة للطلبات والرغبات الإسرائيلية التي رأت بعد قيام الدولة والانتقال من “اليشوف” إلى الدولة، أن الكنيست هي سقف النشاط السياسي لكافة العاملين في الحقل السياسي باعتبار البرلمان الذي تحت سقفه ستتشكل الحكومة وتسن القوانين أي انها الجسم التشريعي للدولة. وهذه الأحزاب إذ ارتضت أن تكون لاعبًا في الحقل الإسرائيلي، فعليها أن تعمل وفق اللوائح والمسطرة التي أقرتها المنظومة السياسية الصهيونية في لحظات انتقالها من “اليشوف” إلى الدولة ابتداء من تعريفها لذاتها وانتهاءً بسياساتها المختلفة الداخلية والخارجية. ولا يكون الاحتجاج إلا تحت هذا السقف والإطار “الديموقراطي” الذي أقرته الكنيست، وما عدا ذلك بناء على تعريفها لذاتها سيعتبر تجاوزًا وخرمًا للعلاقة البينية الناظمة لمن هم تحت سقف الكنيست. ولذلك اعتبرت بعض الأحزاب العربية التي وافقت على العمل السياسي تحت سقف الكنيست شاذة وتغرد خارج السرب لمجرد أنها احتجت على ممارسات الدولة وأجهزتها المختلفة، سواء على مستوى الداخل الفلسطيني أو تفهمها النضال الفلسطيني ،وحتى حين انبطحت بعض تلكم الهيئات ورفضت على سبيل المثال لا الحصر أن تتطرق إعلاميًا لجرائم الدولة في الضفة الغربية وغزة لم ينفعها ذلك، ذلكم أن الدولة باتت تتحسس من مجرد الانتقاد بحكم منظوماتها الحاكمة والجبروت الذي تحصلت عليه بحكم مفاعيل العلاقات الإقليمية والدولية، وتقدم القيم الدينية اليهودية في شرايين الدولة لتمنحها حياة جديدة بعدئذ وهن عظم العلمانية الكلاسيكية المُؤسسة للدولة. في العشريات الأخيرة زادت هذه الحساسية مع إفراط في الرقابة والضبط تتولاها مقاولة شركات أمنية ذات طابع ديني وعقل كولونيالي منطلقة من عقل مؤسس يعتمد العرقية بسياقاتها الدينية والقومية، أساسًا للعلاقة معنا. وبناء على هذا “العقل المؤسس” يتم بناء العلاقات مع الآخرين من الفلسطينيين والعرب.
وبما أننا نتساءل عن الجدوى، فإن وجود العرب في الكنيست في جوهره تجميلي للوجه الديموقراطي الاثني “العرقي” خارجيًا، وتحقيق للدونية القائمة أصلًا في جوهر العلاقة مع وافدٍ محتلٍ لأرضٍ ليست له، سواءً في حسابات من هو اليهودي أو في حسابات الاشكناز الوافدين المؤسسين للدولة ومدى حقيقة يهوديتهم. هذا في السياق العرقي-الديني برسم التعريف الذاتي للدولة الذي أسس لجدل العلاقة، وكيف تكون معنا نحن أصحاب البلاد. في المقابل فإن من قَبِلَ أن يكون من ضمن المكون الكنيستي مع علمه المسبق للتعريفات الذاتية للدولة، فإنه عمليًا يقبل بتوزيع موارد الدولة بناءً على مفاتيح التعريف للدولة، القاضي بالتفوق اليهودي ودونية الفلسطيني وهذا القبول نكوص وانتكاس أخلاقي وسياسي.
لم تجرؤ الأحزاب والحركات والقوائم أن تقدم إجابات علمية وعملية على سؤال الجدوى حتى هذه اللحظات، بل إنَّ مقولة التأثير التي بتنا نسمعها مؤخرًا من بعض السياسيين سقطت مبكرًا. وتعلمنا تجربة الموحدة التي كانت الأكثر جرأة في مسعاها لتقديم الإجابات على سؤال الجدوى أنها انتقلت من الوطنية-الإسلامية إلى الإسلامية-الصهيونية، وهو موضوع قائم بذاته ليست هذه المقالات مجال الخوض فيها وتفكيكها.