معركة الوعي (124) وإن في التاريخ لعبرة ثم في كلّ مرة تنهض الأمة رغم الخيانات
حامد اغبارية
طرحت “غزوة “الرئيس الأمريكي بايدن لمنطقتنا، الأسبوع الماضي، العديد من التساؤلات حول أهداف الزيارة، وإلى جانبها الكثير من الغضب الذي عبر عنه أحرار الأمة بسبب سياسة سلاطين السوء التي رضيت – راضخة- بالخضوع والخنوع والمذلة والمهانة، إلى درجة أنها أصبحت من مسوّقي فكرة دمج ثمرة سفاح المشروع الصهيوني المعروفة باسم “المؤسسة الإسرائيلية” في المنطقة بعد أن نجحت سياسة واشنطن وربيبتها تل أبيب ومن لفّ لفّهما من الغرب الصليبي في حرف بوصلة الصراع وتشويه حقيقته من خلال تجييش الأنظمة العربية السُنيّة الفاسدة ضد إيران الشيعية.
وبعيدا عن الأسباب الحقيقية التي تقف خلف “الغزوة” الأمريكية الأخيرة للمنطقة، وفي مقدمتها إعادة ترتيب أوراق المنطقة لصالح تل أبيب، وتشكيل تحالفات جديدة تكون فيها تل أبيب شريكا مركزيا ضد “الخطر الإيراني”، إضافة إلى تأمين المصالح الاقتصادية الأمريكية وفي مقدمتها النفط العربي، فإن الحديث هنا سيكون عن مواقف الخيانة التي سجلتها صنائع سايكس- بيكو من أنظمة العار العربية، وعلى رأسها حظيرة آل سعود وزريبة آل نهيان وأولاد زايد ومعهما عسكر السيسي والحامية الشرقية للمشروع الصهيوني الأردن وسائر أدوات الاستعمار الصليبي الذي ما يزال يربض على صدورنا.
لن أتحدث عن خيانات تلك الأنظمة، فهي “أشهر من نار على علم”، ويمكن لأيّ منا أن يتابعها بالبثّ المباشر على مدار الساعة. لكن الحديث هو عن صفحات من الماضي تشكل نماذج للتّطبيع ولخيانات ملأت صفحات التاريخ؛ تاريخنا نحن.
نعم، تاريخنا في أغلبه مشرقٌ ومشرّفٌ، وفيه محطات لا تُحصى نفخر بها ونعتز ونتخذها نماذج لتغيير الواقع وبناء المستقبل. تماما مثلما هو حالنا اليوم. لكن هذا التاريخ لا يخلو من صفحات مظلمة تزاحمت فيها الخيانات بحيث أنها ربما تسبب صدمة للكثيرين من الذين يظنون أن التاريخ كلّه نور على نور. فالتاريخ الذي هو ثمرة السلوك البشري ليس كله مشرق ومثالي، بل فيه جوانب مظلمة، حريّ بنا أن نتعرف عليها حتى نتمكن من قراءة الواقع على جانبه الصحيح.
ذكر الحموي في كاتبه “المختصر في تاريخ الإسلام” أن الأمير الصليبي بلدوين الأول توجه سنة 1098 ميلادية إلى مدينة سُمَسْياط الواقعة في الأناضول غربي نهر الفرات لاحتلالها بعد أن احتلّ مدينة الرها، لكنّ حاكم سُمَسْياط السلجوقي عرض على بلدوين أن يدفع له عشرة آلاف دينار ذهبي مقابل تسليم المدينة دون قتال، وقد وافق بلدوين على العرض، ودخل المدينة مُحتلًّا وقبض الذهب.
وفي ذات السنة – كما ورد في كتاب “الكامل في التاريخ” لابن الأثير، وقعت أنطاكية بأيدي الصليبيين بعد حصار استمر تسعة أشهر، وذلك بسبب خيانة أحد الأرمن الذي تظاهر باعتناق الإسلام، وكان أحد حماة أبراج المدينة. لكنه خان الأمانة وفتح الطريق من البرج لدخول الصليبيين مقابل حفنة من المال.
ولعلّ من أشهر صفحات الخيانة تلك التي سوّدها شاور بن مجير الدين السعدي، الذي كان قد دخل في صراع مع وزراء الدولة العبيدية في مصر بعد وفاة خليفتهم المستنصر بالله الفاطمي سنة 1049 ميلادية. فقد خسر شاور معركة الوزارة أمام منافسه ضرغام اللخمي، فتوجه شاور إلى السلطان نور الدين محمود في دمشق طالبا منه العون ليعود إلى منصبه في الوزارة مقابل أن يدفع للسلطان ثلث دخل بلاد مصر، إضافة إلى تعهده بأن يعمل ضمن سياسة نور الدين. وقد ذكر المقريزي في كتابه “اتعاظ الحُنفا..” أن شاور هذا انقلب على نور الدين بعد أن تولى الوزارة وتحالف مع الصليبين الذين كادوا أن يحتلوا مصر لولا أن تدارك نور الدين الأمر وأرسل جيشا بقيادة أسد الدين شيركوه وابن أخيه الشاب صلاح الدين الأيوبي حيث تمكنا من تدمير ذلك التحالف الخياني بين شاور والصليبيين.
وإن من أكثر الصفحات عارًا ما ذكره ابن الأثير من أن هناك من سلّم القدس للصليبيين بعد أن كان صلاح الدين قد حررها منهم. ففي سنة 1229 ميلادية، وأثناء ما يعرف بالحملة الصليبية السادسة سلّم محمد الكامل، سلطان مصر، القدس لإمبراطور ألمانيا فريدريك الثاني مقابل أن يبسط الكامل سيطرته على منطقتي الخليل ونابلس. ويصف الحموي مشهد خروج المسلمين من القدس (المحررة بالدماء) في كتابه “مفرّج الكروب في أخبار بني أيوب”: “… بعث السلطان الكامل من ينادي في القدس بخروج المسلمين وتسليمها إلى الفرنجة. ولما نودي بخروج المسلمين وقع في أهل القدس الضجيج والبكاء وعظُم ذلك على المسلمين وحزنوا لخروج القدس من أيديهم وأنكروا على الكامل فعلته، إذ كان فتح هذا البلد الشريف واستنقاذه من الكفّار من أعظم مآثر عمّه الناصر صلاح الدين”.
وقد بقيت القدس تحت ظلم الصليبيين نحو عشر سنوات عاثوا فيها فسادا وإفسادا، حتى استردها السلطان الناصر داود، حاكم الكرك، سنة 1239 ميلادية، لكن داود هذا عاد وسلّمها للصليبيين انتقاما من ابن عمه الصالح أيوب سلطان مصر، في صراع على العرش.
ومن صفحات الخيانة الشهيرة صفحة مؤيد الدين بن العلقمي الذي غدر بالخليفة العباسي المستعصم بالله وتحالف مع التتار حتى سقطت حاضرة الخلافة بغداد في أيديهم سنة 1258 ميلادية. وتفاصيل ما فعله التتار في بغداد وأهلها معروفة للقاصي والداني.
وقد شهدت الأندلس صفحات من الخيانة سطرها المؤرخون. ومنها خيانة غالب بن عبد الرحمن الناصري، القائد العسكري الذي كان قد حقق الكثير من الانتصارات على الفرنجة. فقد دخل هذا في صراع على الحكم مع الحاجب منصور بن أبي عامر في عهد الخليفة الصبي المؤيد بالله بن المستنصر بالله (القرن العاشر الميلادي). وقد تحالف الناصري مع ملك ليون الفرنسي ضد بن أبي عامر، غير أن الأخير تمكن من هزيمتهم جميعا في معركة قُتل فيها ذلك الخائن الناصري..
وفي حقبة ما يعرف بـ “ملوك الطوائف” في الأندلس وأشهرهم المعتمد بن عباد، دان هؤلاء بالولاء لملوك الفرنجة حفاظا على عروشهم!! حتى أن ابن جزم الأندلس الذي شهد تلك الحقبة المؤلمة قال في “رسالة التلخيص” إنه “لو علموا (يقصد ملوك الطوائف) أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم (أي الحفاظ على عروشهم) لبادروا إليها. فنحن نراهم يستمدّون النصارى فيمكّنونهم من حُرُم المسلمين وأبنائهم ورجالهم يحملونهم أسرى إلى بلادهم. وربما أعطوْهم المدن والقلاع فأخلوْها من المسلمين وعمّروها بالنّواقيس…”. وقد ذكر ابن حزم أن ألفونسو السادس تمكن من قلاع الأندلس بالخيانة، حتى أن بعض الأمراء انضم إلى جيشه وقاتل ضد المسلمين، ومنهم المأمون ملك طليطلة، وحفيده القادر، الذي سلّم الحصون تلو الحصون كما سلم طليطلة عاصمة ملكه، ثم قدم المساعدة العسكرية لأنفونسو ليحتل مدينة بلنسيا.
ونجد ما يشبه هذا في زماننا من تشكيل ما يسمى “الديانة الإبراهيمية” التي اتبعتها أنظمة عار عربية، كما شهدنا خيانات أنظمة مدّت أعداء الأمة وعلى رأسها أمريكا بالعسكر وقاتلت إلى جانبهم ضد العراق على سبيل المثال عام 1991 في الحملة الصليبية الثلاثينية المعروفة باسم “عاصفة الصحراء”، ثم في حرب أمريكا وحلفائها في 2003 ضد العراق، وقبلها حربها ضد أفغانستان.
وإن من أشد صفحات الخيانة دخول بعض الخونة من أمراء الطوائف في النصرانية، أمثال أبي محمد بن يعقوب الموحّدي الشهير بالبيّاسي، الذي سلّم الكثير من الحصون والمدن لفرناندو الثالث ملك قشتالة، وقاتل معه وسفك دماء أبناء دينه من المسلمين، قبل أن يتنصّر وقد باع آخرته بعرض من الدنيا. ومثله فعل أخوه أبو زيد الموحدي الذي التحق بملك برشلونة واعتنق النصرانية. ولعلّ في قصة سقوط غرناطة، آخر معاقل المسلمين في الأندلس، ما يكفي من الحديث عن الخيانات، في ذلك الصراع الذي استحكم بين أبي عبد الله الصغير وعمه محمد بن سعد. فقد تحالف كلاهما مع إيزابيلا وفرناندو كي يتمكن من حكم غرناطة بالخيانة، لكن غرناطة انقسمت بينهما، وأصبح لكل منهما “دولة” تستمد لعون من أعداء الله، فكانت هذه فرصة لفرناندو وإيزابيلا لتسقط غرناطة تحت الحكم الصليبي… وكانت خاتمة هذه الخيانات خروج المسلمين من الأندلس بعد أن لاقوْا ما لاقوه من سفك لدمائهم وهتك لأعراضهم وإجبارهم على التنصر مما تقشعر له الأبدان.
كانت هذه فقط صفحات قليلة من صفحات الخيانة التي سطرتها سجلات التاريخ، ذلك لكي نعلم أن ما نعاينه ليوم من خيانات إنما هو استمرار لتاريخ طويل تسلسلت فيه تفاصيل الخيانة بما لا يصدقه عقل.
ورغم كل ذلك فإن محطات الخيانة التي أضعفت الأمة ودفعتها إلى التقهقر لم تفتّ من عضد شرفائها، الذين هيأ الله تعالى الكثيرين منهم كي ينهضوا بها من جديد. هذا حصل فيما مضى، وهو حاصل في زماننا اليوم وغدا بإذن الله تعالى. فقد علِمنا وعلّمنا التاريخ أن الخيانة لا يطول زمانها، وأن ارتفاع رايتها في زمن ما إنما هو إشارة تُنبّه إلى أن الأمة تقترب من الفرج. فكلّما اشتدت الظلمات وتراكمت الخيانات ورفع الباطل رأسه، واستعرض الأعداء عضلاتهم، وتطاول الأقزام على العظماء، فإن فجر الأمة قريب وفرَجُها أقرب. وكما نهضت الأمة في كل مرة، فإنها ستنهض هذه المرة أيضا رغم حجم الخيانات.