“أوسلو”.. مشروع مأزوم وطريق مسدود (3)
التحولات التي أصابت السلطة الفلسطينية منذ توقيع اتفاق "أوسلو"
التحولات التي أصابت السلطة الفلسطينية منذ توقيع اتفاق “أوسلو”
ساهر غزاوي
بعد أن وقفنا في المقالة السابقة عند نتائج تداعيات اتفاق “أوسلو” التي أثقلت على القضية الفلسطينية ومشروعها التحرري برمته التي بيّناها عبر نقاط خمس، ننتقل في هذه المقالة إلى الحديث عن التحولات التي أصابت السلطة الفلسطينية منذ توقيع اتفاق “أوسلو”.
هيأ اتفاق “أوسلو” تحولات واسعة في الحقل السياسي الفلسطيني، أبرزها انتهاء دور منظمة التحرير الفلسطينية وقيام سلطة وطنية على جزء من إقليمها الفلسطيني. وسعت السلطة الفلسطينية إلى نقل عملية صنع القرار السياسي الفلسطيني من أطر ومؤسسات منظمة التحرير إلى أطر ودوائر ووزارات تابعة للسلطة. تتألف السلطة الوطنية الفلسطينية من أعمدة ثلاثة: تشريعية وتنفيذية وقضائية.
ومع قيام السلطة الفلسطينية انتقلت عملية صناعة “الهيمنة” في الحقل السياسي الجديد من أطر منظمة التحرير الفلسطينية إلى أطر سلطة فلسطينية تسعى للتحول إلى دولة على إقليم فلسطيني. ولذا باشرت فور قيامها منح نفسها رموز دولة حديثة وشكلها، في المجالات المتاحة لها وفقاً لاتفاق “أوسلو” والاتفاقات اللاحقة. غير أن اتفاق “أوسلو” أسس لتراجع مريع في المشروع الوطني الفلسطيني، فحوّله من مشروع يهدف إلى تحرير كل فلسطين إلى سلطة حكم ذاتي تتطلَّع إلى إنشاء دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع؛ لكنّها مرهونة بإرادة الاحتلال واعتباراته ومتطلباته. إلا أن اتفاق “أوسلو” لم يحقق جوهر الفكرة التي بنيت عليها، وهي التحول من سلطة حكم ذاتي إلى دولة مستقلة كاملة السيادة على فلسطين المحتلة سنة 1967 (الضفة الغربية وقطاع غزة). في حين وصلت الجهود الرامية إلى إقامة دولة فلسطينية وحل النزاع إلى طريق مسدود بسبب الانقسام الداخلي العميق الذي نشأ والذي يتعارض مع الوحدة الوطنية، بسبب شرعنته للصراع الداخلي وشرعنة ضرب المقاومة الفلسطينية.
بدأ الانقسام السياسي في الساحة الفلسطينية، بدأ مع توقيع اتفاق “أوسلو”، فلم توافق أغلب فصائل العمل الوطني والإسلامي على هذا الاتفاق، ولكن حركة فتح وبعض الفصائل وافقت على ذلك إلى أن أصبح هذا الاتفاق واقعًا على الأرض، وساهم “أوسلو” في إحداث اختلال في البنية الطبقية للمجتمع الفلسطيني، فبعد أن كان مجتمعنا في أغلبه ينتمي إلى الطبقة الوسطى بعد “أوسلو” أصبح ينتمي إلى طبقتين فقيرة وغنية، وساهم هذه الاتفاق في إيجاد سلطة تحت الاحتلال أوجدت جماعات مصالح للحفاظ على بقائها، والصراع عليها إلى أن حدث الانقسام السياسي والجغرافي بين فتح وحماس وغزة والضفة الغربية، واستغل الاحتلال ذلك لينفرد بالجميع، وتبدأ مراحل تصفوية أخرى للقضية الفلسطينية .
الوقائع على الأرض التي أوجدتها الاتفاقات الموقعة منذ اتفاق “أوسلو” ما زالت تفرض وجودها من خلال قيام الكيان الإسرائيلي بممارسات وفرض وقائع تتجاوز الاتفاقات الموقعة، كبناء جدار الفصل واستمرار الاستيطان. لذلك فقد أصبحت القضايا الكبرى في مهب الريح، وعلى رأسها: القدس، واللاجئون، والمستوطنات، وحقّ تقرير المصير، وحدود الدولة، والسيادة عليها، والثروات الطبيعية. بالإضافة إلى الجدل الدائر في الأوساط الفلسطينية عما إن كان من المصلحة الوطنية إنهاء السلطة الفلسطينية وما يرتبط بها من تنسيق أمني، أم الحفاظ عليها لأنها أوجدت مكتسبات يجب الحفاظ عليها، كالمؤسسات والإدارات، وشبكة علاقات دولية، قد تساعد في مرحلة بناء الدولة. وتحوَّل الحكم الذاتي إلى حالة “تأبيد” تخدم أغراض الاحتلال أكثر مما يخدم المشروع الوطني. كما أنه تم تقزيم منظمة التحرير الفلسطينية، فتراجعت مؤسساتها، وأُفرغت من محتواها، وضَمُرت حتى تحولت إلى “دائرة” من دوائر السلطة الفلسطينية. وتم إدخالها إلى غرفة الإنعاش، بحيث يتم استجلابها لطبع “الأختام” لشرعنة السلوك السياسي لقيادة السلطة وفتح.
ومع تمركز القيادة الفلسطينية وسلطتها تحت الاحتلال، أصبح الاحتلال الإسرائيلي هو الحاضر الغائب في صناعة القرار الفلسطيني، وعنصرا فاعلا في اعتباراته؛ وتقوم السلطة بدورها كأداة وظيفية ووكيل محلي للاحتلال. فلا يمكن للسلطة أن تعمل على الأرض، أو أن تقوم حكومتها بمهامها، أو تجتمع، أو يجتمع مجلسها التشريعي، أو تحدث انتخابات رئاسية أو برلمانية أو حتى بلدية.. دون سكوت الاحتلال أو رضاه. وبالتالي فعلى أي جهة تريد أن تدير حياة الناس تحت الاحتلال أن تأخذ موافقته، ما دامت لا تستطيع انتزاعها. وهذا أعطى للاحتلال الإسرائيلي فرصاً واسعة لاستخدام أدوات ضغط هائلة على القيادة الفلسطينية وعلى الشعب الفلسطيني من خلال تعطيل مؤسساته واعتقال قيادته وخنقه اقتصادياً وتدمير البنى التحتية. بحيث أصبح سلوك الإسرائيلي المحتمل محدداً أساسياً في نقاشات ومفاوضات المصالحة الفلسطينية وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني.
وقد تبلور وتعزز الأداة الوظيفية للسلطة الفلسطينية بعد “أوسلو” من خلال ايجاد المؤسسات والإدارات والوظائف التي توهم بوجود سلطة ذات سيادة. بحيث حولت منظمة التحرير الفلسطينية نفسها من حركة تحرر وطني، إلى ما يشبه حكومة بلدية صغيرة تتزعمها الحفنة نفسها من الأشخاص. فقد أغلق مكاتبها في الخارج، أو باعتها، أو تجاهلتها عمدا، مع أنها كانت ثمرة كفاح مضن دام سنوات، وهو الذي أسفر عن منح الفلسطينيين حقهم في تمثيل أنفسهم.
وبناء على ذلك، فإن قيام السلطة الفلسطينية وتضخيم وظائفها بعد اتفاق “أوسلو”، أدّى تلقائياً إلى تعرض بنية ودور ومؤسسات منظمة التحرير بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده إلى عملية تفكيك وتبديد لأدوارها الرئيسة. حيث أن “أوسلو” لا ينضوي في إطاره من الناحية الموضوعية سوى جزء من أبناء الشعب الفلسطيني وهم أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة (حاملي الرقم الوطني). الأمر الذي أدى إلى تهميش الشتات الفلسطيني من ناحية، والجماهير الفلسطينية في أراضي عام 1948 من ناحية ثانية، وعزلهم سياسيا عن الجماهير الفلسطينية في الضفة والقطاع من ناحية ثالثة. وتقسيم بنية الحركة الوطنية الفلسطينية بشكل شامل ومركب. حيث باتت تعيش انقساما جغرافيا وديمغرافيا يشمل الحياة الفلسطينية بكافة مناحيها السياسية الاقتصادية والاجتماعية والمهنية والأيديولوجية والتنظيمية. وعلى هامش ذلك تفشت العديد من الظواهر الاجتماعية السلبية مثل نمو ظاهرة الانتماءات الجهوية والعشائرية والعائلية التي تنتشر في المخيمات والمدن والقرى.