على هامش ما يسمى بـ “عيد الأم”!
أميّة سليمان جبارين (أم البراء)
الزم رجليها فثمّ الجنة
من منّا لا يسأل الله الجنة؟!! من منّا لا يعمل جاهدًا في سبيل دخولها والخلود فيها؟! من منّا لا يبحث عن أي طاعة تكون سببًا في دخوله الجنة؟!! ألا أدلّكم على طريق إن سلكتموه نلتم رضا الله في الدنيا والآخرة، وكانت سببا أكيدا لفوزكم بالجنة؟ إنها الأم يا سادة.
نعم الأم، التي قرن الله عبادته بالإحسان إليها هي والأب، لقوله تعالى: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا* رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا)، صدق الله العظيم.
نعم إنها الأم، التي قال الرسول عليه الصلاة والسلام حين سأله أحد الصحابة: (من أحق الناس بحسن صحابتي؟- يعني: صحبتي، قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)، متفق عليه. نعم إنها الأم التي قال رسول الله لأحد الصحابة: أن الزم رجليها فثم الجنة. أي عظمة وتقدير حباها الله للأم. بالله عليكم لو بحثتم عبر تاريخ البشرية جمعاء لما وجدتم ديانة أو فكرا أو منهجا أعطى هذه القيمة العظيمة للأم، لماذا؟! لأنّ الأم هي التي كانت سببا بوجودك من العدم أيها الإنسان، فهي من حملت بك ووضعتك، وأرضعتك، وقامت بتربيتك والسهر على راحتك مع الأب.
إذن فقد تفضلت الأم على الأب بالبر والطاعة بسبب الحمل والوضع والرضاعة، وعادة ما تكون الأم في هذه الظروف أضعف ما تكون: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا) ولكن برغم هذا الضعف، إلا أنّ الأم كانت سببا في استمرارية الحياة من خلالكم أيها الأبناء، فهي سبب وجودكم على هذه الحياة بقدرة الله. لذلك اغتنموا فرصة وجود أمهاتكم على قيد الحياة واعملوا على طاعتها وبرّها والإحسان إليها، لأن الأم كالأيام لا تتكرر، ولا ندري متى نفقدها وبذلك نفقد بابا من أبواب الجنة والإكرام، لأنه عندما تموت الأم ينادي مناد من السماء ويقول: ماتت التي كنا نكرمك من أجلها فأعمل عملا نكرمك من أجله. إذن هي الأم، بركة حياتنا ونورها المضيء، وقد أخبرنا سيد البشرية صلى الله عليه وسلم: (رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر أحدُهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة) فأي منزلة عظيمة وأي مكانة عالية حازت عليها الأم بالإسلام!! إنها يا سادة، الأم التي إذا رفعت يديها إلى الله فتحت لها أبواب السماء!! فإياك ثم إياك أن تعق أمك أو تظلمها لأنه لا يوجد حجاب بين دعوة المظلوم وبين الله، فما بالك إن كانت الأم هي المظلوم!
لا نريد عيدًا للأم، بل أن تكون الأم عيدا
بعد كل ما ذكرت آنفا من آيات وأحاديث تتحدث عن الأم وقيمتها بشكل خاص أو عن قيمة الوالدين، إلا أن هنالك فئة من الناس ممن يفتقرون لمعنى البر والإحسان وتعظيم الأم، يريدون اختزال هذا البر بيوم واحد في السنة، وهو كما متعارف عليه عالميا يوم 3/21، حيث تم تخصيص هذا اليوم من كل عام للاحتفال بالأم وزيارتها، وتقديم الهدايا والزهور لها مع العلم أن ديننا الحنيف حثّنا وأمرنا أن نجعل عيدا للأم في كل يوم، بل في كل ساعة وثانية من أعمارنا، لأنه من العيب في حقنا، أن نختزل برّ الأم وصلتها والإحسان إليها بيوم واحد في السنة، كما يفعل أبناء الغرب مع أمهاتهم!! حيث لا يتواصل الابن مع أمّه أو مع والديه إلا نادرا من خلال مكالمة هاتفية تكون على استحياء، أو زيارة خاطفة على عجالة، لأن الأم والأب في ثقافة المجتمعات الغربية ليسا من أولويات الحياة والنجاة!! كما هو الحال لدينا نحن المسلمون.
لكن للأسف حتى بهذه البدعة نرى البعض من أبناء أمتنا، يحتفلون بهذا العيد، ويحضرون الهدايا لأمهاتهم ويتعمدون إدخال السرور على قلوبهن!! مع العلم أن هنالك فئة ليست بالقليلة تكون على خصام مع أمها ومقاطعة تامة أو شبه مقاطعة، لكن في يوم عيد الأم، تراهم يحضرون لزيارة أمهاتهم وكأن هذه الزيارة السنويّة ستنوب عوضا عن المقاطعة شبه الدائمة. ونحن بذلك أصبحنا كالغرب الجاحد في التعامل مع الأم، وينطبق علينا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه). نعم يا رسول الله، اتّبعنا سنّة الغرب في التعامل مع أمهاتنا حتى أصبحنا في خانة العاقين لأمهاتهم، بحجة مشاغل الحياة، ومتطلبات البيت والأسرة، وأمي لها مخصصات شيخوخة لا تحتاجني، والكثير من الأعذار القبيحة التي بتنا نلتمسها لأنفسنا على تقصيرنا مع أمهاتنا بشكل خاص أو مع والدينا، ونسينا أنّ برّ الوالدين عبادة ننال ثوابها في الدنيا قبل الآخرة، لحديث كعب الأحبار: أن الله ليعجل هلاك العبد إذا كان عاقا لوالديه ويعجل له العذاب، وإن الله ليزيد في عمر العبد إن كان بارا بوالديه وليزيده برا.
لذلك أيها المسلم، اجعل جميع أيام السنة أيام عيد لامك ولا تختزلها بيوم واحد.
برّ الوالدين بعد وفاتهما
قد يسأل سائل، وكيف أبرّ أمي بعد وفاتها؟! الجواب يأتينا من خلال هذا الحديث النبوي الشريف: (إذا مات أبن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ولد صالح يدعو له، صدقة جارية أو علم ينتفع به). ومن حديث سعد بن ربيعة الساعدي، قال: يا رسول الله هل بقي من برّ والديّ شيء بعد موتهما؟! قال: بقي من برّهم كثير أن تدعو لهما وأن تصل رحمهما الذي لا يوصل إلا بهما، وأن تصل صديقهما وأن تنفذ عهدهما (وصيتهما). وفي حديث آخر: (إن الرجل لترفع درجاته بالجنة فيقول: أنّى هذا فيقال له: باستغفار ولدك لك).
فيا أيها الأخوة وأيتها الأخوات، ما زالت الفرصة أمامنا أن نبرّ والدينا، سواء كانوا أحياء أو توفّاهم الله، بالدعاء لهم والتّصدّق عنهم وصلة أرحامهم وإن البرّ بالأبوين وبالأم على وجه الخصوص، ليس له وقت محدد أو فترة معينة، بل البرّ واجب علينا ما دام فينا قلب ينبض. وأخيرا وليس آخرا، نسأل الله العظيم أن يطيل عمر أمهاتنا وآبائنا، وأن يرزقنا برّهما وطاعتهما، ومن كانت أمّه ميتة، فنسأل الله أن يجعل قبرها روضة من رياض الجنة. وآخر دعوانا أن صل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.