هنا مدرسة هاجر
ليلى غليون
انتهت أيام العيد والحج والتي نسأل الله تعالى أن يعيدها علينا وأمتنا جمعاء ترفل بثياب العز والتمكين والنصر، نعم انتهت أيام العيد والحج، ولكن معانيها وذكرياتها المباركة لا تنتهي على مر الزمان، نستخلص منها العبر والحكم والدروس، والعاقل بل الفائز من يتعظ.
وإن كانت شعائر الحج جميعها جامعة في الدروس والعبر والتي لا يمكن حصرها في هذه العجالة، إلا أنني سأسلط الضوء على ذاك الموقف العظيم بالذات الذي هو بحد ذاته مدرسة لكل امرأة تنشد السعادة الدنيوية والأخروية، ومن تلك التي لا تنشدها؟!
فهناك، في تلك الصحراء القاحلة والمكان المهجور الموحش، يتركها زوجها حيث لا ماء ولا زرع، ولا صاحب ولا أنيس ولا أي مظهر من مظاهر الحياة، ولا أي وسيلة للاتصال والتواصل، تلفها الغربة والوحدة والوحشة من كل صوب، لسان الحال في هذا الموقف المريب يقول:
تناءت ديار قد ألفتُ وجيــــــرة فهل لي إلى عهد الوصال إياب
وفارقت أوطاني ولم أبلغ المنى ودون مرادي أبحر وسحاب
وبالقلب من نار التشوق حرقة وبالعين من فيض الدموع عباب
ولكنها تماسكت وتمسكت بأهدابه قائلة: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. فشعت من عينيها ومضات السكينة وبريق الاطمئنان لتقول بكل ثقة واستسلام خاشع: إذن لن يضيعنا. إنها امرأة جبلت على صبغة النساء، ولكنها ليست ككل النساء، وقفت كالجبل الشامخ في حسن توكلها على الله تعالى ويقينها بصدق وعد الله عز وجل، وحسن تبعلها لزوجها، خرجت مهاجرة إلى الله مع زوج وفلذة كبد، لتتعرض للامتحان الأول وتنجح فيه بامتياز، حيث يتركها الزوج ويمضي بأمر من الله في واد غير ذي زرع، فتستجيب طاعة لله بقلب ملأه اليقين والخوف منه تعالى والتوكل عليه، ذاك الخوف وذاك التوكل الذي هزم وقهر كل المخاوف الدنيوية وداس عليها تحت الأقدام. إنها السيدة هاجر أم إسماعيل وزوج سيدنا إبراهيم عليهم الصلاة السلام.
لم يكن للضعف الأنثوي مكان أمام هذا الصرح الإيماني العظيم، إذ كيف لامرأة أن تقبل أو تتقبل مثل هذا القرار الصعب لولا ذاك النهر المتدفق من الإيمان الذي يفيض في غرفات قلبها والذي أمدها بقوة هزمت كل شك وكل تردد وكل شعور إلا بمعية الله جل جلاله؟!
(آلله أمرك بهذا ) عبارة مزقت ستائر الوحدة والوحشة وما ينتظرها من صعاب، فما دام الأمر أمر الله تعالى فلا جدال ولا نقاش، ولا بكاء ولا صراخ، ولا إلى أين تذهب وتتركنا أنا وابنك الصغير بهذا الوادي المرعب، ولا أين قلبك أو كيف سمحت لنفسك، ولا قضايا أسرية ولا محاكم ولا (طوشة) وخلاف وعنف بين الزوجين وعائلتيهما، وأكاد أجزم أن هذا الموقف لو حدث في أيامنا لعجت وسائل التواصل الاجتماعي بالخوض فيه، ولعجت المحاكم بهذا الملف وضجت، وأصبحت هذه القضية على ألسنة الناس يشرقون بها ويغربون وفي كل الاتجاهات.
ولكنها السيدة هاجر أم الذبيح تعلن على مر الدهور والعصور، أن المؤمن موقف وليس بالتشدق والكلام، وبالمواقف تُمتحن وتُعرف النفوس، تعلم النساء كيف يكون اليقين الراسخ بالله، كيف يكون التكيف والمسؤولية مع الظروف الطارئة، كيف تكون طاعة الزوج بلا معصية، كيف يكون الصبر على شظف العيش وغياب المعيل، كيف تكون تربية الأبناء على أصولها، والتي تجسدت في شخص سيدنا إسماعيل عليه السلام الذي ما تردد وما تلعثم ولم يفكر مرتين، حين علم أن الله تعالى يأمر أباه بذبحه، ليقف ذات الموقف الذي وقفته والدته هاجر حين تركها زوجها في تلك الصحراء، وكيف لا، أليس هو تربية أمه؟! أليس هذا الغصن الأخضر من تلك الشجرة المباركة؟! ليكون جوابه: “يا أبت افعل ما تؤمر”.
أيتها السيدة العظيمة، يتركك زوجك وابنك وحيدين في قفار موحشة وتصبرين، وها أنت تتعرضين للامتحان الثاني وتنجحين بامتياز أكبر حين هم زوجك بذبح وحيدك فتصبرين، لم تقولي له تركتني وابنك وسط المخاطر نعارك الأهوال وحدنا، لم تقولي له أنا التي تعبت حتى أصبح ابنك رجلًا، وها أنت بكل بساطة تسوقه كالخراف لذبحه، بل كان الحكم الفصل عندك قول الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا). فيا لهذا المرتقى السامق وما أعظمك أيتها السيدة.
فيا سيدة المهاجرات، لو تعلمين ما آلت إليه أحوالنا وما وصلت إليه العديد من نسائنا وهن مسلمات على ملة زوجك إبراهيم عليه السلام، كيف يجعلن من أبنائهن ورقة ضغط على أزواجهن عند نشوب المشاكل الزوجية حتى أن البعض منهن لا يترددن برفع قضايا إلى المحاكم المدنية لمنعهم من رؤيتهم.
لو تعلمين أن من نسائنا من وصل بها الأمر لهتك الأسرار الزوجية رافعة قضية إلى المحكمة المدنية متهمة زوجها بالاعتداء عليها إن هو باشرها من غير رضاها.
لو تعلمين أيتها الفاضلة أن كلمة (طلقني) أصبحت أول كلمة على ألسنة العديد منهن عند نشوب أبسط مشكلة مع أزواجهن. جاهلات أو متجاهلات قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة سألت زوجها طلاقًا من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة).
لو تعلمين أيتها الفاضلة، أن منهن من تخيّر زوجها بينها وبين أهله خاصة أمه وأخواته قائلة له: (إما أنا أو أمك).
لو تعلمين أيتها الفاضلة أن منهن من أغرقت زوجها بالديون والأقساط الربوية بسبب استهلاكها الجنوني ومطالبها التي لا تنتهي، بل هناك من أوصلته السجن لعجزه عن سداد الديون.
لو تعلمين أيتها المربية الفاضلة ويا صانعة الرجال، أي مستوى وأي هبوط وصل إليه العديد من الأبناء لقلت: من أي لبن رضع هؤلاء؟ وأي تربية تربى هؤلاء؟ وأي الأمهات والآباء أنتج هؤلاء؟! فالعقوق فيهم مستفحل، والعنف لغتهم الدارجة، يغتالون حاضرهم ويحرقون مستقبلهم، وأوقاتهم ضائعة على ما سفه وما تفه.
فيا أم الذبيح، أي النساء أنت؟ وأي زوجة أنت؟ وأي أم أنت؟ إنك حقًا مدرسة لكل امرأة وكل زوجة وكل أم ترجو السعادة ورضوان الله وجنته، وقبل أن أسدل الستار أدعو كل زوجة وكل أم بل كل امرأة للالتحاق بمدرسة هاجر والسير على خطاها لعل وعسى أن نساهم في تحقيق التغيير المنشود لنا ولأبنائنا ولأسرنا ولمجمعاتنا.