علماء أم قطّاع طرق
الشيخ كمال خطيب
إن خيبة الأمة هذه الأيام ليس في حكامها، ملوكٍ ورؤساء وأمراء وخياناتهم التي تجاوزت كل الحدود، وإنما زاد الطين بلّة إلى جانب خيانة الأمراء والزعماء، هو ضلال العلماء هؤلاء الذين تتعلق بهم الآمال بأن يكونوا هم صمام الأمان ومن لا يخشون في الله لومة لائم، ويقولوا الحق عند سلطان جائر لأنها بالنسبة لهم أعظم الجهاد وفق ما عرفوه وعلموه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ” أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”.
نعم إنها خيبة الأمل، بل إنه الذهول وقد كنا نسمع في القصص ونقرأ في بطون الكتب عن زيغ العلماء وضلالاتهم، وكيف يتهافتون على أبواب الملوك كتهافت الذباب والفراش على النار، وإذ بنا نراها اليوم رأي العين فنسمع ونرى علماء السلاطين ومشايخ البلاط ممّن ما عاد يشغلهم إلا رضى أسيادهم وأولياء نعمتهم وليس رضى الله جلّ جلاله. وليس أن الواحد منهم يقع في خطيئة النفاق وإصدار الفتاوى التي تبرر سياسات الحكام الفاسدين، وإنما هو الذي يسعى لإغراق غيره من عامة الناس في هذا المستنقع، ولكنه في الحقيقة يسعى لإغراقهم في قعر جهنم.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في وصف هؤلاء: “علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون الناس إليها بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالهم للناس: هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاء، وفي الحقيقة قطاع طرق “.
ما أكثرهم في زماننا قطّاع الطرق هؤلاء، لكنهم لا يسرقون ولا يسلبون من الناس أموالهم وأمتعتهم فإن هذه يسهل تعويضها، ولكنهم الذين يسرقون ويسلبون من الناس صفاء ضمائرهم وصدق توجهاتهم. إنهم يسلبون من الناس عقيدتهم الصحيحة ثم يخلطونها بالزيغ والانحراف العقائدي والفكري وحتى الأخلاقي بسبب لوثة فتاويهم التي يبتغون بها وجه جلالة الملك وليس وجه الله جلّ جلاله.
نعم إنهم أشباه العلماء الذين يبيعون دينهم بعرض من الدنيا، إنهم الذين بسبب مواقفهم وفتاويهم جعلوا نفرًا من الناس ينظرون إلى الدين ورموزه نظرة سلبية، ولكن لايلبث هؤلاء أن يكتشفوا أنهم سيلقى بهم على قارعة الطريق، بل على مزابل التاريخ التي يلقى إليها بالحكام الخائنين والعلماء الضالين. أليس قاطع الطريق المدعو أحمد حسون مفتي نظام القتل في سوريا وهو يقول ويقسم بالله (أنه رأى حافظ والد بشار وهو يرتع في الجنة )؟!.
أليس قاطع طريق ذلك المتمشيخ المصري الذي قال بأن السيسي ووزير داخليته يومها محمد إبراهيم، أولياء يوحى إليهم؟!.
أليس قاطع طريق ولص محترف، وثبت أنه لص فعليّ وسارق أموال الشعب الفلسطيني، ومن وجد له حساب مصرفي في البرتغال فيه 3 مليون دولار المدعو محمود الهباش الذي أشغل مرة وزير الأوقاف ثم بعدها قاضي القضاة، لما يقف ويقسم أمام سيده محمود عباس أنه سيكون هو فاتح القدس. بربكم أليس هو وأمثاله لصوص وقطّاع طرق ؟!.
أليسوا قطاع طرق هؤلاء العلماء في السعودية ممن كانت لهم بالأمس القريب فتاوى رسمية مكتوبة ومنشورة، وما أن صدر القرار السياسي من الملك بما يتناقض مع فتاويهم، وإذا بهم يصدرون فتاوى جديدة تتلاءم مع سياسات الملك وولي عهده، وتتناقض مع ما كانوا قد أفتوا به بالأمس القريب. إنهم في ورطة حقيقية بل وفي موقف شرعي خطير، فإذا كانوا بالأمس يحرّمون ما أحلّ الله فهي جريمة وخطيئة، وإذا أصبحوا اليوم يحلّون ما حرّم الله، فإنها الخطيئة الأكبر فعلًا وحقًا إن هؤلاء هم عملاء سوء بل إنهم قطاع طريق الجنة.
إذا أردت أن تكون إمامي فكن أمامي
طالما تشرّفت الأمة الإسلامية بأن كان منها علماء ودعاة وأئمة أصبحوا مضرب الأمثال ليس فقط بسبب علمهم، وإنما بسبب أخلاقهم وكونهم القدوات التي يسير الناس على هديها، وبسبب صولاتهم وجولاتهم في مقارعة الباطل وقولهم كلمة الحق، لا يداهنون ولا يجاملون.
إنهم لم ينالوا لقب الإمامة إلا بعد أن كتبوا الكتب بمداد أقلامهم، وكتبوا المواقف بمداد دمائهم، وكتبوا الأحداث بعرقٍ كثير تصبب من أجسادهم. إنهم الذين نالت من شرفهم وعرضهم الألسن الطوال، ونالت من أجسادهم السياط الملتهبة وما كل ذلك إلا لأنهم رفضوا أن يداهنوا في دين الله، ورفضوا أن يسيروا في مواكب العبيد، ورفضوا أن يناصروا الظلمة.
هكذا كان سعيد بن جبير، وهكذا كان الإمام أحمد بن حنبل، وهكذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية، وهكذا كان سلطان العلماء العز بن عبد السلام، وهكذا كان الشهيد سيد قطب وهكذا هو اليوم فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي وغيره الكثيرون من الدعاة والعلماء والمشايخ والسياسيون من أبناء الصحوة الإسلامية الذين امتلأت بهم سجون طاغية مصر السيسي، وطاغية سوريا بشار، وطاغية السعودية ابن سلمان، وطاغية الإمارات ابن زايد، إنهم الذين رفضوا أن يكونوا أبواقًا للطواغيت ولا أن يكونوا ممن يبيعون دينهم بدنيا غيرهم.
إنه التاريخ الذي يسطر لنا قصة العز بن عبد السلام وقد خطب خطبته الشهيرة في المسجد الأموي بدمشق يعيب فيها على حاكمها الذي تواطأ مع الصليبيين بل وتحالف معهم، فكان أن عُزِل من الخطابة لا بل إنه الذي سجن، وقد أرسل حاكم دمشق من يعرض عليه أن يعتذر لحاكم دمشق ثمّ أن يقبّل يده فيعفو عنه، فما كان من العز بن عبد السلام إلا أن قال لمبعوث حاكم دمشق: يا هذا أنتم في واد ونحن في واد، قل لسيدك ليس أنني لن أُقبل يده بل إنني لا أقبل أن يُقبل هو رجلي!!.
كثيرة هي الفقاعات والظواهر من أسماء لمعت في عالم الدعوة وفُتحت أمامهم المنابر الإعلامية والفضائيات، وأصبح لهم جيوش من المعجبين والمعجبات ويتحدثون في أمور الدنيا والدين، لكنهم وما إن جاءت وحانت ساعة الامتحان عبر موقف انتظر الناس أن يسمعوه منهم، وإذا بهم يخيبون الآمال بل وتكون الصدمة حين سار هؤلاء في قافلة الطواغيت ومجدوا أعمالهم ودعوا لهم على المنابر، والأنكى من ذلك أن ألسنتهم ومنابرهم قد سخّروها للنيل من دعاة آخرين لهم مقامهم وفضلهم، كل ذنبهم أنهم رفضوا أن يهادنوا في دين الله وأبوا إلا أن يقولوا للظالم، يا ظالم.
عظيمة وفادحة نتائج أخطاء العلماء والدعاة حتى قيل(إذا أردت أن تكون إمامي فكن أمامي) أي إذا أردت أن أقلدك وأن تكون أنت النموذج والقدوة والإمام فعليك أن تسبقني إلى كل ما تدعوني وتدعو الناس إليه. إن القائد لن يجر جنوده إلى القتال جرًا ولا بأوامر عسكرية، وإنما هو يفعل ذلك لما يكون أمامهم ويتقدمهم صفوفهم، وإن الشيخ والعالم والداعية لن يكون إمامًا إلا إذا تقدم أمامًا.
بين الشيخ الشعراوي والشيخ القصيمي
يقول الدكتور حسان شمسي باشا في كتابه الرائع ” قمم تهوى النجاح” ص104 متحدثًا عن قصة الشيخ محمد متولي شعراوي العالم المصري الجليل، وهو يعطي درسًا عمليًا في كيفية الحذر من الغرور وحب الشهرة واعجاب الناس، وهي من أشد الآفات والأمراض التي تصيب الدعاة والعلماء والخطباء فيقول: ” كان الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله يلقي درسًا، وأثناء درسه تفاعل الجمهور معه، فأحسّ بالكبر والإعجاب بنفسه. وبعد انتهاء الدرس ركب مع سائقه عائدًا إلى بيته، وفي الطريق رأى مسجدًا، فقال لسائقه: قف !! ظن السائق أن الشيخ يريد الصلاة، فقال: يا شيخنا لم يحن وقت الصلاة بعد!. لكن الشيخ لم يرد على السائق ونزل من السيارة ودخل إلى حمامات المسجد، ولما طالت غيبته لحق به السائق ليتفقده فوجده ينظف حمامات المسجد والمتوضأ، فسأله السائق مستغربًا ما ترى عيناه، فقال له: يا بني، أعجبتني نفسي فأردت أن أذلها “.
أما الدكتور علي بن جابر الفيفي فيقول في كتابه الرائع “لأنك الله” ص 33 حيث يروي قصة لعالم لم يكن على حذر من غرور النفس والإعجاب بها، وكيف وإلى أين تصل بصاحبها :” عالم اسمه عبد الله القصيمي يؤلف كتابًا يدافع فيه عن دين الله اسمه – الصراع بين الإسلام والوثنية – قيل عنه مبالغة أنه دفع به مهر الجنة! وأثني عليه من منبر الحرم. ثم بعد سنوات تطرق أصابع الزيغ قلبه والعياذ بالله، وتبدأ الشبهات تنسج حول أفكاره بيوت الشك، ثم تغدو المسلّمات ممكنات والحقائق آراء، وتحت تلك الشبهات ومن بين أكوام الضلال يمسك قلمه ويؤلف كتابًا يهاجم فيه الإسلام اسمه – هذي هي الأغلال – يقول فيه: إن دين الله آصار وأغلال وقيود نعوذ بالله من الخذلان “.
هكذا إذن، إما أن يكون العالم والشيخ والداعية حارسًا على بوابة الشرع والدين كما كان الشعراوي ( وإن كانت له بعض زلات لا يخلو منها بشر )، وإما أن يكون لصًا وقاطع طريق كما كان حال الشيخ عبد الله القصيمي والذي وصل الأمر عند بعض أعداء الدين والمتطاولين على الإسلام أن يقتبسوا جملًا وعبارات من كتابه يوجهونها سهامًا صدئة لكل من يناصر الدين وينتصر لأحكامه وتشريعاته.
ها هم القدوات والنماذج والعلماء والعاملون، ها هم الدعاة الصادقون حراس الشرع وحماة أحكامه، ومع ما وصلوا إليه من مكانة علمية وشهرة بلغت الآفاق إلا أنهم كانوا متواضعين لله تعالى ومنهم الإمام الشافعي رحمه الله يقول: ” وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم على ألا ينسب إليه منه حرف “. وعن صفوان بن عمرو قال: ” كان خالد بن معدان إذا عظمت حلقته قام فانصرف. قلت لصفوان، ولم كان يقوم؟ قال: كان يكره الشهرة “. وقال إبراهيم التميمي: ” إذا أعجبك الكلام فاسكت، وإذا أعجبك السكوت فتكلم “.
يا أشباه العلماء ويا لصوص الدين ويا قطّاع طرق وصول الناس إلى الله حيث أنتم الفتنة بدل القدوة، اسمعوا إلى سيد الدعاة ابن السمّاك ماذا يقول لهارون الرشيد الذي وصل ملكه إلى شرق الأرض وغربها وليست هي قطعة أرض صغيرة سميت مملكة أو إمارة أو جمهورية، ولكنها كانت يومًا ولايات صغيرة في دولته العظمى، لكنه ابن السمّاك الذي قال كلمة الحق وإنه هارون الرشيد الذي أعجب بها وعمل بها لأنها خرجت من لسان صادق، يوم قال له ابن السمّاك: ” يا أمير المؤمنين والله لتواضعك في شرفك أشرف لك من شرفك. فقال: ما أحسن ما قلت. فقال: يا أمير المؤمنين إن امرءًا أتاه الله عز وجل جمالًا في خلقه وموضعًا في حسبه، وبسط له في ذات يده فعفّ في جماله وواسى في ماله وتواضع في حسبه، كتب في ديوان الله عز وجل من خالص الله عز وجل. قال: فدعا هارون بدواة وقرطاس وكتب هذا الكلام بيده “.
فيا علماء السلاطين ويا شيوخ البلاط ويا أبواق الطواغيت ليسأل كل منكم نفسه، هل أنا عالم حقًا أم أنا قاطع طريق؟!
رحم الله قارئا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون