في بيان معـــــنى الظلم راهنًا
الداخــل الفلسطـــيني الراهــن، التــحديات والمستــقبل (6)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
الظلم له تعريفات كثيرة لغويًا واصطلاحيًا فضلًا عن تعريفه الشرعي، ويجمع هذه التعريفات قاعدة مشتركة تتعلق بالجور الذي هو ضد العدل برسم خروج الإنسان أو الجماعة أو المنظمة أو الدولة عن طور العدل مهما كانت نسبته إلى ضده، ويتكرّس الظلم يوم يستحيل منهجًا وفكرًا يتجلى ممارسة، سواءً كانت هذه الممارسة ممهورة برسم مدني كالقانون، أو برسم القوة والجبروت والتعالي كالاحتلال، أو استغلال ما يملكه الفرد من رسم القوة وبياناتها وكذا الجماعة والدولة، لتحقيق أهداف على حساب مجموعات أو أفراد أو دولٍ أخرى. لذلك كما أنّ الاعتداء على المُلك الخاص ظلم، كذلك اعتداء مجموعة بشرية على أخرى ظلم ،ومثله دولة على دولة أو دولة على مجموعة بعينها، والظلم في هذا المعنى يشمل كل من له أدنى سلطة.
عادة ما تتم فلسفة الظلم ومناهجه الفلسفية كثيرة ففي حين يعتمد الأفراد في ظُلمهم على قيم وأفكار ومعتقدات بعينها، تعتمد الجماعات الأيديولوجية الحتميات، فيما تعتمد الدول التاريخ وسطوته وما يتخلله من علوم، كعلوم الآثار واللاهوتيات وعلوم الأديان والأعراق والأساطير. وفي سياقات الظُلم وأنواعه تكون المسافات من حيث النتائج بين هذه التشكيلات من الظُلم ليست بعيدة، فتشريد شعب بأكمله كما الشعب الفلسطيني، وتقتيل شعب بالبارود وحمم الراجمات والصواريخ ودك البيوت على ساكنتها كالشعب السوري السني، ومحاصرة شعب بالنار والحديد ضمن معتقلات عملاقة كشعب الإيغور في الصين، وذبح شعب بالإبادة وتهجيره كشعب الروهينغا، وكلها تتم تحت لافتات الأيديولوجيا والمعتقد والتاريخ وتلفيقات الأساطير، إذ النتيجة النهائية وقوع ظلم وهندسته هندسة فيزيائية تتعلق بالبشر والوطن والجغرافيا، واجتماعيًا تتعلق بالمقدرات في هذا الوطن وتلكم الأرض بما فيها من ثروات، ونفسيًا في تدمير نفوس الجماعات والأفراد وإحالتهم إلى مشردين وشحاذين في أصقاع الأرض، بعد أن كان لهم أرض ووطن، واجتماعيًا بما يتخلق من المظالم الواقعة من فسادٍ وانحرافات لا تقوى على حملها الجبال الرواسي، ويتبع هذه السياسات ذات الطابع الزماني والمكاني والوجداني، سلسلة من المنهجيات التي تؤصل لتلكم الجرائم وتشرعنها، بل ويتم تبييضها عبر مجاميع فلسفية ومنهجية، الهدف الأخير منها استدامة الظلم وتخليق الإنسان القابل لهذا الظُلم، والتعاطي معه على أنه حقيقة يجب الإيمان بها وتفهمها لنعيش مع الإنسان والجماعة السياسية ذات القابلية للاستعمار والاستخذاء، بل والمدافعة عنه.
في هذا السياق يمكننا على سبيل المثال لا الحصر قراءة ما يجري في الداخل الفلسطيني منذ النكبة وإلى هذه اللحظات، وكشف أستار هندسة الظلم التي يعيشها داخلنا الفلسطيني إلى هذه اللحظات، وبيان أسباب الواقع الذي نعيش، وكيف تمّ قبوله والعمل بمقتضاه والسير في ركابه، بل والدفاع عنه رغم أنه مليء بالتناقضات والتشوهات.
في البينات اللغوية والاصطلاحية والشرعية فالقارئ الكريم والقارئة الكريمة، عليهم مراجعة سيل من الدراسات والمقالات والكتب التي تناولت هذا الجانب باعتبار أنّ الفهم العقلي لمعاني الظلم وتحويراته اللغوية وتحولاته الفكرية، على صلة بالاستعمار تارة، والحداثة تارة أخرى، وما بعد الحداثة تارة ثالثة، ورفع شماعات الإرهاب لتمريره وتبريره على منطقتنا وشعبنا، يبيّن بعضًا من السياسات ذات الطابع الهندسي، الساعية لتخليق الإنسان القابل للظلم بعدئذ تخلقت عنده القابلية للاستعمار والاستحمار، وتحوّل في العشريات الأخيرة من أعمار ما بعد الحداثة إلى عبد في قصر السيد أو وكيل للعبودية. وبعد أن صار ملايين البشر ومنهم شعبنا عبيدًا للطوفان الرقمي، صار من السهولة جدًا هندسة الظلم بطبعات مُثيرة تربط بين السياسة من حيث هي فن القيادة والتوجيه والحكم والتحولات الاجتماعية كأثر من تداخلات كونية تتعلق بالعالمين الرقمي والصناعي، أحالت العالم إلى جزر بل قرى لتلعب السياسة مجددًا بتوليفاتها الفكرية والأيديولوجية عراب تجذير الظلم المتجدد.
الظلم في السياق الفلسطيني..
منذ الاحتلال البريطاني للبلاد وما سبقه من اتفاقيات دولية شرعنت الاحتلال ونصت على إنشاء وطن قومي لليهود على هذه الأرض، تمَّ عمليًا تقنين الظُلم باسم المنظومة الدولية، ومن ثمّ تمّ أدلجته باسم التاريخ واللاهوت والدين والأساطير، ووقع الفلسطيني فردًا ومجتمعات بين براثن التخطيط الصليبي من جهة، وجهل قياداته الفلسطينية والعربية من جهة أخرى، إلا قليل بدوافع ومستقبل هذه الظُلم الوافد على هذه الأرض من خلف البحار وكيف ستتم هندسته لاحقًا متخلقًا بدولة يتمّ مدّها بأسباب القوة والبقاء، بدءًا من المُدود البشرية وحتى المفاعل النووي وانتهاءً بإلزام محيطها، قيادات المنطقة الغارقة في الظلم بكل أنواعه، لتنتهي باستعطاف الظالم أن يقبل بحل الدولتين مقابل علاقات تُطبع معه عربيًا وإسلاميًا، وقاد هذه المبادرة السعودية الدولة الأكثر أهمية في عالم العرب والمسلمين اليوم، برسم موروثها التاريخي-الديني وقوتها الاقتصادية، ليرفض الظالم هذا المُقترح ممعنًا بالقتل والتشريد وهدم البيوت ومصادرة الأراضي وشنّ الحرب تلو الحرب على شعبٍ أعزل، تواطأت قيادته عليه، منتهيًا بسياسات ظالمة تجاه أقدس المُقدسات، المسجد الأقصى المُبارك، مبينًا أنّه السيد فيه متجليًا في رفضه مؤخرًا، طلبًا من العاهل الأردني صاحب الوصاية على المسجد بإدخال مصحف ذي قيمة أثرية إلى المسجد الأقصى، علمًا أن الأخير صاحب الوصاية على المسجد بقرار عربي وإسلامي.
أشد أنواع الظلم، الظلم السياسي بما يتفرع عنه من مظالم تعود على الفرد والجماعة والكيانات، وكله مرتبط بفساد الإنسان الذي هو عين الظلم، ذلكم أنّ العدل الذي هو ضد الجور والظلم بمعانيه الرحبة، يشمل كل سلطة يُخاطب من تبوأها بأن يراعي العدلَ فيمن تحت إمرته وخاصة أهل السياسة والقضاء بما يتبوؤون من مناصب ويمتلكون من قوة الفصل والبت واتخاذ القرار، ومعهم من السلطة ما تمنحهم ما ذكرت. وفي هذا يقول ابن تيمية في كتابه “السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية”: “فالقاضي اسم لكل من حكم بين اثنين ليقضي بالشرع أو نائبًا له، حتى من يحكم بين الصبيان في الخطوط إذا تخايروا.. ص19″، وهذا القول ينسحب على المسلم وعلى غير المسلم، إذ العدل وتحقيقه من مهام الساسة وأهل الإصلاح باعتباره مناط الحياة والسياسة وكافة الأعمال.
ما يحدث مع شعبنا الفلسطيني يوميًا في الضفة الغربية والقدس والقطاع والداخل الفلسطيني، يشكل بيانًا للظلم الذي يقارب وصول ذروته وذروة الظلم الفجور، فالقتل اليومي الذي يمارسه الاحتلال في مختلف مناطق الوطن المحتل عام 1967 وقمع المسيرات وهدم البيوت وترك الحبل على غاربه للمستوطنين والحصار المفروض على قطاع غزة والضغوطات التي تمارس على سكان مدينة القدس والاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى وسياسات هدم البيوت في الداخل الفلسطيني ورفض الاعتراف بعشرات القرى التي يتجاوز عمرها ضعفي عمر إسرائيل وأكثر والتحريض الدموي من أطياف سياسية نافذة على الداخل الفلسطيني، وغير ذلك كثير من بيانات الظلم النازلة، عبر سياسات منظمة ومبرمجة تهدف إلى تحقيق أهداف وجودية للاحتلال في المناطق المحتلة عام 1967 ومزيدٌ من التأسرل والاستخذاء في الداخل الفلسطيني، وبين كل ما ذكرت تتمّ عملية منظمة في خلاصاتها السعي لهندسة الظلم وتجسيده قبولًا عند الضحية، إذ الاستخذاء المطلوب إسرائيليًا من الفلسطينيين في كل أماكن سكناهم، الخضوع للمحتل وقبول الطاعة له والتذلل له من أجل بقائه حيًا بحيث يتمتع ببعضٍ من فتات وزخرفة الحياة والحداثة القادمة من خلف البحار أو المصنعة في معامل ومختبرات هندسة الضحية الإسرائيلية.