إدمان الأمم.. الإدمان الرقم
أميّة سليمان جبارين (أم البراء)
لا أحد منا يستطيع إنكار تلك الفوائد الجمّة التي حملتها الثورة التكنلوجية للإنسان، ومدى تأثيرها على تطور وتقدم الحضارة الإنسانية، حيث تركت بصمتها على جميع مناحي الحياة، سواء على المنحى العلمي، أو الصحي، أو الاجتماعي، أو الاقتصادي وغيرها. ولكن بعد أن سيطرت التكنولوجيا على حياتنا، لمتطلباتها العصرية، أصبحت كذلك تسيطر على حياتنا الشخصية والفردية، بكافة أوجهها، حيث أصبحت هذه المنصات الإعلامية هي من تسيطر علينا وتسيرنا وتقودنا إلى حيث يريد القائمون عليها وأخص بالذكر هنا منصات، فيس بوك، والواتس أب، والإنستا، والتوك توك، حيث تحولت هذه التقنيات من نعمة إلى نقمة ووبال على المجتمعات والشعوب سندفع الثمن باهظا إن لم نستيقظ قبل فوات الأوان، خاصة بعد الإعلان عن إطلاق تطبيق جديد يدعى تطبيق (الميتافيرس) سأفرد عنه مقالا وافيا لاحقا.
وكما ذكرتُ، فقد أصبحت هذه المنصات أو التطبيقات الاجتماعية هي المسيطرة علينا، ولها تأثير سلبي على حياتنا وخاصة على المراهقين والأطفال، وقد أوضحت ذلك (فرانسيس هاوغن) وهي موظفة سابقة في فيس بوك، حيث سرّبت وثائق سرية وصادمة تكشف الجانب المظلم لفيس بوك والمنصات الأخرى التابعة له (واتس إنستا توك توك) حيث يتم تقديم المصالح المادية لتلك المنصات على الصالح العام. وأكبر مثال على ذلك سماح تلك المنصات لتجار المخدرات وعصابات الإتجار بالبشر وعصابات بيع النساء والدعارة باستخدام هذه المنصات بكل حرية، كما كشفت الوثائق التأثيرات السلبية لمنصة الأنستغرام على المراهقين في أمريكا، وتثبت أن تصفح الموقع أدى إلى زيادة الاكتئاب والتفكير بالانتحار لدى الشباب الأمريكي، بسبب صور المشاهير ونجوم الإنستا التي تحاكي أسلوب الحياة المثالي البعيد عن الواقع.
أضف إلى ذلك اعتماد شركة فيس بوك، على تحفيز المستخدمين من الدخول والتصفح عبر صفحاتها من خلال التجديد المتتالي واللانهائي في عرض المناشير القصيرة والسريعة، والتي تعمل عمل صنارة الصيد، حيث تصطاد المستخدمين وتجعلهم يفقدون الإحساس بالزمن داخل هذه الدوامة.
إذًا هذه بعض خطط فيس بوك في السيطرة على البشر والتحكم بهم، وقد أوضحت الدكتورة آنا ليمبك في كتابها (أمة الدوبامين) أن مواقع التواصل الاجتماعي بكافة منصاتها تستغل أدمغتنا أو بالأحرى ذلك الجزء من الدماغ الذي يفرز مادة الدوبامين التي تحفز مركز المكافأة في الدماغ، مع كل إعجاب أو تعليق، أو مشاركة لمنشور قمنا بنشره، ما يشعرنا بالسعادة ويجعل من هذه المواقع تمتلك نفس تأثير المخدرات، وبذلك تصل الكاتبة لنتيجة مفادها، أن الهاتف الذكي أصبح كإبرة حقن المخدرات التي توفر لنا الدوبامين الرقمي على مدار الساعة، فكل ثانية نقضيها على مواقع التواصل الاجتماعي هي فرصة لتحفيز هذا الإدمان.
وقد يتساءل البعض، كيف لنا أن نعرف إذا كان الفرد منا مدمنا رقميا أم لا؟! وما هي أعراض هذا الإدمان؟! للإجابة على السؤال الأول، علينا أن نعرف أو نحدد عدد الساعات التي نقضيها أمام الهاتف الذكي، حيث أوضحت عدة دراسات أن المعدل الطبيعي للفرد من 3-5 ساعات يوميا، إلا إذا كان عمل هذا الفرد يحتاج إلى التعامل مع هذا الهاتف الذكي لإتمام عمله، وقد نعرف الشخص المدمن على الهاتف الذكي من الأعراض التي تظهر عليه إذا ما انقطع الإنترنت لساعات، وهي تماما تشبه أعراض الإدمان الكيميائي التي تتمثل في: التوتر، القلق، الانزعاج عند التوقف المفاجئ لاستخدام الإنترنت.
وقد يسأل أحدنا، ما الذي أوصلنا لهذه المرحلة من الإدمان الرقمي؟! ومن المسؤول عن ذلك؟! قد يجيب البعض أن السبب الأول شبكات التواصل نفسها، لأنها تُغري المستخدم وتجذبه لمحتوياتها التي توافق ميوله وشهواته. نعم هذا صحيح، لكن لا يمكن أن نعفي المستخدم كذلك من خضوعه واستسلامه أمام تلك المغريات، وفقدانه السيطرة وعدم التحكم بنفسه.
فكن أنت القائد، ولا تجعل الإنترنت هو من يقودك إلى المهالك والإدمان المدمر، من خلال توغلك في صفحاته المختلفة، فما عليك إلا تحديد هدفك أو تحديد الفيديو أو المنشور الذي تريد (طبعا فيما يرضي الله) وبعدها أخرج فورا من هذا الوحش الكاسر، لأن أغلب الدراسات تؤكد أن الإدمان الرقمي عادة ما يكون آلية هروب نفسي للفرار من المهام المعقدة والمشكلات الصعبة، ومما يؤكد ذلك، إحساسنا برغبة داخلية وإلحاح نفسي لزيارة مواقعنا المفضلة أو استخدام هاتفنا الذكي في أوقات ضغط المهام الحياتية، وذلك للهروب من هذه الضغوطات والالتزامات، لذلك نجد أن الهاتف الذكي أصبح الرفيق الملاصق لبعضنا. حتى أثناء انتظارنا للصلاة في المسجد تجد البعض يتصفح في هاتفه، لا بل هنالك من يدخله حتى لبيوت الخلاء، وهنالك من ينام وهو يحتضن هاتفه الذكي. نعم أيها السادة، هذه بعض صورٍ تدل على الإدمان الرقمي الذي يوازي خطره خطر الإدمان على الكحول والمخدرات والإدمان على القمار، لأن هذا الإدمان الرقمي يؤثر على المدمن تأثيرا نفسيا من خلال اضطرابات النوم وتقلب المزاج، وتأثيرا اجتماعيا من خلال العزلة التي يعيشها المدمن الرقمي ويقوقع بها نفسه، فلا يجالس أحدا من أهله أو أصحابه وإن جالسهم تجده مشغولا بهاتفه الذكي طيلة الوقت، وهنالك كذلك تأثير جسدي يتمثل في مشاكل النظر وآلام الظهر والرقبة.
وللشفاء من هذا الإدمان، علينا أولا الإقبال على الله والتوبة إليه والتدريج في التخفيف من استعمال الهاتف الذكي بموازاة الانشغال بأشياء مفيدة كالرياضة، والقراءة، وعلى كل عاقل فينا، أن يتأكد أن الإنترنت أصبح المصدر الأول للإباحية والمصدر الأول للكذب والتشهير، والمصدر الأول للمتعة المحرمة ومن يستطع الابتعاد عن هذا الوباء فقد فاز وأفلح.