“أوسلو”.. مشروع مأزوم وطريق مسدود (4).. مرحلة ما بعد “أوسلو”
ساهر غزاوي
مرحلة ما بعد أوسلو
إن مرحلة ما بعد “أوسلو” وكثمن لقيام السلطة الفلسطينية في المناطق التي يخليها الاحتلال الإسرائيلي في إطار العملية السياسية التي اعترف الراحل ياسر عرفات فيها بحق إسرائيل بالوجود، تم التراجع فيها عن نصوص الميثاق الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية، ونبذ المقاومة التي اصطلح على تسميتها “بالعنف والإرهاب”. في هذه المرحلة الجديدة، انتهى الكفاح المسلح كمكوّن من مكونات المشروع الوطني، وانفصلت المقاومة عن السياسة، وغدت متناقضة معها. وأصبحت المقاومة المسلحة مقاومة من لا يشاركون في العملية السياسية، بل ويقفون خارج المشروع الوطني لبناء الدولة، وأصبحت مكافحة الإرهاب من ضمن مهام مشروع السلطة الوطنية وعملية بناء الدولة. وفي حالات كثيرة، أصبحت المقاومة المسلحة موجهة ضد العملية السياسية المسماة “عملية السلام”. وكان ياسر عرفات آخر من حاول التوفيق بين الأمرين تكتيكياً، ولا سيما حينما وصل التفاوض إلى طريق مسدود. وقد دفع حياته ثمناً لمحاولة الجسر بين خياريْن، أصبحا متناقضين في عصر التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي والتزاماته وما زال هذا المأزق مستمر حتى يومنا هذا. وفي “كامب ديفيد” تبين أن الاتفاق على الحل الدائم مع الاحتلال الإسرائيلي غير ممكن في المفاوضات الثنائية، وأن شروط قيام الدولة الفلسطينيّة التي تضعها إسرائيل تنفي الدولة والسيادة في الجوهر، وتجرّدها من القدس أيضاً. أما بخصوص قضية اللاجئين، فقد جرى التكتم على التسليم عملياً بعدم تحقيق حق العودة.
لتلخيص التحولات التي أصابت السلطة الفلسطينية منذ توقيع اتفاق “أوسلو” وما بعده، فإن أخطر نتائجه التي تجلت على أرض الواقع تكمن في منح الشرعية لوجود دولة إسرائيل من دون اشتراط شرعية مقابلة لدولة فلسطينية. وتضاعف عدد المستوطنين ليتجاوز نصف المليون، وامتدت مساحات المستوطنات لتحوّل الضفة الغربية المحتلة، بعد إخراج القدس منها.
فوفقاً لتقرير توثيقي، صدر عن مركز أبحاث الأراضي التابع لجمعية الدراسات العربية مع مرور 25 عاما على “أوسلو” فإن حجم التوسع الاستيطاني تضاعف أربع مرات، منذ التوقيع على اتفاق “أوسلو” بين منظمة التحرير الفلسطينية والجانب الإسرائيلي. وعدد المستوطنات المقامة على الأراضي الفلسطينية بالضفة الغربية والقدس المحتلتين، وقطاع غزة المحاصر، تضاعف من 144 مستوطنة قبل توقيع اتفاق “أوسلو” إلى 515 مستوطنة وبؤرة استيطانية حتى أيلول/سبتمبر 2018. كما أفاد التقرير، أن عدد المستوطنين تضاعف في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بأكثر من ثلاث مرات وارتفع من 252000 قبل أوسلو إلى حوالي 834000 مستوطن اليوم. أما مساحة الأراضي التي تم الاستيلاء عليها لصالح المشروع الاستيطاني، والتي كانت تبلغ مساحتها قبل اتفاق “أوسلو” حوالي 136000 دونما أصبحت حوالي 500000 دونم أي بزيادة قدرها حوالي 368% مقارنة ما كانت عليه. فيما أمعن الاحتلال الإسرائيلي في تقطيع أوصال الضفة، وإنشاء جدار الفصل العنصري، ونشر حوالي 839 حاجزا للفصل وعزل التجمعات الفلسطينية بعضها عن بعض.
وقد ألزم اتفاق “أوسلو” وملحقاته السلطة الفلسطينية بأن تكون سلطة خاضعة للابتزاز، بموجب العديد من الاتفاقيات التي تسمح للاحتلال الإسرائيلي بابتزازها وتغيير دورها ووظيفتها من سلطة وطنية إلى سلطة تحفظ أمن الاحتلال بموجب بعض الاتفاقيات الأمنية، والاقتصادية كاتفاقية باريس، وبذلك جعلت السلطة الفلسطينية نفسها بهذا الاتفاق ملزمة بأن تجعل الاحتلال الإسرائيلي احتلالًا ناعمًا نظيفًا غير مكلف. وقد بات من الواضح أن اتفاق “أوسلو” عزّز من أمن وشرعية الكيان الإسرائيلي، وأضعف الحالة الفلسطينية، وساهم في تشويه صورتها أمام العالم أجمع.
وفيما يتعلق بالشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، فإن النتائج المترتبة على اتفاق “أوسلو”، أدت إلى ظهور سلطة غير قادرة على تمثيل طموحات الشعب الفلسطيني، لتقوقعها في “كمائن” المفاوضات، وغرقها في تعقيدات يريح وجود إسرائيل من تحمّل تبعات الاحتلال. وصبّت جهدها في حالات كثيرة في ضبط إيقاع الشعب الخاضع لسيطرتها حسب مجسّات ومعايير “التنسيق الأمني” من جهة، ومحاولة رفع مستوى المعيشة من جهة أخرى، من دون أن تكون قادرة على تجاوز هذا الدور الوظيفي الذي كرّس تغييب منظمة التحرير الفلسطينية وتحويلها إلى أداة بأيدي السلطة والمتنفذين فيها، بعد أن كان يفترض أن تكون السلطة أداة في يد منظمة التحرير وإبقاء هيئة فلسطينية يمكن الرجوع إليها في حال فشلت الاتفاقية، وفي حال لم تحقق السلطة الوطنية الغاية المرجوة منها مرحليًا لنقل الشعب الفلسطيني من حالة الاحتلال إلى حالة بناء دولة .
بعد كل ما سلف، فإن فترة ما بعد اتفاق “أوسلو” هي الفترة التي زُرعت خلالها بذور اقتراب الحركة الوطنية الفلسطينية من حافة الفشل والانهيار. وذلك لأنها شهدت فشل الحركة الوطنية الفلسطينية بتحقيق أي هدف من أهدافها المعلنة. بل إن الحركة الوطنية الفلسطينية وصلت إلى مرحلة الهلاك والنهاية مع بداية القرن الحالي، ويكمن فشل الحركة الوطنية الفلسطينية في طبيعة النظام السياسي الذي أسسه ياسر عرفات بعد “أوسلو” لعدة عوامل من أبرزها إضافة إلى ما تم ذكره آنفا، الحركة الوطنية الفلسطينية وصلت إلى مستوى كبير من الصراع، خصوصا بعد سطوع نجم حركة “حماس” في سنوات التسعين، والتي طرحت نفسها كبديل لمنظمة التحرير الفلسطينية وبرنامجها، على أساس اجتماعي، وما سببه هذا الظهور لحماس من استقطاب في المجتمع الفلسطيني. هذا على الصعيد الداخلي، أما على الصعيد الخارجي، فقد تراجعت مكانة الحركة الوطنية الفلسطينية بشكل دائم ومضطرد على المستويين العربي (بين الدول العربية) والعالمي (بين دول العالم عموما).