الأزمة الأوكرانية إذ تؤذنُ بتغيير النظام الدولي…
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
كل دارس للعلاقات الدولية يعلم أن المانيا كانت سببًا مُباشرًا في تغيير النظام الدولي وانتهاء عصر الامبراطوريات وميلاد التحالفات الكونية، وما دار في فلكها، والحرب الباردة، وأخيرا الأمم المتحدة والنظام الدولي، وما انبثق عنه من مؤسسات دولية، وحصار لكل من اليابان وألمانيا، ودفعهما إلى الحضن الغربي، بل والوصاية الغربية الامريكية، جعلت الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا تتحكم في العالم أجمع. وكان انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 آذانا بانتهاء الحقبة الباردة والثنائية القطبية وظهور القطب الواحد ونظريات صراع الحضارات وانتهاء التاريخ، الصادرتان من المدرسة الامريكية.
طبول الحرب الروسية تقرع أبواب العواصم الأوروبية..
عبثا حاولت الدول الأوروبية منع الاحتلال الروسي لأوكرانيا، وبدا أنّ كل أوروبا متحدة وفرادى تترجى بوتين بعدم غزو كييف، لكن دون جدوى ولم يدر في خُلد أحد من السياسيين ولا المحللين ومنظري العلاقات الدولية أنّ ألمانيا ستستثمر أول حرب كبيرة تندلع في أوروبا منذ عام 1945 لتتصدر المشهد الأوروبي سياسيا وعسكريا، خارجة عن البروتوكول المعمول به أوروبيا-أمريكيا اتجاه تسلح ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية. صحيحٌ أن القارة شهدت حروبا فيما بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها كانت تُموضَعُ في سياقات الحروب الاهلية أو الداخلية على غرار استقلال كرواتيا (1991- 1995) والبوسنة (1992- 1995)، ثمّ كوسوفو (1999)، لكن الحرب الروسية على أوكرانيا تعدّ أول حرب أوروبية، منذ 75 عاما، تقوم فيها دولة بغزو أخرى، وتسعى إلى احتلالها وتغيير نظامها.
لقد وصلت طبول الحرب الروسية بوابات العواصم الأوروبية ووجدت ألمانيا الدولة الرئيس حاليا للاتحاد الأوروبي فرصتها التاريخية في العودة مجددا إلى المسرح الدولي، فكان أن أعلنت رئيسة الاتحاد الألمانية أورسولا فون ديرلاين عن سلسلة من القرارات، وهي الدولة التي تحتاج إلى الغاز الروسي لتحريك عجلة اقتصادها، وهي الدولة التي ستستفيد لاحقا من الهجرة الجماعية عبر اختيارها اعيان المهاجرين من أصحاب الاختصاص ممن سيصبون لاحقا في عجلة الاحيائية الألمانية بكل معانيها البشرية واللوجستية والعلمية، سعيا لتتصدر العالم ثانية على غرار ما فعلت أمريكا في القرن الثامن عشر والتاسع عشر من فتح أبوابها للمهاجرين لينخرطوا فيها دفعا وكسبا، فألمانيا على سبيل المثال لا الحصر، استفادت من احتلال العراق وأزمتها كما السورية في استيعاب ما أسميتهم الأعيان.
في الحالة الأوكرانية، سيتكرر نفس المشهد مع فارق بسيط، أنّ ألمانيا قد اتخذت من الاتحاد الأوروبي الذي كان لها الدور الأساس في ترسيخه ودعمه وضم دول أوروبا الشرقية إليه ليشمل تقريبا القارة العجوز، متّكأً لتمرير سياساتها على مسمع وبصر الكبار الأربعة في العالم، الولايات المتحدة والصين وروسيا وبريطانيا، فألمانيا تعتبر الدولة الرابعة عالميا في حصتها في الاقتصاد العالمي بعد الولايات المتحدة 24،7% والصين 17،7% واليابان 6% تليها المانيا 4،5% فيما روسيا في المرتبة الحادية عشرة بنسبة 1،7% عالميا.
اتخذت المسؤولة الألمانية قرارها بعد عودتها للمسؤولين، بأن تمدّ كييف بالسلاح والعتاد وفتح الأجواء الأوروبية للمتطوعين المتطرفين من القوميين- وهو ما تعج به المانيا- فضلًا عن فرضها عقوبات اقتصادية ومالية على موسكو ستمس عصب الحركة المالية الروسية فورا، وهو ما سيكون له تداعيات مستقبلية على العلاقات الروسية- الألمانية، خاصة وأنّ لألمانيا دور كبير في الانقلاب على حليف روسيا في أوكرانيا عام 2014 وهو ما شكّل آنذاك سببا لاحتلال القرم وضمه لاحقا الى الاتحاد الروسي. لكن التغيير الأكثر أهمية الذي تسبّبت به الأزمة الأوكرانية يبقى قرار ألمانيا إعادة التسلح، إذ أعلن المستشار الألماني، أولاف شولتز، أمام البرلمان (البوندستاغ) يوم 27 الشهر الماضي (فبراير/ شباط) عن تخصيص مائة مليار يورو لتسليح الجيش الألماني (البوندسفير)، ورفع مستوى الإنفاق العسكري إلى 2% من الناتج الإجمالي القومي لألمانيا البالغ 4.2 تريليونات دولار، وقد كانت حكومة أوباما قد طلبت من بون أن تتحمل ما نسبته 2% من ميزانيتها للعسكرة والتسلح حتى تتحرر واشنطن من أعباء الحماية الأور- ألمانية التي التزمت بها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لصالح تفرغها للباسفيك، في مسعى أمريكي آنذاك لتوريط ألمانيا في مواجهة الدب الروسي، إلا أنّ ماركيل رفضت بشدة، مصرّة على تعميق سياسات الرفاهية والتمكين المجتمعي في ألمانيا، وقد جاءت اللحظة التاريخية التي تقدمت بها بون خطوة إلى الأمام للإعلان عن تسلحها وهو ما يعني أنها ستنفق اعتبارا من العام الجاري نحو 85 مليار دولار سنويا على الدفاع، ما يضعها في المرتبة الثالثة عالميا بعد الولايات المتحدة (770 مليارا) والصين (254 مليارا) وقبل روسيا (61 مليارا). وبذلك يكون هذا القرار الأكثر أهمية في تاريخ المانيا ما بعد الحرب الثانية والتي نصّت على تقييد تسليح ألمانيا التي أغرقت أوروبا في ثلاث حروب كبرى خلال أقل من قرن (حرب 1870 مع فرنسا، والحربين العالميتين، الأولى والثانية).
سيكون لهذا القرار تداعيات كبرى ليس على أوروبا وحدها بل وعلى العالم، إذ بهذا القرار الذي اتخذه المستشار اولاف شولتس تدخل ألمانيا نادي التسلح العالمي من أوسع ابوابه، وهو ما سيغير مستقبلًا من مواقف دول كبرى كروسيا وفرنسا، وإن كان هذا القرار سيحيي بعضا من العظام الرميمة الأوروبية المسماة بالقارة العجوز. ستكون لهذه التداعيات أثرها الواضح على النسيج الدولي والعلاقات الدولية، فلطالما تظلّمت ألمانيا من كونها خارج نادي الخمسة في الأمم المتحدة، ولن تدّخر جهدًا في طرح الموضوع ثانية وموضعة نفسها بناء على هذا التغيير الكبير الذي سيدفعها إلى التصنيع العسكري العالي الجودة، وإن أعلنت انها ستعمل على الدفاع الذاتي، فألمانيا تاريخيا هكذا بدأت ومعلوم للجميع كيف انتهت، فالبسماركية تعود فيما يبدو لي مجددا ولكن بثوب مختلف، فبدلا من تأسيس الإمبراطورية الألمانية والاتحاد الألماني والريخ الثالث، يتواجد اليوم الاتحاد الأوروبي، وبدلا من الحرب مع فرنسا التواقة اليوم للعودة عالميا إلى مكانتها الفرانكفونية التقليدية ستتعاون معها إن لم تكن حديقتها الخلفية لشد عصب أوروبا تحت لوائها بعدئذ خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ومن خلال ملاحظاتي المتواضعة للدور الألماني في هذه الحرب، فإن المانيا ستسعى لترسيخ نظرية بسمارك التاريخية المسماة استراتيجية توازن القوة، إذ ستعمل على خلق توازنات جدّية مع روسيا والصين والولايات المتحدة، وبذلك تدخل المانيا إلى النادي الدولي ونادي الكبار من أوسع ابوابه، وإذا كانت تعمل منذ عقود على سياسات الدفع الناعمة في التأثير الثقافي والاقتصادي على دول عديدة في العالم فستكون هذه من ضمن سياساتها المركزية.
لن تدّخر ألمانيا جهدا لإعادة التوازنات الدولية عبر تغييرات ستطالب بها في بنية النظام العالمي ليس من باب التمرد على الولايات المتحدة، بل من باب زيادة نصيبها في حصص النظام الذي يعمل بوتين على تغييره لصالحه في سياقات طروحاته الاوراسية.
قد تجري الرياح بما لا تشتهي سفن بوتين ومن يقف خلفه من المنظرين أمثال الكسندر دوغين في خلق توازن عالمي تكون روسيا مقابل الصين والولايات المتحدة، فاللاعب الجديد اكثر مهنية وصرامة كما علمنا التاريخ من روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مجتمعة.
يبقى السؤال المقلق والأكثر أهمية لنا، أين سيكون مكان وموضع العرب والشرق الوسط المُصنع استعماريًا في خضم هذه التحولات؟