الفـــاشـــية الدينـــية الصـــهيونية.. إذ تتغلغل في المجتمع الاستعماري
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
لا ينتطح عنزان في أنّ إسرائيل سقطت سقوطًا أخلاقيًا مريعًا، وقد تجلّى ذلك في أحداث قتل الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، وما تبع ذلك من أعمال منافية للأخلاق في التحرش بجنازتها وبجموع المشيعين، هذا فضلًا عن استغلالهم الشنيع والبغيض لحادثة القتل وقيامهم بسلسلة من جرائم القتل في الضفة الغربية ومخيم جنين، وما فعلوه ليلة الثلاثاء، أثناء تشييع جثمان شهيد الأقصى وليد الشريف من اعتداء على المشيعين أثناء جنازته ودفنه .
ما كان للمحتل الإسرائيلي أن يفعل ذلك لو أنّه آمن أنّ الذي يقابله هو إنسان، لكن المؤسسة الإسرائيلية ومن يعملون فيها لا يرون بالفلسطينيين بشرًا، بل أعداء يجب إبادتهم وقتلهم، وهذا المُعطى في حقيقته بيان لجوهر العقلية الصهيونية العلمانية، سواء كانت عمالية أو محافظة، كذلك فإنّ العقلية الصهيونية الدينية والصهيونية بكل مركباتها الدينية الفاشية التي باتت تتجلى بحزب “عوتسما يهوديت” ممثل الكهانية، وكتلة الصهيونية الدينية ممثلة بالتيار الديني الصهيوني كلهم يتكئون في سلوكهم على معتقدات دينية ثاوية في النصوص التوراتية والتلمودية وما كتبه الحكماء.
ثلاث منظومات: الكولونيالية، القومية، اليهودية-الديموقراطية
قامت إسرائيل على ثلاث منظومات أسست عمليًا لهذه اللحظة التي تطل فيها الفاشية الدينية برأسها وبقوة في الحيوات السياسية الإسرائيلية، المنظومة الكولونيالية الموروثة من الاستعمارين الفرنسي والإنجليزي، والمنظومة القومية التي عامودها الفقري اليهودية دينًا وقوميةً (يهودية الدولة)، والمنظومة الإثنية-الديموقراطية، بغضّ النظر عن الأولوية في البناء المدني والأيديولوجي.
الكولونيالية الصهيونية، هي التجلي الأوضح لمديات العلاقة بين الصهيونية كحركة استعمارية والاستعمار الأوروبي. لقد شكّلت المنظومة الكولونيالية منذ اللحظة الأولى لقيام الحركة الصهيونية واستعمارها أرضًا ليست لهم، وتمّ استقدام حكايات تلمودية وتوراتية لتحقيق العلاقة المزعومة وأدلجة هذا الزعم، لتبرير سياسات القتل والدمار والتشريد، التي لا تزال تُمارس حتى هذه اللحظات، وقد تطلبت هذه العملية، إحداث سياسات وتفسيرات وارتكاب مجازر وتدمير قرى ومدن وطرد للسكان، رافق ذلك، بناء صهيوني على تلكم الأرض المصادرة التي تمّ ” تحليلها- جعلها حلالًا، كشير” من خلال الديباجات الدينية والأساطير المبثوثة في صحائف العهد القديم وأقوال الحكماء (חז”ל- حزال) وبفضل العقل الكولونيالي، قامت إسرائيل واستمرت في الوجود.
وهو نفس العقل الذي بنى المخيال الهوياتي ًالإسرائيلي على أسس من قيم الديانة اليهودية وتاريخها، وإبقائه حاضرًا على أساس من منطق عملياتي استعماري، محمي دوليًا، ومؤخرًا عربيًا، بفضل اختراقات التطبيع والعلاقات السرية التي راكمتها أجهزة الأمن في المنطقة مع أجهزة الأمن الإسرائيلية، مستهدفة السكان الفلسطينيين أصحاب الأرض والبلاد، قتلًا وتشريدًا وسرقةً للأرض وتنغيصًا لعيش من تبقى منهم، وتوظيف من يمكن توظيفه في خدمة المشروع الصهيوني، سواء في بناء المدن والمستعمرات أو المرافق الأمنية والشرطية وتبعاتها (العمل في الشرطة وحرس الحدود والسجون والقضاء…) أو في سدّ الثّغرات المتعلقة بتطور المجتمع الإسرائيلي في سياقاته ما بعد حداثية (ما بعد الحداثة إسرائيليًا، كما يراها كاتب هذه السطور تراكمت عبر عقود خلت بدأت عمليًا مع احتلال ما تبقى من فلسطين عام 1967 واستعمارها عبر أدوات دينية صرفة، خلقت مفهومًا وظيفيًا زمانيًا، ربط بين نوع جديد من الحياة و الاجتماعية ونظام اقتصادي جديد، وكلاهما رافقا اسرائيليًا تحولات اجتماعية وثقافية، تراكمت في هذا المجتمع، تجلت بعض منافذها في ظواهر، منها على سبيل المثال لا الحصر: مماهاة الرأسمالية الليبرالية المتوحشة “الريغينية” التي دفعت لانفتاح كبير نقل ذؤابة المجتمع الكولونيالي إلى عوالم وظيفية جدية وجديدة، حلّ مكانها عمالة “عربية وأجنبية- الجوي” كالعمل في المستشفيات والتمريض والصيدلة، مقابل توجهاتهم لعالم السايبر وأدواته وثورة الجينيوم)، وهذا الطابع الكولونيالي غرس عميقًا في التيار الديني الصهيوني المتجلي راهنًا في أفعاله الاستعمارية، المؤسسة دينيًا في الأراضي المحتلة عام 1967 شكّل الأرضية العملياتية للفاشية الدينية التي بتنا نعيشها اليوم ممارسةً وتنظيرًا.
القومية اليهودية، هي واحدة من إبداعات الحركة الصهيونية التي أحالت الدين إلى حالة قومية، ثمّ تخلقت هوية يهودية عبر توليفات وديباجات عمل على تأسيسها وروايتها علماء ومؤرخون وعلماء اجتماع وفلاسفة، مشيرة إلى أنّ الشعب اليهودي موجود منذ أن تنزّلت التوراة على موسى عليه السلام وهذه الحقيقة التاريخية والدينية تشكل بديهية لا يمكن تجاوزها إلى غيرها في معنى الهوية القومية اليهودية وجذورها، ومن أجل تعميق وتذويت هذا المعنى أقيم في الجامعات الإسرائيلية قسم تاريخ شعب إسرائيل “تولدوت عام يسرائيل”، وعمليًا تخلقت عبر عقودٍ من الزمن محاججات ونقاشات حول هذا الموضوع، أدّى إلى ظهور حالة من الشعبوية القومية مع بداية عصر نتنياهو الثاني (عام 2013) وبروز تأثره من والده المؤرخ للتاريخ الصهيوني واليهودي، انتهت بنا راهنًا إلى ظهور المزيج الشعبوي القومي-الديني-المسياني، والذي يعتبر الأرضية الخصبة والظهير الحي لما أُسميته الفاشية الدينية.
والفاشية الدينية الصهيو-يهودية تعتبر كالفاشية عمومًا بالسطوة (هم شعب الله المختار) وبالحرب (يملكون حِراب يشعيا) والسطوة (يعتبرون أنفسهم أقوى الأمم والدول) وبهذه المعادلة القائمة على انهم شعب الله المختار وما عداهم من الخلق لا شيء، وبارتباط المؤسسة الصهيونية التي أقامت إسرائيل أيديولوجيًا بالفكر النتشوي المبني على الفوقية وطهارة العرق، صار من حق من يعتقد بمثل هذا المعتقد أن يتمدد سياسيًا وجغرافيًا وإزاحة من يقف في وجههم.
وفي الحالة الفلسطينية تصبح مسألة الخلاص من الفلسطيني مسألة عادلة وبالتالي تتمظهر هذه الفاشية سياسيًا ودينيًا، وتنتقل من مرحلة العمل بالخفاء والتستر على تلكم الأفكار، إلى الإعلان عنها وتأييدها، لنصل إلى هذه اللحظة من الانحطاط السياسي المقرون ببروز هذه المجموعات الفاشية الدينية، التي باتت تعتبر نفسها حامية الأسوار، ولذلك نرى هذه الفاشية تتمدد في المجتمع الإسرائيلي، مدعومة من المعارضة السياسية لتحقيق غايات سياسية ضيقة تكون تداعياتها هائلة على المجتمع الآخر: الفلسطيني، ومن ثمّ فقد رأينا على سبيل المثال لا الحصر، كيف تحمي الشرطة الإسرائيلية هؤلاء الغلاة في جامعة تل ابيب الثلاثاء، وهم يرفعون العلم الإسرائيلي أمام سكن الطلاب العرب، وبأنهم جاءوا ليقتلوهم والشرطة تتذرع بأنّ هذا من حرية التعبير عن الرأي، فيما شاهدنا كيف قمعوا مظاهرات الطلاب العرب في نفس الجامعة الأحد الماضي، وبذلك تتضح الصورة ليس كسياق عنصري فهذا مفهوم ضمنًا، بل بسياق الفاشية التي يبدو لي مع إعلان الحكومة عن تأسيس الحرس الوطني الذي هو أشبه بمليشيات الحشد الشعبي “العراقي” ستكون الأوضاع أصعب بكثير، إذ سيتم مواجهة المظاهرات ليس بالهراوات، بل بالبندقية والقتل والسحل.
المنظومة الثالثة، القائمة على الإثنية القومية اليهودية – الديموقراطية، فإسرائيل تُعرّف نفسها على أنها دولة يهودية وديموقراطية، ولطالما خلق هذا المزج إشكالًا بين الصهيونية كحركة قومية علمانية تعمل على تحقيق المصير لليهود، وبين اليهودية كدين، وتحديدًا بناءً على النمط الديني المتشدد “الحاريدي” وواضح أنّ اليهودية كدين وكقومية، والديموقراطية كنظام سياسي، خدمت وتخدم الأغلبية اليهودية، وعمّقت الشروخ بين الأغلبية والأقلية من جهة، ومنحت الأغلبية حمايات لا حدّ لها وصلت إلى ظهور حالة من الشعبوية السياسية والاجتماعية، تعمل على السيطرة شبه الكاملة على مرافق الحياة، تمهيدًا لفرض السلوك الديني على الشأنين العام والخاص، ولذلك صرّح- على سبيل المثال لا الحصر- مدير حزب “عوتسما يهوديت”، بأنّ مهمة الحزب القادمة، هي البتّ فيمن هو يهودي. هذا من جانب، ومن جانب آخر، تكون الديموقراطية الليبرالية مخصصة لليهود فيما يتقبل العرب الفتات، وفي هذا السياق يرى كاتب هذه السطور أنّ إسرائيل الدولة والمجتمع والمؤسسات، تتجه نحو تبنٍ مباشر لنظريات الجمهوريين الأمريكيين.
محاولات توفيق بائسة
عمليًا، تاريخ إسرائيل هو محاولات لا تتوقف للتوفيق بين هذه المنظومات المتناقضة، والذي يدفع ثمنها منذ قيام إسرائيل والى هذه اللحظات هو الشعب الفلسطيني.
في عقدها الثامن، باتت إسرائيل تواجه فاشية دينية تخلقت وتمولت من خزينة الدولة ونمت وترعرعت تحت عينها وبصرها، وهذه الفاشية الدينية عمليًا هي بيان سياسي وأخلاقي لسلوكيات السياسة الإسرائيلية بشقيها العمالي ومن ثم الليكودي، واحتضان الأخير اليمين الديني ورعايته لتحقيق كسوبات سياسية، تداخلت مع توسع رقعة الحزب بين الشرقيين والمستوطنين، ولذلك تعززت في العشريات الأخيرة من عمر هذه الدولة في اليمين العلماني والديني، توجهات غير ديموقراطية ورافضة لقيم الليبرالية التي قامت عليها الديموقراطية الإسرائيلية في سياق تعريفها لذاتها اليهودية، وهو ما منحها قدرة نفي الآخر العربي، وامتهانه وفرض سلة من القوانين والإجراءات العنصرية عليه.
في عام 2016 كشف استطلاع للرأي أنّ 48% من المجتمع الإسرائيلي (21% يؤيدون بقوة و27% يوافقون من حيث المبدأ) على طرد السكان العرب من الدولة، وقد تسيدت هذه الرؤية المشهد السياسي الإسرائيلي وتغلغلت فيه، ولم تعد هذه الرؤية نحلة حركة “موليدت” التي أسسها رحبعام زئيفي وتبنتها من بعد حركة كاخ، بل يتبنى هذه الفكرة راهنًا، يهود متدينون من مختلف المشارب وعلمانيون. تسربت الكهانية منذ العقد الثامن من القرن الفائت إلى المنظومات الثلاث واستحالت واقعًا سياسيًا معاشًا، يعمل على التغلغل للوصول إلى سدّة صناعة القرار السياسي، وهو ما سيتحقق كما يبدو وإسرائيل تقارب دخول عقدها الثامن.