الرئيس الفلسطيني والإصرار على البقاء في الحضن الإسرائيلي
الإعلامي أحمد حازم
في خريف عام 1992 قمت بزيارة لتونس للّقاء بقيادات فلسطينية سياسية وعسكرية، خصوصًا أنني ارتبطت بعلاقات صداقة مع الكثير منهم. وقتها قررت أن ألتقي بالصديق القيادي ممدوح نوفل، أحد أهم كبار المستشارين العسكريين للرئيس الراحل عرفات، والمعروف لدى الفصائل الفلسطينية بمصداقيته وقوة أدائه السياسي والعسكري. ذهبت إليه بعد موعد مسبق (لظروف أمنية) خصوصًا أن مكتبه كان في مكان منعزل تماما عن مكاتب القيادات الفلسطينية. تطرقنا إلى اسم محمود عباس، الذي كان من المفترض أن ألتقي به، فقال لي نوفل بالحرف الواحد: “إتركك منّو هادا واحد ملوّن أحسن ما تشوفو”، وسمعت نصيحته، ولماذا لا أسمع نصيحة مستشار يصغي إليه أبو عمار.
وما حدث في الأيام الأخيرة من تغيير موقف “أبو مازن”، أي عودته طوعًا إلى التنسيق الأمني، وإعادة السفيرين الفلسطينيين إلى الإمارات والبحرين بعد أن سحبهما من هناك، يعيد إلى ذهني ما قاله لي ممدوح نوفل.
الرئيس الفلسطيني أصدر بيانًا في الثالث عشر من شهر آب/أغسطس الماضي حول اتفاقي التطبيع بين الإمارات والبحرين وإسرائيل، قال فيه: إن الاتفاق خيانة للقدس والأقصى والقضية الفلسطينية، وإن هذه الخطوة تعتبر نسفا للمبادرة العربية للسلام وقرارات القمم العربية والإسلامية والشرعية الدولية، وعدوانا على الشعب الفلسطيني، وتفريطا بالحقوق الفلسطينية والمقدسات، وعلى رأسها القدس والدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من (يونيو) حزيران للعام 1967. وفي 13 أغسطس/ آب، استدعت وزارة الخارجية الفلسطينية، سفيرها في أبو ظبي للتشاور، وفي 11 سبتمبر/ أيلول استدعت سفيرها في البحرين.
عباس نفسه أعلن عن إعادة السفيرين وكأن أسباب سحبهما قد تلاشت. لكن بعض المحللين السياسيين الفلسطينيين يرون “أن القيادة الفلسطينية تجاوزت مرحلة الصدمة من التطبيع، وباتت مقتنعة بعدم جدوى فتح أية معارك مع دول عربية، وأن السلطة تتوجّه إلى التعايش والتكيف مع هذا الواقع، الذي قد يمتد فيه قطار التطبيع لدول أخرى، في وقت لا تملك فيه القيادة الفلسطينية أي أوراق ضغط لوقفه”. لكن هذا التبرير التحليلي ليس مقنعًا، فإذا كانت القيادة الفلسطينية مقتنعة به، فإنها بذلك تعلن خنوعها واستسلامها وفشلها السياسي.
أبو مازن أعلن في التاسع عشر من شهر مايو/أيار أن “منظمة التحرير ودولة فلسطين أصبحتا في حل من جميع الاتفاقات والتفاهمات مع الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية بما فيها الأمنية”. وفي اليوم نفسه أعلن رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية أن قرار القيادة الفلسطينية بشأن وقف العمل بالاتفاقيات مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية أصبح سارياً. وتم إبلاغ الجانب الإسرائيلي بأن وقف التنسيق الأمني دخل حيز التنفيذ.
ويبدو أن الرئيس عباس لم يستطع البقاء بعيداً عن الحضن الإسرائيلي، فعاد إلى الارتماء به مجدداً. وكأن من يرضع سياسيًا من الثدي الإسرائيلي يظل متعلقاً به ولا يمكنه الفطام عنه. فقد أعلن وزير الهيئة العامة للشؤون المدنية الفلسطينية، حسين الشيخ قبل أيام قليلة عبر حسابه على “تويتر” أن التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل سيعود الى ما كان عليه قبل 19 أيار/مايو 2020، حين أعلنت السلطة وقف هذا التنسيق رسميا وأن “عودة العلاقات جاءت بعد إعلان اسرائيل استعدادها الالتزام بالاتفاقيات الموقعة سابقا بين الطرفين، وتلقي الرئيس الفلسطيني محمود عباس رسائل رسمية ومكتوبة تؤكد هذا الالتزام”.
ولا شك أن عودة التنسيق المدني والأمني يعني حل مشكلة عائدات الضرائب المستحقة على إسرائيل وإعادة تحويلها لوزارة المالية الفلسطينية، وتصل إلى نحو 180 مليون دولار شهريًا، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن السلطة الفلسطينية كانت رفضت تسلم الأموال مباشرة من إسرائيل منذ مايو/أيار الماضي، بعد قرار الرئيس الفلسطيني وقف العمل بجميع الاتفاقيات مع إسرائيل، رداً على مخطط الضم الإسرائيلي لأجزاء من الضفة الغربية.
القيادة الفلسطينية تكذب بكل وضوح على شعبها لسببين: أولهما أنها لم تتلق رسائل رسمية من قادة سياسيين مسؤولين كبار في الحكومة الإسرائيلية، إنما من ضابط ارتباط مسؤول عن الشؤون المدنية في الضفة الغربية، وثانيهما، أن التعاون مع إسرائيل لم يتوقف منذ توقيع اتفاق أوسلو في العام 1993. والكل يعرف أن محمود عباس وكل مسؤول فلسطيني كبير آخر لا يستطيع مغادرة بيته في رام الله من دون إذن إسرائيلي.
السلطة الفلسطينية تعرف تمام المعرفة أن إسرائيل لا تلتزم بالاتفاقيات وما يهمها هو مصالحها والتجارب كثيرة في هذا الشأن. والرسائل الإسرائيلية لن تشكل ضمانة تجبر إسرائيل على تنفيذ تعهداتها لأنها، كما قال محلل سياسي “رسالة من ضابط التنسيق الإسرائيلي المكلف بالاتصال السياسي والإداري مع السلطة، وهو دون حتى المستوى الأمني، والشيء المضحك المخزي في نفس الوقت أن “شلة” عباس اعتبروا العودة للتنسيق الأمني انتصارًا، لكن الحقيقة هي انتصار على الوهم ليس أكثر”.
وإذا كان المسلمون قد رفعوا شعار “إلا رسول الله” في وجه ماكرون الفرنسي دفاعًا عن دينهم، فأبو مازن يرفع شعار “إلا التنسيق الأمني” ضد شعبه إخلاصاً لإسرائيل ونفاقًا للأمريكي القادم بايدن.