كلام عن “التريندات” واحترام العقول
ساهر غزاوي
استوقفتني كثيرًا (صرخة) استياء من أحد أبناء مجتمعنا في الداخل الفلسطيني في تعقيب له على فيديو نشرته إحدى وسائل الإعلام المحلية على صفحتها في الفيسبوك، والفيديو عبارة عن مقطع مجتزأ من مقابلة أجرتها تلك الوسيلة الإعلامية المحلية التي بحسب ما يفترض، أنها ضمن برنامج ولقاء حواري يُسلط الضوء فيه على قضية سياسية أو اجتماعية ما من أجل مناقشتها ومحاولة معالجتها قدر الإمكان، في الوقت الذي يفترض فيه أيضًا أن تحترم وسيلة الإعلام تلك وغيرها، عقل المشاهدين وأفكار الناس على مختلف توجهاتهم ومشاربهم وانتماءاتهم السياسية والفكرية.
في العودة إلى (صرخة) المُعقب المستاء جدًا، فقد كتب مطالبًا وسيلة الإعلام تلك بالتوقف عن استضافة كل ما هبّ ودبّ من شخصيات من مجتمعنا وتقديمها للمشاهدين على أساس أن هذه الشخصيات تحمل ألقابًا وأوصافًا “كبيرة جدا” (دون تعميم) تؤهلها للحديث والخوض في قضايا سياسية واجتماعية في البرامج الحوارية والنقاشات الساخنة، لكن حقيقة الواقع تقول غير ذلك. وطالب المُعقب المستاء بعدم الاستهتار بعقول المشاهدين بالاستضافات العشوائية للشخصيات من أجل فقط تمرير البرامج والبحث عن “التريندات” من خلال بعض الأخبار الساخنة التي يهتم بها الجمهور أو يتحدثون عنها أو يشاركونها مع بعضهم البعض.
من الضرورة بمكان التأكيد على أن (صرخة) المُعقب المُستاء تُمثل حالة الوعي الكبيرة السائدة في مجتمعنا الفلسطيني في الداخل التي ترفض الاستهتار بعقولها وعدم احترام وعيّها وذكائها، والتي ترفض أن يكون الإعلام بعيدًا عن التعامل المهني والذي يُقدم محتوى فارغ المضامين الهادفة ومادة مليئة بالفوضى والصراخ، وهي أبعد ما تكون عن الواقع وعن الحقائق، وترفض أيضًا أن يُقدم للمشاهدين مستويات هابطة لا تليق بوسيلة إعلامية تحترم رسالتها ولا تسعى لشحن الأجواء وتسخينها من أجل الكسب الإعلامي وجمع المتابعين وحصد المشاهدات!!
إن حالة الوعي الكبيرة السائدة في مجتمعنا متعطشة لإعلام يحترم مهنيته ورسالته ويحترم ويقدر عقل المشاهد، ومتعطشة أيضًا لإعلام يسعى جاهدًا للارتقاء بالمجتمع وحمل همومه وطرح قضاياه العادلة والقضايا التي تهمه ومناقشة معضلاتها ومشاكلها الجوهرية والعمل على حلها من خلال استضافة أصحاب التخصصات الملائمة للمواضيع وقادرين على توصيل الفكرة والمعلومة بأسلوب راقٍ وحضاري، حتى يكون البرنامج واللقاء أكثر دقة وشمولًا وأحسن طرحًا وتحليلًا للقضايا والموضوعات التي تطرحها وسيلة الإعلام.
حالة الوعي الكبيرة السائدة في مجتمعنا تدرك جيدًا أن بعض وسائل الإعلام تحاول أن يكون لها تأثير سلبي لنزع الناس عن واقعهم الحقيقي وإسباغ العشوائية والفوضوية على كل شيء، مع الإشارة هنا إلى أن العشوائية والفوضوية البعيدة أشد البعد عن التخصص أو حتى القليل من الإلمام بموضوع النقاش المطروح على طاولة الحوار، علاوة عن المستويات الهابطة التي تستضيفها بعض وسائل الإعلام، هي ليست ظواهر طارئه على مجتمعنا، لكن للأسف بعض وسائل الإعلام المحلية التي أضحت ضحية تضخم النزعة المادية والاستهلاكية، والتي من المفترض أن تكون أكثر انضباطًا والتزامًا بالمعايير المهنية والأخلاقية الصحافية والمجتمعية، فإنها قد هبطت إلى مستوى الفوضى الافتراضية التي تُمارس في وسائل التواصل الاجتماعيّ وتجاوزاتها الأخلاقية والتي عزّزت من تلك الظواهر السلبية في السنوات الأخيرة وأبرزتها وضخمت من حجمها، لكنها لا تعكس واقع مجتمعنا، فهذه عيّنات لا يمكن تعمميها على مجتمع بأكمله.
لذلك فلا غرو أن نجد بعض وسائل الإعلام المحلية تستضيف كل ما هبّ ودبّ تحت اسم “برامج حوارية” التي في الحقيقة تغيب عنها أخلاق الحوار وأصوله وشروطه، والتي ليس فيها الحوار المقنع المستند إلى الأدلة والحقائق، بل تطغى عليها الإثارة والفوضى والصراخ وأجواء الشحن التوتر، حيث تحولت هذه البرامج إلى منصات لتصفية حسابات حزبية معظمها على التنافس الانتخابي، لا سيّما ونحن على بُعد أشهر قليلة من انتخابات كنيست بات يطغى عليها صناعة أجواء الانحطاط الأخلاقي والمزيد من التشرذم والشقاق المجتمعي.
ختاما، فإنني أضم صوتي إلى (صرخة) الاستياء من أحد أبناء مجتمعنا في الداخل الفلسطيني التي ذكرتها آنفا، وكنت قد دوّنتُ قبل أيام قليلة على صفحتي الشخصية في الفيسبوك ما يتوافق تمامًا مع حالة الوعي الكبيرة السائدة في مجتمعنا ما يلي: إذا أردنا أن نضع الأمور في مكانها الطبيعي، فعلينا استبدال وصف “محلل سياسي” بـ “محلل انتخاباتي” لأكثر من يُسوق اليوم في وسائل الإعلام المحلية للحديث عن انتخابات الكنيست وتفاصيل معاركها التنافسية على مخزن الأصوات، فعلى الأغلب هذا الـ “محلل الانتخاباتي” يُحلل كما يُحب ويتمنى لطرف انتخابي ينتمي له فقط. والغريب أن هذه الأوصاف الكبيرة مثل “محلل سياسي” نجدها فقط بوسائل الإعلام المحلية ومعها الأبواق الإسرائيلية الناطقة بالعربية، بينما هؤلاء إذا حصل وجرى استضافتهم في وسائل الإعلام العبرية فإنهم لا يحصلون على أكثر من لقب ووصف “ناشط حزبي” أو “ناشط سياسي” او “ناشط إعلامي” بأحسن الأحوال.