الداخــل الفلسطـــيني الراهــن، التــحديات والمستــقبل هندســــة الظُلـــم (2)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
كيفية صناعة الظّلم إسرائيليًا
تتمتع إسرائيل بإمكانيات هائلة في مسائل المراقبة والضبط للمواطن الفلسطيني الحامل للهوية الزرقاء برسم أنّها تعتقده خطرًا أمنيًا يهددها راهنًا ومستقبلًا، ولذلك سعت المؤسسة الحاكمة منذ قيام إسرائيل وإلى هذه اللحظات، لتدجين الفلسطيني في أحسن الأحوال، وتشويه بوصلته السياسية والعقدية في أحوال أُخرى، ومنّت نفسها بأن هذه السياسات- التي تمَّ تجريبها أوروبيًا في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا- يمكنها أن تُحقق بعضًا من هذا المنجز المُراد.
منذ عام 1949 والسكان العرب ممن يحملون الهوية الزرقاء، يعيشون حالات من التمييز، طالت كافة جوانب الحياة، ويمكن القول إنّ ما حققه الفلسطينيون في الداخل من إنجازات، مهما كان نوعها، حقوقية أو مدنية، هو بفضل جهودهم التي راكموها عبر عقود.
في كل صباح ومساء، نسمع عن ضرورات المساواة، وحملت كافة الأحزاب العربية شعار المساواة الذي تبناه الحزب الشيوعي ومن بعد الجبهة الديموقراطية والأحزاب العربية، بغض النظر عن توجهاتها الأيديولوجية. لكن عمليًا ما زالت هذه المسألة من الأوهام التي تعشعش في عقول عديد من السياسيين العرب في البلاد. سنجد تضاعيف الظلم الإسرائيلي في الاضطهاد والتمييز والمعاملة والسلوك، سواء كان اجتماعيًا أو سياسيًا، متغلغلًا في كافة مفاصل الحياة، وفي هذا السياق يعتبر القضاء الإسرائيلي أهم الأدوات الناعمة في تمرير هذه الهندسة ودفعها بقوة القانون.
العرب خطر وجودي
على الرغم مما تتمتع به إسرائيل من قوة لا ينكرها مُراقب ومحلل سياسي وباحث، فضلًا عن المشاهدات اليومية، إلا أنها ما زالت تعتبر الوجود العربي الفلسطيني داخلها، خطرًا تستوجب معالجته إن لم تسنح الظروف في التخلص من هذا الكمّ البشري، ولذلك رأت الحكومات الإسرائيلية بالفلسطينيين في داخلها خطرًا أمنيًا وطابورًا خامسًا، برسم أنهم يعرفون أنفسهم على أنهم جزء من الشعب الفلسطيني والأمة العربية من جهة، وأنّهم يشكّلون تهديدًا ديموغرافيًا بفعل الانجاب من جهة أخرى، وبسبب تمددهم الجغرافي المتغلغل في الكيان الجغرافي، فهم في النقب والمثلث والمدن الساحلية والجليل، ويتغلغلون ببطء في المدن الإسرائيلية.
وقد شجّع هذه السياسات والإجراءات، بن غوريون الذي ترأس الحكومات الإسرائيلية وكان وزيرًا للدفاع (أسس سياسات التمييز اتجاه العرب بين سنوات 1948-1968. يائير بويمل- עקרונות מדיניות ההפליה כלפי הערבים בישראל, 1948-1968. יאיר בוימל)- وكما أشرت في مقالات سابقة، فإنّ هذه السياسات لم تتغير إلى هذه اللحظات، فالنهج والرؤية ما زالتا موجهتين لكافة الحكومات، وإن اختلفت اللافتات الحزبية الحاكمة، بل منذ أن تغلغلت الصهيونية الدينية في مفاصل الحكم، ونحن نشهد عودة نشطة الى “عصر المباي” مع فارق بسيط، ففي حين تلطى المباي بالعلمانية واستعمل اليهودية وسيلة للتمكين من جهة، وتبرير السياسات ضد حملة الهويات الزرقاء بالبعد الأمني من جهة أخرى، فإن الراهن السياسي الإسرائيلي يتلطى باليهودية والأرض الموعودة، كأساس يشرعن التمييز ضد العرب من حملة الهويات الزرقاء.
لا تتنكر إسرائيل ابدًا لسياساتها العنصرية، بل تعلن دائمًا على تزيينها وتدبيجها بتوجهات وفلسفات ليست موجّهة إلى الداخل الفلسطيني، ولا حتى إلى الداخل الإسرائيلي، بل موجّهة في الأساس إلى الخارج، عجمًا وعربًا يتواطؤون مع إسرائيل، برسم التماهي في السياسات والتأثير الأمريكي المتعلق باللوبي الصهيوني الفاعل في أروقة صناعة القرار الأمريكي، بغض النظر عن الحزب الحاكم. وتعمل إسرائيل على هندسة الظلم عبر ثلاث أدوات: المؤسسة التشريعية والمؤسسة التنفيذية والمؤسسة القضائية، وهذه المؤسسات هي الجسم الحاكم في الدولة بل هي الدولة.
كبيان لهندسة الظُلم، أطرح مثالين من أمثلة لا حصر لها، لكنها شاخصة أمامنا ونعيشها يوميًا، سواء على مستوياتنا المحلية في الداخل الفلسطيني أو إعلاميًا على كافة مستويات ما يطلق عليه إعلام.
المثال الأول، في الملاحقة السياسية والأمنية والقضائية للملاحقين من أبنائنا في ملف هبة الكرامة التي حدثت عام 2021 في رمضان من ذلك العام، إثرَ مساعي نتنياهو لاستباحة المسجد الأقصى، سعيًا لتحقيق كسب سياسي انتخابي دفع لمواجهة مع حركة حماس ووقف الشعب الفلسطيني بكليته أمام هذه البجاحة والغلو.
المؤسسة الإسرائيلية التنفيذية ممثلة بالحكومة والمؤسسات الأمنية والعسكرية والشرطية، عادت مسرعة في تلكم الأحداث إلى “العقل المبايي البنغريوني” الذي رأى بنا خطرًا أمنيًا وطابورًا خامسًا، واستهجنت أن يتماثل الفلسطيني في الداخل الفلسطيني من حملة الهوية الزرقاء مع مقدسهم الأعظم المسجد الأقصى أو مع الشعب الفلسطيني، ورفضت أن تتفهم هذه العلاقة الروحية والحسية والاجتماعية، ونَزعتْ نحو معاقبة كل من شارك في مواجهة العسكر في البلدان العربية أو تظاهر ضدهم، رغم أنها قتلت اثنين من أبنائنا بدم بارد، واعتقلت الآلاف وعاقبت المئات، وشنّت حربًا إعلامية لا هوادة فيها، إلا أن “العقلية البنغريونية” هي التي حسمت في النهاية كيفية التعامل، فسارت في دروب عسكرة الأحداث وراكمت الاعتقالات والتحقيقات، ولا تزال المؤسسة القضائية إلى هذه اللحظة، تطارد وتلاحق العديد من الشباب والفتيات ممن شاركوا في تلكم الهبّة.
وفي كيفية هندسة الظُلم في هذه الحالة، فمن باب المقارنات مع الآخر الإسرائيلي، فإنّ المؤسسة القضائية برّأت كافة الإسرائيليين الذين شاركوا في أعمال العنف وجرائم الحرق والسحل والقتل، واعتبرت الأمر دفاعًا عن النفس، وأغلقت كافة الملفات، فيما أبقت الملفات بحق أبنائنا مفتوحة لأهداف عدة منها زرع الخوف في نفوس الأبناء والناشئة في مجتمعنا العربي الفلسطيني. وعليه تعوّل المؤسسة الإسرائيلية على جدل العلاقة المُستقبلي معنا كفلسطينيين نعيش على أرض تعتبر هدية إلهية في المنظور الشرعي عند معظم مكونات المجتمع الإسرائيلي، وهذا بدوره يحمل مستقبلًا الحل “البديل” بما يحمله من سياسات ومتعلقات “العنف الديني” الذي يستعمل سياسيًا من قبل صُنّاع القرار لتبرير بعض السياسات (لبيان ذلك يمكنك متابعة ما جرى في منطقة البلقان في تسعينات القرن الماضي وفي أفريقيا الوسطى في العشرية الفائتة وما حدث ويحدث مع المسلمين في الهند والصين وميانيمار. طبعًا لا يستثني كاتب هذه السطور الحالات العراقية والسورية واليمنية مع تعقيدات المشهد السياسي).
فالمؤسسة الإسرائيلية تعمل على هندسة الظلم وتزيينه محليًا عبر أدواتها الثلاث وتروّج له على أنه إحقاق للعدالة باعتبار أن إسرائيل دولة ديموقراطية وتؤمن بالعدالة وتعمل على تحقيقها، ماضية في غيها التاريخي الذي قعّده موشيه ديان من أن الذاكرة العربية والفلسطينية قصيرة سرعان ما ستنسى.
ويبقى العالق في الذهنية الفلسطينية الحاملة للهوية الزرقاء، مسألتا العدل والحق برسم المقارنة مع ما يحدث احتلاليًا في الضفة الغربية والقدس، فالمعاملة هناك تقوم على أساس القوة المفرطة المبنية على القتل واستحلال الإنسان الفلسطيني، أي على أساس أمني خالص، فيما العلاقة مع الفلسطيني داخل إسرائيل على أساس مدني، فهناك مؤسسة قضائية وأخرى تنفيذية تقوم بتنفيذ ما تقرّه المؤسستان التشريعية (الكنيست) والقضائية، وهو ما يؤسس في العقلية العربية أنّ ثمة بنيان وهيكل متكامل يتعاطى مع الحدث ويفككه جيدًا ثم يقرر بشأنه، وهو يجعل هذا الإنسان أو المجتمع العربي الفلسطيني يتفهمه ويتعاطى معه، ويبدأ ذلك من لحظة الشروع في تعيين وتجنيد المحامين لمتابعة ملفات الشباب والفتيات من المعتقلين والمعتقلات، وإلى نهاية الإجراءات دون خوض زائد في الكيفيات والإجراءات، وهذا بحد ذاته يؤسس ذهنيًا لقبول النتائج التي عادة ما تكون جاهزة قضائيًا، لكن المهمة الرامية لتحقيق حالة الاستخذاء تتطلب هذه السياسة، وهذا هو عين تحقيق المآل الهندسي للظلم راهنًا، أن يتقبله المتهم بقلب راض وقلب مفتوح، وإن تذمر وتبرم فعالميًا بينت إسرائيل أنها دولة عملت على تحقيق العدالة وإحقاق الحق.
في هذا السياق، يمكن أن تشكل ملفات الشيخ رائد صلاح مثالًا عمليًا وعلميًا، لمن يملك الوقت لدراسة ما تعرض له الشيخ كبيان لمعنى هندسة الظلم وقبوله.
ملف الشيخ يوسف الباز
قضية الشيخ يوسف الباز، لها علاقة في التحولات الجارية في مدينة اللد من استيطان لمجموعات صهيونية دينية، تم استئجارها وجلبها من المناطق المحتلة عام 1967 إلى المدينة، لتحقيق عمليات التهويد المكاني وإعادة هندسته جغرافيًا. وقد بدا واضحًا للمؤسسة الصهيو-دينية انّ رجلًا مثل الشيخ الباز بما يحمله من موروث شرعي ووطني، سيشكّل حجر عثرة أمام هذا التحول، وقد بدأت معالم هذه المواجهة، مُبكرًا مع الباز، بعيدًا عن أعين الرقيب الإعلامي والسياسي، يوم أن فتح شارعًا يوصل بيته بمحيطه وبيئته المدنية التي يعيش فيها ومعها، باتفاق مع الجهات ذات الصلة، لكن تخلل ذلك حدث مع شخصية “يهودية” كانت مسمار جحا الذي اتكأت عليه المؤسسات الثلاث لتصل بالشيخ إلى هذه اللحظات، فمسيرته ومواقفه من عديد الأحداث السياسية على مستويات الداخل الفلسطيني عمومًا والعربي وحتى الإسرائيلي، سواء بما كتبه على صفحات التواصل الاجتماعي أو صرّح به، لا يخرج عن ما يسمى حرية التعبير عن الرأي، ومرة أخرى لو تمّت مقارنة ما كتبه الشيخ مع ما تكتبه قيادات إسرائيلية في نفس المواضيع، لوجدنا الشيخ أمام تلكم الزمرة حمامة سلام، لكنَّ السياسات الراهنة تقضي بملاحقة الشيخ، اولًا لذاته ومكانته، وثانيًا رسالة إلى أهالي مدينة اللد والمدن الساحلية وعموم أبناء المشروع الإسلامي والفلسطينيين، ممن يملكون الجرأة على النقد. فالمطلوب إسرائيليًا منا الصمت.
إضراب الشيخ عن الطعام، وضع العصا في سياسات تحقيق البناء الهندسي للظلم على ثلاثة مستويات: المستوى البنيوي لهندسته وما يحمله من تداعيات داخلية على مستوى المؤسسات الثلاث، والمستوى الوطني المتعلق بالفلسطينيين، فهذا الستيني المريض إذ يضرب عن الطعام، يعلن عمليًا أنه يرفض الخضوع لهذه التمثيلية الساعية للإقرار بالقضاء الإسرائيلي، وكأنه عين النزاهة والعدالة، مبيّنًا أنّ جلَّ ما يملكه من أداة مدنية هو جسده الذي لا تستطيع المؤسسة الإسرائيلية بكل جبروتها أن تحتله وتهندسه كما تريد أثناء الاعتقال، وهذا بحد ذاته رسالة إلى من خلفه من الفلسطينيين، وهو ما سيترتب عليه المستوى الثالث، المستوى الأخلاقي، والذي بموجبه ستكون حاجة أخلاقية للمساندة، وهذه الحاجة الأخلاقية إذا ما جرى تذويتها في العقلية الشبابية الفلسطينية في الداخل والشبابية تحديدًا، فنحن أمام إنجاز أخلاقي كبير على المستوى الشعبي، إذ التماهي فلسطينيًا مع الشيخ، سيحمل دلالات تعزز من مواجهة هذا الظلم من جهة، وتحصين الشخصية الشبابية الفلسطينية من جهة أخرى، خاصة وأن من يضرب عن الطعام ليس مجرد شخصية في راهن الوجود الفلسطيني عمومًا وبالذات في الساحل الفلسطيني والعشائري.
المؤسسة الإسرائيلية تعمل على إبقاء الشيخ الباز في السجن بغض النظر عن كيفية الوصول إلى هذه النتيجة، إذ المهم كسر إرادته وشموخه، ولذلك تصدر الأوامر من الجهات التنفيذية للجهات القضائية لتحقيق هذه السياسة، وهذا بحدّ ذاته أضحى مفضوحًا فلسطينيًا خاصة بعد فضيحة ملف الثوابت مع الشيخ رائد صلاح، وكيف تمَّ تجيير كافة الجهات لتحقيق سجنه، وهذا بالضبط ما يحدث مع الشيخ الباز ويبين هشاشة العدالة والقضاء الإسرائيليين، وأنهما من لوازم السياسات لا موجهاتها.