ما لا يجب نسيانه في وسط نشوة انتصار الملاعق السرّية
د. إبراهيم الخطيب- أستاذ العلوم السياسية وحل النزاعات
مع حالة النشوة الفلسطينية المرتبطة بالعمل الشعبي أو الفردي الفلسطيني المناهض للاحتلال والمتحدي لسياساته، والذي يُعطي الفلسطينيين أملا في قضيتهم وإمكانية انتصارها ويبعث فيهم التفاؤل، يأتي وجوب نقد دور القيادة الفلسطينية، فقد باتت هذه الأعمال الشعبية أو الفردية تميّز واقع القضية الفلسطينية من دون رؤية جماعية واضحة وبرنامج عمل سياسي منهجي يعمل وفقهما الكُل الفلسطيني، باتت القضية الفلسطينية في حالة من الركود السياسي، جزء منها مرتبط بالواقع الدولي والإقليمي، والآخر مرتبط بعوامل داخلية مرتبطة بوضع القيادة السياسية الفلسطينية وحالة “اللا خيار” المقصودة التي تعيشها القيادة السياسية الفلسطينية.
منذ اتفاقية أوسلو وقرار منظمة التحرير الفلسطينية بتقاسم أرض فلسطين التاريخية، والتخلي عن فكرة تحرير فلسطين من نهرها إلى بحرها (ومن دون توافق فلسطيني على ذلك)، ومع إلقائها السلاح بمعناه العملي واللجوء إلى الخيار التفاوضي، مع عدم وجود خيارات أخرى يمكن أن تضغط على الاحتلال الإسرائيلي من خلالها لتحقيق ما تريد، وانحسار الرهان الفلسطيني ليصبح رهانا مرتبطا بالمجتمع الدولي، وليكون هذا الرهان أيضا من دون أدوات عملية منهجية يستطيع من خلالها الفلسطينيون تغيير الرأي العام الدولي ليكون داعما وضاغطا على الإسرائيليين، بات تراجع القضية الفلسطينية واضحا.
هذه الحالة من الهشاشة وانعدام الفعل السياسي الفعّال التي عاشتها القيادة الفلسطينية، وانعكست على عموم الفلسطينيين، وخصوصا بعد الانتفاضة الثانية، ترافقت مع تعاظم التنسيق الأمني، وجعل السلطة الفلسطينية أداة أمنية بيد الإسرائيليين تُستخدم لتساهم في حفظ الأمن الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه ترافقت مع زيادة الرهان على إنعاش الحالة الاقتصادية كوضع يجعل التعايش مع واقع الاحتلال وحفظ الحياة الاقتصادية “الكريمة” هو الخيار الفلسطيني، وخصوصا مع عدم وجود أُفق سياسي ونضالي فلسطيني، يجعل هذا الفلسطيني مستعدا للتضحية من أجله، ويُظهر له النور في آخر النفق.
ولترتيب الأوراق مع بعضها يمكن أن نرى الصورة كالتالي: احتلال يسعى لعدم التنازل عن أراضٍ للفلسطينيين، ينهشه صراع داخلي حول مكانة الأراضي في الضفة الغربية، وحدود إسرائيل وفقها، وليظهر فوز التيار اليميني في هذا النقاش وخصوصا مع الصعود الشعبي لليمين الديني الإسرائيلي. هذا الحضور المتزايد لهذا التيار إسرائيليا تُرجم بسياسات إحلالية تتزايد في الضفة الغربية من تكثيف الاستيطان والسيطرة على الحيز، وتهويد القدس وزيادة اقتحامات الأقصى، مع العمل على التقسيم الزماني والمكاني فيه، وطرح فكرة فرض السيادة الإسرائيلية على منطقة (ج) أو ما يعرف بخطة “الضم” ضمن رؤيتها كجزء من أرض إسرائيل التي لا يجب التخلي عنها. هذه الحالة الإسرائيلية الداخلية يترافق معها راحة إسرائيلية مما يحدث على الصعيد الدولي (راحة حذرة، وحذرها بفعل المبادرات الفردية المناهضة للاحتلال في العالم وليس بفعل جهد جمعي فلسطيني).
هذه الراحة الإسرائيلية -حتى الآن- مرتبطة بدعم الإدارة الأميركية السابقة -إدارة ترامب- التي ما انفكت تدعم السياسات الإسرائيلية، وعدم جرأة الإدارات المختلفة على فرض سياسات أو عقوبات على المؤسسات الإسرائيلية التي تنتهك القانون الدولي، وكذا عدم قدرة (وإرادة) دول كثيرة أوروبية ودولية على فرض سياسات مرتبطة بوقف الانتهاكات الإسرائيلية، ولجمها ووقف الاحتلال لكونه احتلالا، وعلى معاقبة الاحتلال الإسرائيلي ووقف سياساته الإحلالية والاحتلالية.
بل أبعد من ذلك فقد نجحت السلطات الإسرائيلية في تقليص حجم ومركزية القضية الفلسطينية، على الأقل رسميا، لتصبح خاصة بالفلسطينيين (بل حتى بجزءٍ منهم)، وتغييب الأبعاد العربية والإسلامية والإنسانية لهذه القضية، وليترجم ذلك بحالات التطبيع العربي التي غزت المنطقة في السنتين الأخيرتين. كل هذا الوضع جعل القيادة الإسرائيلية متمسكة بالأمر الواقع وحل “اللا حل” للقضية الفلسطينية، بتركيز على الجوانب الحياتية المعيشية للفلسطينيين من دون طرح أي أٌفق سياسي.
في المشهد الثاني من الصورة، يبدو الواقع الفلسطيني واقعا هشا ضعيفا يسيطر عليه انقسام سياسي وآخر جغرافي يغلفهما خلاف رؤى، يجزّئ القضية الفلسطينية ويفتت المشروع الوطني الفلسطيني، مع سلطة مرتبطة ارتباطا عضويا بالاحتلال من خلال التنسيق الأمني الذي بات يقيّدها، كما أن الانفكاك منه يعتبر نهاية لدور هذه السلطة ولقيادتها. وهنا يجب الإشارة إلى أن سلطة مرتبطة بمُحتلها لا يمكن أن تكون سلطة تحرر وطني، بل سلطة تكبيل التحرر الوطني أو على أقل تقدير “استجداء” التحرر الوطني.
كما يبدو أن استمرار العمل وفقا لهذه السياسة مرُتبط بعدم وجود خيارات تحافظ على منفعة القيادة الفلسطينية في رام الله أو لكون الخيارات الأخرى فيها تضحيات لا تريد تحمّلها، ولا توجد خيارات أخرى تحافظ على بقائها قيادة سياسية حاكمة ومستفيدة، وواقع هكذا يُحتّم عليها البقاء على هذا الخيار المرتبط بسلطة مرتبطة بتنسيق أمني مع محتلها. في حين أن الواقع الفلسطيني في غزة واقع بات يطغى عليه محاولة تسيير الوضع الإنساني للناس هناك وحفظ ما تم إنجازه من دون تقدم للمشروع الوطني، لا شك في أنه لا يمكن مساواة ما يحدث في الضفة بما يحدث في غزة، كون السلطة في غزة لديها قدرة عسكرية وتمثّل حالة تحد للاحتلال، ولكنها هي الأخرى ستكون محدودة في ظل عدم وجود عمل جمعي فلسطيني ورؤية واحدة لحرية فلسطين وبرنامج عمل متماسك مع أجندة يتم تطبيقها تباعا.
في ظل هذا الواقع القيادي والرسمي يستمر العمل على تفتيت البعد الشعبي من خلال محاولة إرضاخ الفلسطيني وشغله في مآسي الحياة اليومية وضنك العيش، وجعله يشعر كأنه يعيش في “دولة” حقيقية، وتحت سلطة عادية كما هو الحال في أي بلد آخر، وليس ضمن احتلال وواقعه المعيشي المرتبط بقرارات الاحتلال وسياساته، في حين أن هذه السلطة ليست إلا حالة إدارية لا تحمل مسؤولية ورؤية مشروع التحرر الوطني، لدرجة أن الأمور الحياتية والاقتصادية الإدارية باتت همها وهدفها، وهذا بات كذلك هم الناس، وهو ما يسعى له الاحتلال، ضمن سياسة إدارة الصراع وحفظ الواقع القائم عند الفلسطينيين وربطهم بالشأن الاقتصادي والمعيشي وحرف مسارهم النضالي.
يبدو أن الواقع الفلسطيني الحالي وهشاشته على المستوى القيادي والمنعكس على الواقع المجتمعي صعب، ولكن هذا لا ينفي أن الواقع الإسرائيلي مأزوم، وهذا ما أشارت إليه الأحداث الأخيرة، كما أن عناصر القوة التي تملكها القضية الفلسطينية هائلة، ولكن يبدو أن ضعف القيادة الفلسطينية وليس قوة الاحتلال الإسرائيلي أحد أسباب تراجع مشروع التحرر الوطني الفلسطيني.
المصدر: الجزيرة نت