الحرب الروسية الأوكرانية والحفاظ على الموجود
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
يوما بعد يوم تتهاوى المنظومة الدولية ومؤسساتها العالمية التي ما فتئت تتحدث عن قيمة الانسان وأهميته، ليدرك العالم أنّ الإنسان المقصود به هو ذلك الانسان الأبيض الذي يعيش في أوروبا الغربية وموال لها في شرقيها. وكشفت عن عقم مواقفها وأنها لا تملك من أمرها شيئا إلا بمقدار تحقيق مصالح تلكم الدول المؤسسة لها وما اعتراض روسيا في مجلس الامن على بيان أممي يشجب احتلالها لأراضِ أوكرانية إلا وجه من أوجه نفاق هذه المنظومة العوراء.
في هذه الحرب يستعمل الغرب أدواته الناعمة من جهة ويدفع بالأوكرانيين ليكونوا وقودها الحقيقي، ففي حين تمارس الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوربي لعبة العقوبات على روسيا ظنًا أنّها ستدفع بها نحو التراجع تتخلق على جانب الفولغا والحدود الصينية منظومة جديدة يمكن لهذه الحرب أن تكون بداية تأسيسها الفعلي الذي طالما تمّ الحديث عنه كموازِ للغرب ثقافة وسياسة واقتصادا تكون في مقدمته دول كالصين والهند وتركيا في آسيا، وروسيا ومن يدور في فلكها في أوروبا وآسيا وجنوب افريقيا ومن لروسيا والصين تأثير عليها وستصل مديات هذه الحرب إلى الأمريكيتين، والغرب مدركٌ تمامًا لهذه التحركات ويعلم أنّ دخول حرب مباشرة مع روسيا على الأرض الأوكرانية ستكون تداعياتها كارثية عالميًا وستخرج منها خاسرة بالمطلق لأن ثمّة دول تنتظر لتتقدم المشهد العاملي بقيادة الصين. والغرب إذ يدرك أنّ بوتين يمارس سياسة حافة الهاوية فهو في نفس الوقت يراهن على أنّ سياسة العقوبات العملاقة التي تقوم بها ستهز روسيا من الداخل مع علمها أن دولًا كالصين لن تسمح بانهيار موسكو إذ الحرب في كل أحوالها ستُنقص من محورية الغرب لصالح محور موسكو- بكين. روسيا في العصر البوتيني توجّهت منذ إعلان الرئيس فلاديمير بوتين التاريخي المشهور بالرسالة الألفية في أواخر الالفية الفارطة التي أكد فيها على عودة روسيا الإمبراطورية وأنّها وريثة الاتحاد السوفيتي، أي أنها تتجه لتكون دولة عُظمى ولذلك فسياسات بوتين منذ اللحظة الأولى لرئاسته الفعلية عام 2000 وإلى هذه اللحظات تصبُ في تحقيق هذا الهدف، وكل عمل تصرف فيه منذ ذلك التاريخ يصبُ في هذا الهدف سواء إعادة التحالفات مع الدول المُستقلة عن الاتحاد السوفيتي أو غزوه لجورجيا عام 2008 أو احتلاله جزيرة القرم عام 2008 أو تدخله المُباشر في الحرب الأهلية في سوريا لصالح النظام البعثي الاسدي ووضعه موطئ قدم للروس في البحار الدافئة.
في تلكم المسيرة لبوتين سُفكت دماء وحرقت بلاد وهجر مواطنون وكان الغرب صامتًا لأن الذين تعرضوا للمحارق الروسية لا يُحسبون مباشرة على الرجل الأبيض مؤسس الحضارة الحديثة ولم تصل آهاتهم وآلامهم إلى بيوت الغرب.
في الحالة الأوكرانية الوضع مختلف، فالغرب عمل على توسيع رقعته الأمنية- العسكرية عبر الناتو ووصل نفوذه إلى بولندا وباتت بساطير عسكر الناتو على مرمى حجر من روسيا التي ما فتئت تُطالب الغرب بعدم الاقتراب من حدودها وأرسلت التحذير تلو التحذير للغرب في هذا الصدد.
في عام 2021 أقرّت روسيا ما أُطلق عليه استراتيجية 2021 والتي من ضمنها بيان العلاقة مع الغرب وفي مقدمتها الناتو والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وبيّنت بوضوح أنّ العلاقة تقوم على الندية وأنّ اقتراب الناتو إلى حدودها خط أحمر، لذلك-وبدون خوض بتفاصيل تاريخ وحاضر العلاقة بين أوكرانيا وروسيا- اعتبرت روسيا مجرد الحديث عن انضمام أوكرانيا إلى الناتو تهديد لأمنها القومي وكل متابع للتصريحات الروسية منذ الإعلان عن الاستراتيجية الجديدة توقع أن تتخذ موسكو موقفًا متشددًا من تلكم التصريحات، لكنْ لم يدر في خلد الكثير من المحللين وحتى الاجهزة الاستخباراتية الغربية أن تقوم موسكو بغزو أوكرانيا علمًا أنها قضمت من أراضيها كما فعلت مع القرم وكما شجعت الانفصاليين في دونتسيك ولوغانسك واعتبرت نداءاتهم في شباط 2022 للتدخل سببًا مباشرًا لغزو اوكرانيا. يراهن الغرب في هذه الحرب في الحفاظ على الموجود من سيطرة كونية واستدامة لهذه السيطرة عبر الواجهة الأوكرانية التي لمّا تقبل عضويتها في الاتحاد الأوروبي ويرفض الناتو انضمامها إليه وفي هذا بيان للدول أنّ المتغطي بهذه المنظومة عريان، ففي حين تدخلت روسيا لصالح الأسد بعدئذ طالبها بالتدخل لصالح نظامه-بغض النظر عن التحليلات السياسية والاستراتيجية- فإن الغرب اقصى ما يمكن أن يقدّمه هو مساعدات اللهم إلا اذا تعرضت مصالحه مباشرة للخطر، فإنه يرسل ابنه الأبيض- السوبر مان- للجبهات وواضح أنّ الدرس الافغاني والعراقي قد علّم على أجسادهم جيدًا، ولذلك سنرى مزيدًا من حروب الوكالة فهل عادت الحرب الباردة مجددا؟
ضعف الغرب
لقد تنبهت الرئاسة الروسية بشقيها السياسي والعسكري- الأمني إلى نقاط ضعف الغرب، وسعت جاهدة لمنع أوكرانيا من الانضمام الى الناتو وطالبت بأن تعلن كييف عن نفسها دولة محايدة لإدراكها الكامل أنّ دخول الحرب معها يعني انها دخلت حربًا بالوكالة مع الغرب وأنها ترتكب أخطاء جسيمة في هذا الفعل، ليس من باب القُدرة السياسية فهي تملكها وبامتياز، بل من باب الاستنزاف وخسارة مواقع مهمة لها تتعلق بجوهر التقدم الروسي المتعلق بالاقتصاد والسياسة.
في هذه الحرب تكشفت إلى هذه اللحظات الأوجه الحقيقة للغرب ومدى نفاقه السياسي والأخلاقي. فقد أوغر الغرب صدر أوكرانيا التي رفضت منذ عصر يلتسين وإلى هذه اللحظات أن تكون في بيت الطاعة الروسي، ووعدها بمعسول القول ليحيلها هذه اللحظات إلى محطة جس نبض للسياسات الغربية عموما مقابل روسيا وتطبيقاتها لاستراتيجياتها المُعلنة، متاجرًا بدماء الاوكرانيين وإن تعاطفوا معه بل وصلت بذاءات القول العنصري في الإعلام الغربي والأمريكي، أن يقولوا إنَّ من يُقتل في أوكرانيا ليس عراقيًا ولا افغانيًا انهم من ذوي العيون الزرقاء بل وكشفت أحداث النزوح عن حجم العنصرية والفاشية داخل أوكرانيا في علاقاتها مع العرب والسود ممن يدرسون فيها أو لجأوا إليها وأجبرتهم الحرب على النزوح كبقية الناس.
على الأرض الأوكرانية اليوم تدور معركة لي الذراع بين الغرب عمومًا الذي يريد أن تستمر هذه الالفية في استمرار سيطرته شبه المطلقة على مُقدرات شعوب الأرض، ويرفض أي منازع له في ذلك سواء دول كالصين أو روسيا، ونحن نشهد مع مطلع العقد الثاني من هذه الالفية بدايات حربٍ بدأت شراراتها في سوريا ولن تنتهي في الأفق القريب. وحتى هذه اللحظات أثبتت روسيا أنها ستقف بحزم على حقوقها الاستراتيجية التي بينتها علنًا في مذكراتها الاستراتيجية الأخيرة وفي حربها على أوكرانيا أرسلت تحذيرات شديدة لعدة جهات ابتداءً ممن يدورون في فلكها ومرورًا بدول الجوار الأوروبي والأسيوي وانتهاء بواشنطن، كما أنها بهذه العملية أكدت دورها العالمي ومكانتها العالمية وهو ما سيعني بعد انتهاء هذه الحرب أنّ تكتلات جدية وجديدة قد تظهر فعلًا تبشر بانتهاء هيمنة الغرب الكونية لصالح منظومة جدية تكون من مكوناتها روسيا والصين ودول اسيوية وافريقية وأوروبية.
لقد وصلت أصوات المدافع الروسية ليس إلى كييف وبروكسل وواشنطن بل وإلى العالم أجمع، ولئن استنكرت كل دول الأرض تقريبًا هذه الحرب، فإنَّ حسابات تلكم الدول في العلاقات الدولية ستتبدل بناءً على النتائج، وروسيا اليوم ستحقق في الحد الأدنى من هذه الحرب على المدى القريب انجازًا محليا بتوثيق العلاقات مع من يدور في فلكها وآخر بعيد المدى باستمرار تمدد نفوذها العالمي على حساب الغرب والحفاظ على منجزاتها خاصة في القارة السوداء تلكم القارة التي بدأت تتحرك نحو استقلال فعلي عن الاستعمار الغربي باتت تركيا والصين وروسيا عناوينه القادمة.