التكافل الاجتماعي في الإسلام… صور وآليات
أمية سليمان جبارين (أم البراء)
إسلامنا ذلك الدين العظيم الذي أشرقت شمسه لتشع نورا وأملا على الأمم جمعاء في فترة ظلماء دهماء، فترة من التفكك الاجتماعي المريب الذي كان يحكم المجتمعات آنذاك، ويقسم الناس الذين خلقهم الله سواسية كأسنان المشط، إلى طبقات، أرستقراطية ونبلاء، وطبقة العامة، الفقراء، وطبقة العبيد. في فترة تسلّط فيها القوي على الضعيف، والغني على الفقير، والرجل على المرأة، فنشأت مجتمعات مفككة اجتماعيا، بلا أي رابط أسري أو ديني، فترى الأب يقتل أولاده خشية الفقر وعدم مقدرته على إطعامهم، وترى الرجل يبيع امرأته أو ابنته ليقتات بعرضها، وترى الأم تبيع ضناها لتعتاش العائلة بثمنه، صور قاتمة من الظلم الاجتماعي، كان يسود العالم آنذاك، ولكن بفضل الله، جاء الإسلام بشريعته السمحاء، ليسطّر للبشرية أروع صور التكافل الاجتماعي ويقضي على كل هذه الصور المظلمة السوداء، كسواد قلوب الناس آنذاك، الخالية من أي رحمة وتعاطف مع بعضهم البعض.
نعم، جاء الإسلام ليعلّم المسلمين والبشرية جمعاء، المعنى الشامل للتكافل الاجتماعي والتعاضد، والتراحم بين المؤمنين، وبيان مثوبة هذا الأمر العظيم، وقيمته عند الله عز وجل، فنزلت العديد من الآيات القرآنية التي تفنّد هذا الأمر، أذكر منها على سبيل القصر لا الحصر: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ). فمن خلال هذه الآية الكريمة، يبيّن الله لنا كيف أنه عز وجل يُضاعف الحسنات أضعافا مضاعفة للمنفق والمتصدق في سبيل الله، ونحن نعلم أن الصدقة والزكاة من أهم وأنفع آليات التكافل الاجتماعي في الإسلام، فقد ذُكر في الأثر: أن العبادات أخذت تتباهى أيها أفضل، فخرجت الصدقة، وقالت: أنا أفضلكم لأن نفعي يتعدى المتعبد إلى غيره، لأن الصلاة، والحج، والصيام، عبادات لا يتعدى نفعها على غير القائم بها، بينما الصدقة فهي عبادة تنفع المتصدّق لذاته، والمُتَصدق عليه. إذن، هي عبادة متعدية النفع ولذلك تعتبر من أفضل العبادات، لأننا من خلالها نبني ونؤسس أعمدة المجتمع المؤمن المتكافل، ومجتمع الجسد الواحد، تصديقا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاضدهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
وفي موضع آخر، أخبرنا الرسول الكريم: (أن المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضًا)، وليس بالضرورة أن يقتصر التكافل الاجتماعي على الجانب المادي فقط، فهناك تكافل معنوي ونفسي كذلك، وقد يشمل التكافل الجانبين معا، مثل كفالة الأيتام، فمن جهة أنت أيها الكافل، تدعم اليتيم ماديًا، ومن جهة ثانية تدعمه معنويا ونفسيا، كذلك زيارة المريض، أو مواساة الفاقد، فهي تعتبر تكافلا معنويا، لكن لها عظيم الأثر في نفوس البشر.
ومن الجدير بالذكر، أن نظام التكافل الاجتماعي في الإسلام، لم يقتصر على المسلمين فقط، بل تعدّاه إلى غير المسلمين كذلك، ولنا في قصة الفاروق عمر بن الخطاب، عبرة، حينما التقى رجلًا مسنا ضريرًا يتكفف الناس بباب قوم، فسأله الفاروق ممن انت؟! فقال من أهل الكتاب، قال من أي أهل الكتاب أنت؟! قال من اليهود، قال عمر: فما ألجأك لما أرى، قال: الجزية والحاجة والسنّ، فأخذ عمر بيده، وذهب به إلى منزله وأرسل إلى خازن بيت المال وقال: أنظر هذا وضرباءه فضع عنهم الجزية، فو الله ما أنصفناه، أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم. من خلال هذه القصة، يتّضح لنا أن نظام التكافل في الإسلام يشمل جميع المواطنين، لا بل تعدّاه إلى عالم المخلوقات الأخرى، فمن أسس التكافل، أن يهتم المالك بإطعام وسقاية وتطبيب البهائم، وألا يحملها ما لا تطيق.
هذه إذن باختصار بعض أوجه التكافل في الإسلام، وهنالك مستويات للتكافل في الإسلام، تكافل بين الأفراد، وتكافل بين الجماعات، وهناك التكافل بين الشعوب، وهنالك تكافل بين الدول، وجميع هذه المستويات من التكافل، قد حثّنا على تحقيقها ديننا الإسلامي، ومن أسمى وأروع آليات التكافل في الإسلام، هي الزكاة، لأنها تطهر وتزكي الغني من التشبث بماله وتدربه على الإنفاق لصالح الفقراء والمحتاجين، وبنفس الوقت، فإن الزكاة تطهر نفس الفقير من الضغينة والحسد اتجاه الغني، وبذلك تصبح الزكاة آلية ووسيلة ناجعة في تحقيق الترابط المجتمعي، من خلال أوجه صرف الزكاة المتعددة، ككفالة الأيتام، وكفالة طلاب العلم، وكفالة المرضى والدواء، ومساعدة الشباب على الزواج، وإغاثة الملهوف، وإغاثة أصحاب النوازل والابتلاءات والكوارث والعديد ممن تجوز عليهم الزكاة، وقد كان إخراج الزكاة سببا رئيسا في تطور وتقدم المجتمع، مثل القضاء على الفقر والفقراء، ففي زمن عمر بن عبد العزيز، وبالتحديد عام 101 للهجرة، لم يكن في المجتمع المسلم أي فقير يستحق الزكاة، بسبب نظام التكافل الذي اتبع منذ عهد النبي عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وبذلك فقد أثبت نظام الزكاة أنه جدير بتبنيه عالميا لحل جميع مشاكل العالم الاقتصادية، لأنه لا يترك فقيرا ولا معوزا في المجتمع، مما يتيح الظروف لتقدم وازدهار المجتمع، هذا على مستوى التكافل بواسطة الزكاة فقط، فما بالنا لو طبّقنا نظام التكافل في الإسلام في صوره الأخرى، كبرّ الوالدين، وصلة الأرحام، ورعاية الجار وابن السبيل وكفالة اليتيم والعديد من صور التكافل الاجتماعي في الإسلام.
لذلك، حين أدرك أعداء الإسلام أهمية التكافل والترابط بالمجتمع، وما يؤدي إليه من ترابط أسري ومجتمعي، عملوا بكل الوسائل لزرع بذور الفتنة والتفرقة بين أبناء المجتمع المسلم، على أساس عرقي وطائفي وأشعلوا فتيل الحرب فيما بينهم، وبذلك بعد أن وصلنا لمرحلة لا نجد فيها أحدا يستحق الزكاة، أصبحنا الآن كالأيتام على موائد اللئام، نستجدي الطعام والخيام، بعد أن كنّا سادة كرام ، وبعد أن كانت أيادينا البيضاء تصل لكل مكان، وكل ذلك لأننا خرجنا من دائرة الجسد الواحد، والهمّ الواحد والألم الواحد، فلم تعد دموع الثكالى وصرخات الأيامى ودماء الشهداء تحرك أدنى ساكن فينا، لأن حبّ الدنيا والشهوات قد أشغلنا عن الاهتمام بأمر المسلمين في أي مكان، فأصبحت قضية فلسطين والمسجد الأقصى، قضية إقليمية، بعد أن كانت عالمية، وأصبحت قضية مسلمي الإيغور، قضية داخلية، وهكذا تمّ تحجيم قضايانا المصيرية. ولكن أملنا كبير أن تعود لأمة الإسلام هيبتها ومكانتها قريبا بإذن الله، خاصة بعد عودة الحس الديني والوطني لدى الكثير من أبناء أمتنا المسلمة، وفهمهم لحجم المؤامرة التي تحاك ضدنا، فوالله إنني أرى رايات النصر قادمة ترفرف قاب قوسين أو أدنى فاجعلنا يا ربي من جنودك المخلصين.