حول ادّعاء فهم وقراءة المشهد السياسي الإسرائيلي
ساهر غزاوي
لعل ما وصفه الكاتب الإسرائيلي جدعون ليفي في مقال له نشر في “هآرتس” قبل سنوات بعنوان (يسار أو صهيونية)، هو أقرب وصف للواقع السياسي غير المستقر الذي تشهده الساحة الإسرائيلية منذ سنوات ليست قصيرة. فقد كتب: “لقد وصلنا إلى نقطة اللاعودة واجتزناها.. ومن نقطة اللاعودة هذه لا يوجد طريق للعودة”، غير أن المؤسسة الإسرائيلية التي تعيش فترة يشوبها عدم الاستقرار السياسي ليست فقط انعكاسًا لحل الحكومة الإسرائيلية قبل أيام والذهاب إلى انتخابات خامسة منذ العام 2019، التي برزت فيها جليا أزمة النظام السياسي وأزمة الصراعات الداخلية المتعمّقة في إسرائيل، إنما نستطيع القول إن حالة اللااستقرار السياسي بدأت ملامحها منذ أكثر من 30 عامًا وتحديدًا منذ العام 1988، فمنذ ذاك الحين لغاية اليوم ولم تكمل حكومة إسرائيلية مدتها القانونية البالغة أربع سنوات نتيجة الصراعات المحتدمة في الساحة السياسية الإسرائيلية.
وعندما نتحدث عن العام 1988، فإنه لا يمكننا إلا أن نشير بوضوح إلى أن الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي انطلقت في نهاية العام 1987 وتطورت في وقت لاحق، كانت من أهم العوامل التي ساهمت بشكل كبير بزعزعة حالة الاستقرار السياسي الإسرائيلي نتيجة القلق من تأثير الانتفاضة على عدم الاستقرار الأمني وبسبب كسر نظرية الأمن الإسرائيلية والتي توضح أن “إسرائيل الملاذ الآمن”، حيث ظلت إسرائيل منذ إنشائها في العام 1948 ملاذًا آمنا للإسرائيليين حتى اندلاع الانتفاضة الأولى- أي أنها نعِمت بالاستقرار الأمني والسياسي مدة 40 سنة فقط-.
إن كسر هذه النظرية أدّى أيضًا إلى اهتزاز مفهوم “جيش إسرائيل الذي لا يقهر”، هذا المفهوم الذي كان مستقرًا وراسخًا في العقل والوجدان الإسرائيلي. هذه العوامل وغيرها مثل الاتهامات بالرشاوى والاختلاس ومخالفات أخلاقية التي وُجّهت في العقود الأخيرة، إلى قيادات إسرائيلية من بينهم رئيس الدولة ورئيس الحكومة ووزراء، كلّها أدت إلى تعميق الأزمة السياسية وحالة اللااستقرار السياسي وانعكاساتها على الحالة الأمنية والاقتصادية والاجتماعية وصلت إلى نقطة اللاعودة، كما وصفها جدعون ليفي الذي يبدو أنه فقد الأمل والرؤية المستقبلية بقوله أيضًا: “هناك حاجة لشجاعة كبيرة واستقامة من أجل الاعتراف بأن الصهيونية أنهت طريقها”.
وفي سياق المشهد السياسي الإسرائيلي وحالة اللااستقرار التي وصلت إلى نقطة اللاعودة، فإن الأحزاب العربية التي اختارت المشاركة في الكنيست الإسرائيلي هي أكثر من يدّعي أنها تجيد قراءة المشهد السياسي الإسرائيلي وهي أكثر من يدّعي أنها تجيد المناورة السياسية في الكنيست لخدمة المجتمع العربي وتحصيل حقوقه، وذلك بالرغم من فشل وإفشال “الإنجاز والتأثير” ولعب دور مؤثر في الحياة السياسية الإسرائيلية التي من شأنها أن تصب ولو قليلًا في صالح قضايا مسيرة شعبنا الفلسطيني أو حتى تخدم مجتمعنا في الداخل، إن كان ذلك من خلال القوة العددية العربية في الكنيست التي وصلت ذروتها إلى 15 عضوًا تحت اسم (القائمة المشتركة)، أو من خلال ادعاء “التأثير من الداخل” كما فعلت (القائمة الموحدة) وشاركت في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي برئاسة نفتالي بينت وكانت شريكة في القرار السياسي وتأثيراته على مسيرة شعبنا الفلسطيني وقضاياه العادلة شاءت بذلك “الموحدة” أم أبت.
جدير بالذكر، أنّه في العام الأخير- فترة حكم حكومة الائتلاف الحكومي الإسرائيلي- كلما ولينا وجوهنا يمينا ويسارًا فإننا كنا نسمع من وسائل الإعلام الإسرائيلية، خاصّة الناطقة بالعربية، ووسائل إعلام عربية محلية ونسمع أيضًا تصريحات لشخصيات سياسية وأخرى أكاديمية وحتى من شخصيات من عامة الناس- بغض النظر عن مدى الإدراك والوعي السياسي لديهم- كنا نسمع عبارات تكيل الثناء والمدح لنهج (القائمة الموحدة) وتثني بالأخص على رئيسها د. منصور عباس الذي “فهم المشهد السياسي جيدا” و “عرف يلعبها صح” و “رجلُ المرحلة” كتعبير منهم عن التأييد والتسويق للانخراط الكامل باللعبة السياسية الإسرائيلية كطريق قصير وناجع ومضمون لرفع الظلم وتحقيق تقدم نحو المساواة المدنية في دولة اليهود، بحسب تسويقهم، غير أن صفعة نفتالي بينيت رئيس حكومة الائتلاف التي كان منصور عباس رئيس “القائمة الموحدة” أحد أذرعها وأقطابها لم تتأخر كثيرًا بعد حل الحكومة الإسرائيلية والذهاب إلى انتخابات جديدة ليقول بينيت إن “منصور عباس أثبت أنه ليس من المفضل الاعتماد عليه” رغم أن قائمة عباس قدمت الكثير من التنازلات ولم تحصل ولو على القليل وتحقق أي إنجاز للجماهير العربية في الداخل!!
والأدهى والأمر أن منصور عباس عاد إلينا مجددًا ليسوق برنامجه الانتخابي بضرورة مضاعفة قوة “الموّحدة” العددية (بحاجة لعشرة أعضاء حتى نستطيع التأثير وتحقيق الإنجازات) في الكنيست حتى يبقى على صلة بسؤال “الإنجاز والتأثير”.. فهل فهم منصور عباس للمشهد السياسي الإسرائيلي غير المستقر والذي لا يمكن الاعتماد عليه يدعوه للاستمرار من أجل تحقيق “الإنجازات” وتحصيل الحقوق المطلبية وغيرها رغم وضعية الكنيست الثابتة التي تفشل وتحبط أي جهد لعربي والتي لا تقبل أن يكون له أي دور مؤثر، وحتى المطالب المدنية والحقوق الفردية التي سخرت الأحزاب العربية جلّ اهتماماتها عبر خطابها الخدماتي لتسويقها في السنوات الأخيرة، فإنها لا تُمنح إلا وفق أجندة صهيونية الدولة وتحت سقف شروطها حتى تبقى هذه الأحزاب تصارع على الفرع بدلاً من الأصل. أم أن فهم منصور عباس الجيد للمشهد السياسي يدفعه للمضي في نهجه من أجل التعايش والتعاون السياسي العربي- اليهودي كهدف في حد ذاته وليس أداة؟؟، كما صرّح هو بنفسه في مقابلة له مع صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”.