الحرية بين تهذيب الإسلام وفوضى الغرب
أميّة سليمان جبارين (أم البراء)
منذ ما يزيد عن قرن من الزمان، ومصطلح الحرية يتصدر جميع واجهات الاعلام ووسائل الاتصال، ويعتبر محور جدل كبير، بين المتحاورين، بين مؤيد لهذا المفهوم بالمطلق وبين معارض!! والسبب في هذا الجدل الكبير، أن كلمة حرية تعتبر من الكلمات الفضفاضة التي تستوعب في مفهومها النقيضين من المعاني في نفس الوقت، فهي تحوي في جعبتها معان مقبولة تتوافق مع العقلاء أصحاب الفطرة السليمة. وفي المقابل يمكن توجيه هذه المعاني إلى الفوضى والانفلات الذي لا يقبل به أي إنسان عاقل يحترم إنسانيته مهما كان دينه وديدنه!! لذلك علينا ألا نقف عند ظاهر الكلمة البراق الذي يخطف الأبصار، ويستهوي عقول البسطاء السطحيين، وكأن الحرية العصا السحرية التي ستحل جميع مشاكل العالم، وبالذات مشاكلنا نحن كمسلمين، لا سيّما بعد أن عمل فيهم التيه والضياع والانحراف عن الدين عمله، خاصة منذ انتهاء الاستعمار العسكري على بلاد المسلمين والبدء باستعمار العقول، بل باغتيال العقول، فتم تسويق وتصدير الحرية إلى عالمنا الإسلامي معلبا جاهزا من خلال السيطرة على الإعلام، والسيطرة على المناهج الدراسية، فتم تحريف وتشويه الإسلام لدى أبناء الأمة الإسلامية وتصويره على أنه هو السبب الرئيس في تخلف عالمنا الإسلامي بسبب الشبهات التي أُثيرت ضده وشيطنته محليا وعالميا، فأخذ أعداء الإسلام يستخدمون بعض أبناء الإسلام، في تصوير الإسلام على أنه دين يحارب الحرية بكل صورها حتى يستطيع التحكم والسيطرة والاستبداد في الحكم وقهر الشعوب، وهذه تهم، الإسلام منها براء، كبراءة الذئب من دم يوسف، ذلك أنه بمقتضى ديننا الإسلامي، فإن الله عز وجل قد خلق الإنسان حرا، ولم يخلقه ليكون عبداً لغير الله، بل وأعطى الله للإنسان كامل الحرية والإرادة والاختيار، وبناء على اختياره يحاسبه الله، وهنا تبرز قمة الحرية في أن يكون الإنسان عبدا فقط لله ويتحرر من عبودية العبيد، لذلك فقد كان شعار المسلمين في العهد النبوي: لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. وهذا الفاروق عمر يؤسس لنا قواعد الحرية الصادقة بقوله: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، وكذلك قول علي كرّم الله وجهه: لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً.
هذه وعلى سبيل القصر لا الحصر بعض الأسس التي تبنى عليها معاني الحرية في الإسلام، تلك الحرية التي حدودها عدم معصية الله لأننا في الأساس عبيد الله، ولسنا أحرارا إلا فيما أباحه الله عز وجل لنا، وكما قال الشاعر: (إن الحرية أن تحيى عبدا لله بكُلّية… وفق القرآن ووفق الشرع ووفق السنن النبوية)، فلو سار المسلمون وفق هذه المعاني الكريمة لنعموا بالحرية المنشودة التي تتوافق مع فطرة الإنسان السوي.
وعلى النقيض من هذه المعاني الراقية للحرية، نجد أن الغرب وأقصد بذلك مفكري الغرب، يدعون إلى الحرية المطلقة التي تسبب الفوضى والدمار للعالم أجمع، ومما ينادي به بعض فلاسفة الغرب وعلى رأسهم الملحد البريطاني الشهير بيرتنل باسل: (أن الحرية تعني أن تحقق ما تريد مهما كان) ولأن هذا المفهوم للحرية سيجلب الدمار للإنسانية تم تخفيفه إلى (الحرية أن تفعل ما تشاء دون أن تضر بالآخرين ولا تخالف القانون). ولو رجعنا إلى أصل كلمة الحرية لوجدنا أن أصلها يعود إلى العصور الوسطى وبالتحديد إلى الثورة الفرنسية في العام 1789م حيث ثار الشعب الفرنسي على الكنيسة والسلطة الدكتاتورية آنذاك، وطالبوا بالحرية المطلقة للإنسان بعد سنوات الظلم والقهر والاضطهاد التي عايشتها الشعوب في الغرب وبالذات في فرنسا، وكانت المطالبة بفصل الدين (الكنيسة) عن الدولة، وظهرت فكرة الإلحاد كردة فعل لاضطهاد الكنيسة ورجال الدين، فظهرت نظرية الحق الطبيعي أي أن الطبيعة هي التي تعطي الحقوق (إنكار وجود الله) وتقول هذه النظرية: (إن الطبيعة وهبت حقوقا للناس ولا يجوز لأحد التحكم فيها، أي بمفهوم آخر، حرية مطلقة، وكان الداعي لهذه النظرية الفيلسوف البريطاني توماس هوبس، ومنذ ذلك الحين تتبنى دول الغرب مفهوم الحرية المطلقة للفرد إلى أبعد الحدود، وهذا ما نرفضه جملة وتفصيلا نحن المسلمون، لأن هذه الحرية المطلقة ستؤدي إلى دمار العالم وتدني الإنسانية إلى مستويات أدنى من مستوى الحيوان، وإن ما نراه اليوم من الدعوة إلى الحرية الجنسية المطلقة والاعتراف بالشواذ بحجة الحرية، لهو خير دليل وبرهان على فساد هذه الحرية المزعومة، وما نسمع عنه من مطالبة بحرية المرأة في مجتمعنا الإسلامي وتخليصها من سيطرة الرجل عليها كما يدعون، لهو قمة الكذب والافتراء فإنما هم يطالبون بحرية الوصول إلى المرأة والنيل من شرفها وعفتها، وإن التناقض في تعاملهم مع قيمة ومفهوم الحرية بات واضحا للعيان، فالحرية متاحة ما دامت تنافي الدين والأخلاق وتنادي للفجور والمعصية، أمّا أن ينكر أحد هذه المعاصي، فهذا الشخص يتهم بالعنصرية والإرهاب ولا تحق له حرية الدعوة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا ما حدث مؤخرا في فرنسا التي تدّعي أنها معقل الحرية! نعم فرنسا نفسها التي سمحت بنشر الرسومات المسيئة للرسول، عليه الصلاة والسلام، وفرنسا نفسها التي تدعم الشواذ وتعطيهم كافة الحقوق المدنية، وفرنسا نفسها معقل الإلحاد وإنكار وجود الله، هي نفسها التي أقالت إمامين مسلمين قبل عدة أيام بحجة دعوتهم لظلم وقهر المرأة وفرض وصاية الرجل عليها أثناء خطبة العيد، حين قرأ الإمام: (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) وحين أضاف حديثا للرسول علية الصلاة والسلام: (إذا أطاعت المرأة زوجها دخلت الجنة). وفي إسبانيا تم إقالة أستاذ لعلم الأحياء لأنه قال أثناء محاضرة له، إن علم الجينات لا يعترف بوجود جنس ثالث (فقط هنالك ذكر وانثى) فعن أي حرية تتحدثون يا دعاة الحرية المشوهة؟!! وقد انتشرت تجارة الجنس في بلادكم (تجارة النساء)، وكم من امرأة تم التحرش بها من قبل رب عملها وقد اضطرت أن تسكت حتى تبقى في وظيفتها، بالله عليكم أيها المدافعون عن الغرب وحريته النكرة هاتوا لنا ولو صورة واحدة جميلة لمعنى الحرية في بلادكم!! وأنا أجزم بأنكم لن تجدوا!! لأنكم في طريق البحث المضني عن الحرية أصبحتم عبيدا لها، فحرية المرأة جعلت منها عبدة لرب العمل، وجعلت منها عبدة للموضة، وعبدة للشهوات وتنازلت عن عبادة الله وطاعة ولي الأمر فقط ضمن مبدأ (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وبحرية العمل أصبحتم عبيدا للمادة والمادة فقط، فلم يعد الأب يهتم بأبنائه ولا الأم بأسرتها ولم يعد هنالك أي ترابط أسري وبدعوى الحرية أصبح الزنا مشروع ومسموح من جيل صغير، أما الزواج، فغير مسموح إلا بعد سن معين. هذه بعض صور حريتكم الزائفة التي نسأل المولى أن يبعدها عنا، أمّا الحرية المهذبة لدينا، فتتمثل في حرية المرأة بالعمل ضمن الشروط الشرعية، وتتمثل بحرية المرأة باختيار زوجها، وتتمثل بحرية المرأة بالتصرف بمالها الخاص وإرثها، وتتمثل بحفاظ المرأة على عفتها وشرفها لأن هذا قمة الحرية، فها هي هند بنت عتبة، وقد كانت حديثة عهد بالإسلام عند مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم، قالت له بكل عزة وعنفوان حينما قال لها إن الإسلام يحرم الزنا، قالت: أوَتزني الحرة يا رسول الله!!! نعم فإن من شيم الحرة العفاف والشرف وليس السفور والفجور وقد اخترت أغلب الأمثلة عن المرأة لأن قضايا المرأة تعتبر من أوسع أبواب تشويه الإسلام وشيطنته. إذن هذه لمحة بسيطة عن مفهوم الحرية وكيفية التعامل معه.