أخبار رئيسية إضافيةمقالاتومضات

تَصابي النساء.. انتفاضة على السن

ليلى غليون

 

هنّ نساء طرقن أبواب سن الأربعين وربما الخمسين، لكنهن مصرات على محاكاة فتيات العشرين. يتصرفن كما لو كنّ من بنات هذا الجيل، يلبسن مثلهن، يتحدثن بطريقتهن، ويتصرفن بسلوكهن. يمارسن دورًا لا يليق بسنهن، ويرفضن ركوب قطار الزمن وقصد الوجهة الصحيحة، يردن التمسك بمحطة لم تعد لهن. فما الحكاية…؟ وهل يناسب امرأة الخمسين أن تحاكي فتاة العشرين؟ وما الذي يدفعها لذلك؟

إن النفس الإنسانية تميل بفطرتها إلى المنظر الحسن والهيئة الجميلة التي يتمناها كل إنسان لنفسه كبيرًا كان أم صغيرًا، فالله تعالى جميل يحب الجمال، والرسول صلى الله عليه وسلم حثّ على أن يكون ملبس المسلم نظيفًا ومظهره جميلًا، حتى تكون صورة المسلمين متناسقة مع شخصياتهم ويكونوا قريبين من كل مظاهر الرقي والحضارة في حدود ما دعت إليه الشريعة. وهذا لا يختلف عليه اثنان، ولكن هناك ظاهرة منتشرة عند بعض النساء ممن تجاوزن الأربعين والخمسين من العمر، يحاولن مجاراة فتيات صغيرات بعمر حفيداتهن لتستميت الواحدة منهن للظهور بمظهر الشابة الصغيرة، فتراها تلهث خلف كل جديد في عالم الموضة ووسائل التجميل وصبغات الشعر ونتف الحواجب وغيرها من سلوكيات وتصرفات لا تتلاءم مع هذه السن والمرحلة العمرية التي من المفروض أن يغلب عليها الاتزان والوقار ورجاحة العقل، بالإضافة لما في هذه السلوكيات من تجاوز لأحكام الشرع وضوابطه، لنجد أن الكثير منهن ينزعجن حتى من السؤال عن أعمارهن وحتى عن أوزانهن، بل ينتابهن القلق وخفقان القلب عندما تكتشف الواحدة منهن بعض الشعيرات البيض تلمع في شعرها وبعض الخطوط تحيط بعينيها، وكأنها لا تريد أن تعترف بهذا الواقع والذي هو واقع طبيعي من المفروض أن تصل إليه، فتلجأ إلى الهروب منه ومحاربته بكل قوة عن طريق محاكاة الأجيال الصغيرة والانخراط بكل ما يخص هذا الجيل وعالمه، حتى تثبت لنفسها وللآخرين أنها ما زالت صغيرة تتمتع بمسحات الجمال ومشاعر الصبا وحيويته المتدفقة.

يحكى أنه في إحدى المدن كانت تعيش امرأة تتمتع بمسحة جمال، ومع تقدمها في العمر فقدت الكثير من جمالها. وكان يسكن في جوار منزلها عطار عرض عليها بعض الأعشاب التي تعيد لها بعضًا مما فقدت واستغلها ماديًا بدون فائدة تذكر.

فقال الشاعر واصفًا هذه الحالة:

وعجوز تمنت أن تكون صبية وقد يبس الجنبان واحدودب الظهر

تروح إلى العطار تبغى شبابها وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر!!

وحتى لا يفهم كلامنا بغير معناه ومقصده، فإننا نؤكد على أنه كم هو جميل ورائع ذاك الشعور الذي يغمر النفس بالنشاط والحيوية وروح العطاء والمثابرة والطموح، ويبث فيها الآمال ويدفعها لتحقيقها، وهذه المشاعر غالبًا ما تلازم الإنسان في فترة الشباب، ولكن الأجمل من هذا كله، أن تظل هذه المشاعر فياضة تتمتع بالشباب والصبا في أعماق الإنسان لا تشيخ ولا تهرم مع تقدم عمره، لتمضي به قافلة السنين، ولا يزال يشعر أن في داخله نبعًا فياضًا من الطاقة لا ينضب، ويظل يشعر بإحساس الشباب وهو في سن الأربعين أو الخمسين أو الستين أو حتى أكثر من ذلك، فلا يعيقه تقدم العمر عن النشاطات والمشاركات في مجالات الحياة العامة، ولا يقف حجر عثرة أمامه في طلب العلم مثلًا والالتحاق بالمعاهد العليا والوصول إلى أعلى المستويات العلمية مهما تقدمت به السن.

إن الشباب لا يقاس بالعمر ولا يوزن بالمظاهر والشكليات بقدر ما يوزن بالمسؤولية والكد والمثابرة والعطاء حتى ولو كنا نعيش في طغيان المادة وطوفان الشكليات، فكم من شابات وشباب في عمر الزهور لا يبرحون دائرة (مكانك قف) فلا يتعدون حدودها، وكم من شابات وشباب ليسوا إلا رقمًا زائدًا في مجتمعاتهم ظلت حياتهم قابعة في الدون لا يتحركون ولا يتقدمون، وفي المقابل كم من نساء وكم من رجال ينظرون إلى سنهم المتقدمة على أنها مجرد رقم ليس إلا، فلا تؤثر على قوة انطلاقتهم لخوض غمار الحياة النابضة بالعطاء والحيوية، لتكون ثورتهم على العمر ثورة إيجابية، وتمردهم على السن تمردًا يحمل في طياته خيرًا كثيرًا يكسبون من خلاله صحة نفسية وبدنية بالإضافة للنظرة الاجتماعية الإيجابية نحوهم.

فالمرأة التي تظل نظرتها للحياة تنطلق من هذا الأفق الواسع، والذي يرى أن الشباب هو شباب القلب والروح وليس شباب الشكل والأجساد، فإنها بلا شك تتمتع بشعور الشباب الدائم حتى لو تعدى سنها الستين، فلا يقلق منامها التفكير بالشيخوخة، أو تقدم العمر، على عكس التي تنظر من منظار ضيق، بأن الخريف يداهم حياتها لتعيش في قلق وخوف على شباب مضى ولن يعود، ولكنها تود استرجاعه بكل ثمن، فتلجأ إلى أصباغ الشعر لتدحر المشيب، وإلى أقنعة شد الوجه لمحاربة التجاعيد، وإلى الملابس ذات الألوان الزاهية ومجاراة الموضة عسى أن يجعلها كل ذلك تعيد شبابها.

 

والسؤال الذي قد يجول في خاطر القارئ الكريم: وهل نحن ضد أن تحافظ المرأة على شبابها وصحتها؟ وخير جواب على هذا السؤال ما جاء في حديثه صلى الله عليه وسلم: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف”، والقوة في هذا الحديث لها مفهوم شامل فهي تشمل قوة الجسد أيضا، ولكن ما نراه اليوم من إقبال شديد واهتمام يتعدى حدود المبالغة في الشكليات والمظاهر والتحايل على العمر، حيث ينتاب بعض النساء خوف وقلق شديدان على هاجس فقدان الأنوثة بمرور الزمن، مع أن وصول المرأة إلى سن الأربعين أو بعدها، يعد وقوفًا على أرضية الاستقرار والنضوج العقلي والعاطفي وتحقيق الكثير من الانجازات والنجاحات، وكم سمعنا عن نساء مبدعات معطاءات أبدعن في هذه السن وما بعدها، فهذه الفترة من العمر بالذات كما يقول المتخصصون النفسيون، هي أخصب الفترات لاكتشاف الذات عند المرأة بعد الاستراحة من مسؤوليات الحياة والواجبات الاجتماعية، ووجود قدر من أوقات الفراغ لا بد من استثمارها، وإسلامنا العظيم حريص على الجمال الحسي كما هو حريص على الجمال المعنوي في إطار العفة والشرف لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: يا رسول الله، إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس”.

وقبل أن أسدل الستار، أقول لكل امرأة تحاول إخفاء عمرها الحقيقي والتهرب منه: إن لكل مرحلة من أعمارنا ما يناسبها ويتلاءم مع طبيعتها، وعلينا أن نتقبل أطوار حياتنا بكل رضى وقبول وهدوء من غير قلق ولا خوف ما دمنا مستقيمين على طاعة الله تعالى، فهذه المراحل العمرية هي من سنن الله تعالى في خلقه، واقرئي معي قول الله جل جلاله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) الروم 54.

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى