ليلى غليون
أحس رجل وهو يسير في الشارع أن أحدا ما يسير خلفه، فالتفت وإذا هو رجل تبدو عليه علامات الفقر، فقال في نفسه ممتعضا: هؤلاء الشحاذون دائما يلاحقوننا ليطلبوا منّا النقود، فتقدّم منه الرجل قائلا: عفوا يا أخي، هذه محفظتك لقد سقطت منك.
ليت شعري كم هي المرات وكم هي الحوادث التي تمرّ بنا نكون فيها على قناعة تامة بوجهة نظرنا وبتفكيرنا حول أشخاص مرّوا في دروب حياتنا قريبين كانوا أم بعيدين، لنضعهم في قوالب جاهزة وجامدة من الأحكام المسبقة والمتسرعة والمفهوم ضمنا، ونصبّ عليهم صبًا من أكواب سوء الظن، لنكتشف بعد برهة قصيرة أن هذا المفهوم ضمنا وهذا الحكم المسبق ما هو إلا صفعات منّا مؤلمة وقاسية لا مبرر لها سمحنا لأنفسنا بل أطلقنا لها العنان لإصدار أحكام على الغير بلا بيّنة ولا دليل، ربما هو سوء الظن الذي تقوقعت فيه نفوسنا لا تبرحه أبدا، بل نراها تتفنن في كيل الاتهامات تشرّق وتغرّب وتؤلّف وتصدّق كل ما تحيك من اتهامات ليست في الحقيقة سوى أسس واهية ما لها من قرار، ولو يدري الواحد منّا وهو يوجه إصبعه نحو غيره بالاتهام، أن باقي أصابع يده الأربعة موجّهة نحوه هو وكأنها تقول له انتبه ففيك من الأخطاء ما فيك، ولكن أنّى له أن يراها وقد جعل سهام عينيه جلها مصوبة نحو أخيه يفتش له عن زلة هنا أو عثرة هناك حتى إذا وجد ما أهمه وكأنه وجد صيدا سمينا لم تكد الدنيا لتسعه من فرحته، فتراه يرى القشة في عين أخيه ولا يرى الخشبة في عينه.
فلا اعتقد اني أبالغ لو قلت، إن الغالبية منا وقعوا في مصيدة الأحكام المسبقة والمفهوم ضمنا، فبعضنا قد صدرت منه هذه الأحكام، والبعض الآخر من كان ضحية لهذه الأحكام والتي في غالب الأحيان مبنية على العاطفة والنظرة السطحية فقط! والأدهى والأمرّ أن هناك من يصدر الأحكام المسبقة على الغير من خلال أشكالهم كأن يقول مثلا: (فلان من شكله طيب) أو (فلان شكله صاحب مشاكل) أو (فلان من وجهه مبين عليه الغباء) وغيرها، لنتبنى من خلال هذه الأحكام المسبقة الآراء والمواقف والانطباعات والقبول أو الرفض بلا دليل، وقبل التعامل مع أصحابها أو معرفتهم، وهذا برأيي أحد أشكال الظلم غير المبررة والذي قد يؤدي إلى الندم والعواقب الوخيمة.
ولست أعني في هذا المقام (الفراسة) والتي عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله…..) وهذا النوع من الفراسة من الحياة والنور الذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده فيحيى القلب ويستنير فلا تكاد فراسته تخطئ، ولكني اقصد ألا نتسرع في الحكم على الناس ولا نجعل من المظاهر متكأ للحكم عليهم أو تصنيفهم.
فعن سهل بن سعد الساعدي، قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: مَا تَقُولُونَ في هَذَا؟ قَالُوا: في هذا نقول: هذا من أشرف الناس هذا حَرِيٌّ، إِنْ خَطَبَ، أَنْ يخطب، وَإِنْ شَفَعَ، أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ: أَنْ يُسْمَعَ لقوله، فسَكَتَ النبي صلى الله عليه وسلم، وَمَرَّ رَجُلٌ آخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَا تَقُولُونَ في هَذَا؟ قَالُوا: نقول: والله يا رسول الله، هذا من فقراء المسلمين، هذا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ، لمَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ، لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ، أَنْ لاَ يُسْمَعَ لقوله. فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: لهَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا.
قال الإمام الحسن البصري – رحمه الله: المؤمن وقاف حتى يتبين.
وقال ابن الجوزي – رحمه الله: ما اعتمد أحد أمراً إذا هم بشيء مثل التثبت، فإنه متى عمل بواقعة من غير تأمل للعواقب،
كان الغالب عليه الندم. وما أجمل ما قيل في هذا الباب:
لا تحمدن أحداً حتى تجربه ولا تذمنه من غير تجريب
فحمدك المرء ما لم تبله خطأ وذمك المرء بعد الحمد تكذيب.
فكم تسببت أحكامنا المسبقة وثقافة المفهوم ضمنا في جرح مشاعر وكسر خواطر ربما من الصعب ترميمها، وكم تسببت في قطع سبيل التقدم والنجاح على أشخاص حكمنا عليهم سلبيا بنظرتنا القاصرة المسبقة عليهم وعاطفتنا السلبية؟ وكم عرقلت أحكامنا المسبقة من تقدم في العلاقات الاجتماعية أو الأسرية أو الزوجية وقطعت أواصر المحبة وتسببت في خصومات لنكتشف بعدة برهة من الزمان كم كنا مخطئين بل كم كنا ظالمين في أحكامنا؟! وكم تسبب حكمك المسبق على ابنك وأنت تنعته: (يا غبي، يا فاشل!!) فحكمت على مستقبله بالفشل قبل أن يخوض تجارب الحياة؟! فحقق قبل أن تحكم ودقق قبل أن تصنف. وإذا كان من غير المعقول بل هو الظلم والإجحاف أن تتعامل مع غيرك وفق منطق الحكم المسبق والمفهوم ضمنا، فان الظلم الأشد أن تقبل لنفسك ذاك الحكم الجائر وتتبناه وتؤمن به وتتعامل أنت مع نفسك بمقتضاه، كأن تحكم على نفسك بأنك عاجز ولا تستطيع من قبل أن تخوض التجربة، أو أن تصدق لنفسك ما يعتقده عنك الآخرون، أو أن تستسلم لأحكامهم عليك وتؤمن بها فتهرب من الواقع أو تتهرب من المواجهة لتشتعل مشاعر سلبية في داخلك تجاه نفسك، فتظلمها ظلما عظيما.
فارسم أنت لوحة حياتك، ولوّنها أنت بما تراه مناسبا وكما قال أحد الحكماء: (لا تدع غيرك مهما كان يلون لك حياتك، فقد لا يحمل بيده سوى قلما أسود، كن أنت رساما بارعا في رسم لوحة حياتك واستخدم لها أجمل الألوان…لأنها حياتك أنت فقط).