معركة الوعي (47): المتابعة بعد انتخاب الرئيس المهمات الصعبة وسقف التوقعات
حامد اغبارية
الآن، وبعد أن انتهت انتخابات رئاسة لجنة المتابعة العليا لشؤون فلسطينيي الداخل، واستقر الأمر على انتخاب محمد بركة رئيسا، وبعيدا عن كثير من الكلام التافه الذي قيل بشأن تلك الانتخابات على منصات التواصل الاجتماعي (وهو كلام لا يرقى حتى إلى مستوى أن تشغل نفسك بالتوقف عنده، ناهيك عن مناقشته) بات من الضروري، ومن منطلق المسؤولية الأخلاقية والوطنية، وحرصا على مستقبل مجتمعنا، أن نقرأ المشهد بواقعية، مع عدم إهمال التوقعات والأمنيات والأهداف.
علينا أن نعترف أولا ومبدئيا أن لجنة المتابعة كجسم (وطني) يضم مختلف التيارات السياسية الفاعلة في مجتمعنا الفلسطيني في الداخل، ومعها رؤساء السلطات المحلية العربية وعدد من الهيئات الأهلية مثل اللجان الشعبية ولجنة متابعة التعليم وغيرها، هو جسم لا يملك الكثير من أدوات التأثير وفرض السياسات، سوى الالتزام الأخلاقي والميثاق الوطني (غير المكتوب) وشعور الانتماء لهذا الشعب وهذا المجتمع، والاهتمام بقضاياه وبذل الجهد في معالجتها بما يتوفر من وسائل، وهي وسائل قليلة محاصَرة، تعاني من الكثير من عناصر العجز وأسباب التعطيل في كثير من المحطات.
وإذا توقفنا عن التعامل مع هذه اللجنة (ذات الطموحات الكبيرة والوسائل المتواضعة) على أنها حكومة أو برلمان حقيقي يمكنه تحقيق الطموحات والأهداف، فإننا عندها سنتخلص من الأوهام، وسنعرف الطريق إلى مناقشة القضية بحجمها الطبيعي.
نعم، نريد للجنة المتابعة أن تكون ذات أسنان وأظافر، وأن تكون لديها القدرة على تحقيق الإنجازات الفعلية، ولكنها الآن ليست كذلك، لأنها فعلا وحقيقة دون أسنان ودون أظافر، وشرعيتها تأخذها من مجرد وجودها، ولكن الأهم من ذلك أن هذه الشرعية تكون أكثر ثباتا وقوة إذا ما أخذتها من الدعم الجماهيري. وهذا للأسف ما تفتقده في هذه المرحلة، بعد أن بدأ بارومتر التأييد الشعبي للجنة في الهبوط منذ مطلع سنوات الألفين، وتحديدا بعد أحداث هبة القدس والأقصى، حتى وصل إلى فقدان الثقة. وفي التالي فإننا نظلم اللجنة إذا توقعنا منها أكثر مما تستطيع، أو إذا ألبسناها ثوبا أكبر من حجمها.
إن حجم الملفات والقضايا الملتهبة التي تخص مجتمع الداخل الفلسطيني ضخمٌ إلى درجة أن الشارع بات بحاجة إلى جهة تعالج له قضاياه هذه، بعد أن استقرت لديه القناعة أن السلطات الرسمية لا تريد ولا تسعى إلى معالجتها، بل وتسهم بمنهجية في ترسيخها ومفاقمتها، فلم يجد أمامه سوى لجنة المتابعة يطالبها ويبني عليها الآمال، حتى إذا فشلت (لأنها لا تملك الحلول السحرية) وجّه إليها سهام النقد وشنّ عليها حربا شعواء، دون أن يفكر للحظة أنه إنما بموقفه هذا يساهم في تثبيت هذا الواقع، ويعمل على إضعاف اللجنة، بدلا من أن يساهم في رفع مستوى أدائها من خلال تجديد ثقته بها، وفهم صحيح لدورها وإمكاناتها.
إن الحكمة في التعاطي مع أي قضية تقتضي فهم المعطيات والتفاصيل، وإلا فإن حجم الإحباط سيكون أكبر من حجم التوقعات. وهذا في الحقيقة ما يحدث على أرض الواقع. فحجم توقعات الجمهور من المتابعة، في وضعها الحالي، أكبر بكثير مما تقدر عليه، لذلك فإن حجم الإحباط كبير، حتى تضخَّمَ حجم فقدان الثقة ووصل إلى مستوى يحتاج إلى علاج بالكيّ أو بالصعقة!
فإذا أراد الجمهور لجنة متابعة تمثله حقيقة وتمثل قضاياه، وتكون لها أدوات وأسنان وأظافر فإن الحل في يده هو أولا. عليه بداية أن يعيد الثقة باللجنة، وثانيا أن يضغط ضغطا متواصلا كي تصبح هذه اللجنة بمثابة البرلمان الذي يطمح إليه. وهذا لن يتسنى تحقيقه إلا بالانتخاب المباشر، رئاسة وعضوية. وقد أفضنا عبر عشرات المقالات في الحديث عن هذا الموضوع، ونؤكد مرة تلو المرة أن الانتخاب المباشر هو الذي سيحقق الكثير مما نطمح إليه، وسيعطي الجمهور ورقة لا يملكها الآن، وهي ورقة محاسبة اللجنة على فشلها في أداء دورها، في حين أن لا أحد يملك محاسبتها اليوم إلا من باب واحد؛ وهو باب الالتزام الأخلاقي. كما أن الجمهور سيحقق أهم ما في المسألة، وهو تأكيد الهوية والانتماء من خلال انتخاب مؤسسة وطنية تمثله تمثيلا حقيقيا، وتجتهد في معالجة قضاياه وهي مطمئنة إلى دعم شعبي جماهيري مستعد للتحرك في كل الميادين عند الضرورة.
لذلك فإن سقف التوقعات الماثل اليوم أمامنا هو سقف منخفض لتوقعات كبيرة، ولا مكان لأن نجلد أنفسنا ونضع في عنق اللجنة أمانة لا تستطيع حملها، بينما نحن ننفضُّ من حولها ولا نقدم لها ما يلزم من دعم والتفاف.
إن أمام اللجنة الآن مهمات كثيرة وملفات وقضايا ملتهبة تحتاج إلى معالجة ومتابعة، لكنها مع إمكاناتها المتواضعة لا يمكن ولا يليق بنا، وليس من الفطنة ولا المسؤولية أن نتوقع منها تحقيق المعجزات.
أمام اللجنة الآن مهمة إعادة البناء الداخلي بناء حقيقيا، كخطوة أخرى نحو تحقيق الانتخابات المباشرة. وفي اعتقادي أن هذه أول مهمة لا بد من تحقيقها إذا أردنا لجنة ذات تأثير. وهذه المسألة متعلقة بأداء الأحزاب والحركات وسائر الهيئات المنضوية تحت سقف اللجنة. فإن توفرت الإرادة لدى هؤلاء فإن تحقيق المسألة سهل المنال، وإلا فإن على الجمهور أن يحاسب الجهات المعطلة التي تقف حجر عثرة أمام تحقيق هذا الهدف الوطني. وظنّي أن الجهة أو الجهات التي عطَّلت السير نحو هذا الهدف معروفة للكثيرين، إن لم تكن معروفة للجميع. وربما تأتي اللحظة الحاسمة التي يكون ذكر هذه الجهات بالاسم مسؤولية وطنية وأخلاقية، لكي يعرف من لا يعرف لماذا لا يمكننا حتى الآن التقدم خطوة واحدة إلى الأمام.
وأمام اللجنة اليوم ملف العنف والأرض المسكن وهدم البيوت والتعليم وملفات أخرى كثيرة. ولكن قبل هذا كله أمام اللجنة تحديد وتجديد شكل الموقف والأداء فيما يتعلق بقضية الصراع على فلسطين، أو ما يعرف في الأوساط بالقضية الفلسطينية، ثم تحديد شكل العلاقة مع الجهات الرسمية في المؤسسة الإسرائيلية. فحتى اليوم ما يزال موقف لجنة المتابعة من القضية الفلسطينية يمثل الحد الأدنى من نقاط الالتقاء بين مختلف التيارات داخلها، وهذه النقاط تمثل فقط العناوين الكبرى دون الالتفات إلى التفاصيل الصغيرة، لأن التيارات المنضوية داخل اللجنة لها أجندات وبرامج سياسية مبنية على إيديولوجيات مختلفة ومتنافرة، ولم يسبق لها أن حاولت مجرد محاولة في صياغة ميثاق يضبط المسألة ويقدم موقفا واحدا من هذا الملف. والموقف من اتفاقية أوسلو أكبر مثال على ذلك، لكنه ليس المثال الوحيد.
كذلك فإن اللجنة لم يسبق لها أن ناقشت قضية العلاقة مع المؤسسة الإسرائيلية، خاصة وأن الخلافات حول هذه القضية أشد شراسة من التناقضات في المواقف من الأداء السياسي والوطني بخصوص القضية الفلسطينية، خاصة وأن انقسام التيارات (والجمهور) حول مسألة انتخابات الكنيست والاندماج والأسرلة هو انقسام حادٌ، يصل حد الحساسية المنفرطة.
إن الطريق إلى لجنة متابعة منتخبة وذات تأثير ربما يكون طويلا، ويحتاج إلى الكثير من التجهيزات، لكنه بالتأكيد ليس بعيدا إلى الحد الذي يستحيل معه الوصول. بالتأكيد يمكننا الوصول إلى هذه المرحلة. ويفضل أن يكون هذا الوصول سريعا قريبا، قبل أن نجد أنفسنا داخل مربعات فُرضت علينا، ولا نملك الخروج منها.
وختاما أنصح، بل أدعو إلى عقد مؤتمر عام تشارك فيه جميع القوى والتيارات والهيئات الأهلية والجمعيات وأهل الاختصاص، تقدم فيه أوراق تناقش مستقبل المجتمع الفلسطيني في الداخل للسنوات العشر القادمة، وعلى رأس هذه الأوراق مستقبل المتابعة وملف الانتخاب المباشر….