الرسائل الخفية في الإعلام وكيف تجدها (9)
عائشة حجار- محاضرة جامعية وطالبة دكتوراه في الإعلام الحديث
مرة أخرى، نصل إلى حضض جديد في علاقة المعلمين مع الطلاب وذويهم. هذه المرة انتهكت خصوصية المعلمين واحترامهم، عبر نشر مقاطع من الدروس التي يقدمونها ضمن المهمة التعجيزية المسماة التعليم عن بعد، مهمة تلزمهم بتمرير منهاج تقليدي بطريقة غير تقليدية لم يتم تأهيلهم لها حتى السنة الماضية. ليس علينا الاستماع للمقطع، لنفهم أن مجرد تحضيره ونشره قلة أدب في أحسن الاحوال، وليس هناك حاجة لتكون عالما فذّا لتفهم أن الكلمات التي يصرخ بها المعلمون في المقاطع، أتت كرد فعل لتصرفات مزعجة، مهينة، وقد تكون شتائم من قبل الطلاب الذين يجب على الأهل والمعلمين أن “يحتووهم”، ولا أعلم ما الحاجة في احتواء الأذى. على كل حال، لنعد إلى موضوعنا الأساسي، فمعظمنا على الأغلب تحدث عن انتهاك الخصوصية وهيبة المعلم في المقاطع، دعونا نتناول للحظة ما لم يتناوله رواد مواقع التواصل حول هذا الفيديو بشكل خاص والتعليم عن بعد بشكل عام.
النقطة الأولى التي لا بد من الحديث عنها، هي أن فشل التعلم عن بعد ليس بسبب التكنلوجيا أبدا، التكنولوجيا- الزوم أو غيره، هي قناة توصل بين الناس لا أكثر ولا يمكن تذنيبها. المشكلة أعمق من هذا، المشكل في مبنى مجتمع غير جاهز لمثل هذا التغيير. المشكلة الأكبر في مجتمع لا يعتمد على معلميه، بل لا يعتمد على أي سلطة موجودة اليوم. سأشرح الفكرة بطريقة مرتبة أكثر: مجتمعنا يعاني أزمة ثقة مع كل سلطة حوله بشكل طبيعي، بما أننا شعب تحت احتلال، الثقة بين أبناء المجتمع الفلسطيني في الداخل والمؤسسات الحكومية مزعزعة جدا حسب كل إحصائية ممكنة. قلة الثقة هذه تترجم في التشكيك بكل منظومة رسمية، يشمل جهاز التربية والتعليم. جاء وباء كورونا ليطفو الشك إلى السطح ولتترجم كل القرارات الحكومية تقريبا، وبحق، على أنها تتجاهل المجتمع العربي في أفضل الحالات وتضره في حالات أخرى، ليصل البعض إلى قناعة أن وباء كورونا موجه أساسا ضد المجتمع الفلسطيني وما هو إلا مسرحية للتخلص منا.
لنعد للمدرسة، المدرسة كانت المؤسسة الحكومية الوحيدة التي يبدي الأهالي بعض الثقة فيها، إلا أن مؤسسات تأهيل المعلمين وعوامل أخرى جعلت المعلم أقل قليلا من شخص يعلم أكثر من غيره. ما علاقة كل هذا بشبكات التواصل الاجتماعي والإنترنت بشكل عام؟
ظهور الإنترنت جعل المعلومة أمرا في متناول يد الجميع، طبعا ليس الجميع يستقي المعلومة، لكن الجميع يعتقد أنه يعرف حتى وإن لم يكن يعرف، ومن الذي نلجأ اليه لكي نعرف؟ المعلم. ادمج هذا الأمر مع عبقرية أجهزة التعليم العالي في البلاد بجعل تخصص التدريس تخصصا يمكن دراسته بأقل المقومات، وازدياد نسبة المتعلمين في مجتمعنا وستحصل على أهال يعتقدون أن المعلم هو موظف مثلهم بالضبط ينجز عملا عاديا، ستحصل أيضا على طلاب لا يرون قيمة للمعلومة التي يحملها هذا المعلم.
أمّا عن الشبكات الاجتماعية، فتشير الأبحاث منذ العقد الماضي، إلى أن استخدامها يؤثر سلبا على السلطات التقليدية، كونها تعطي منصة لكل من هبّ ودبّ، يعني يمكن أن تجادل الناشطة في مسألة فقهية، وأن يفتي المهندس في شأن طبي، لا أحد يسأل أنّى لك هذا العلم، بل الجميع يعرض علومه في كل حقل بلا أي تدقيق أو محاسبة. إحدى أبرز المهن التي يمكن أن تفقد سلطتها مع وجود مواقع التواصل هي مهنة المعلم كونه أصبح “شخصا مثلنا” وكون فعل التدريس لم يعد طقسا يمارس بين جدران المدرسة بل هو عمل عام يستمر كل النهار. وعندما يحصل ولد يبث وقائع جلوسه أمام حاسوبه أثناء شوط “بابجي” على ملايين المشاهدات، فاعلم أن الأولويات قد اختلطت على هذا الجيل. إنهم جيل دخل العالم الرقمي بلا خارطة، فضاع فيه بعد أن دخل جيل والديهم عالم الأمومة والأبوة بخارطة ناقصة وضاعوا هم أيضا هناك. اخلط كل هذا التعقيد بمجتمع يمرّ شبابه بتسفيه ممنهج حينا، وعفوي حينا آخر وستحصل على مقطع من صرخات المعلمين اليائسين بعد أن أثار مجموعة من الأولاد جنونهم.