معركة الوعي (35).. الذيــــن قالــــوا “لا”! (14)
حامد اغبارية
مدخل
قليلون هم الذين قالوا “لا”! لكنّهم على قلّتهم فرضوا بمواقفهم الثابتة معادلةً جعلت الذين أرادوهم أن يقولوا “نعم” يُجيّشون لهم جيوشا مدججة بكل أنواع السلاح العسكري والاقتصادي والإعلامي والثقافي، سعيا إلى الشيطنة والتشويه والملاحقة والبطش والاجتثاث، فما ازداد الموقف إلا صلابة، وما ازداد المشهد إلا وضوحا، وما ازداد الذين رفضوا السير في الركب إلا عنفوانا، وما ازداد الذين راودوهم عن مواقفهم إلا فشلا، حتى أصبح العالم وقد انقسم إلى فُسطاطين لا ثالث لهما، اللهم إلا من “فُسَيْطِطِ” المنافقين الذين ربطوا مصائرهم بمن يظنون- مخطئين- أنه غالبٌ في كل الأحوال.
في هذه السلسلة التي قد تستغرق صفحات كثيرة، محاولةٌ لفتح البصائر على حقيقة الصراع الدائر بين الذين قالوا “لا”، وبين الذين يريدون فرض أجندتهم على أهل الأرض جميعا، أو بالأحرى فتح البصائر على حقيقة الحرب التي يشنها فسطاط الشيطان على الذين استقر في نفوسهم قول “لا” في كل الأحوال كذلك.
هذا ليس لغزا من الألغاز، ولا هي طلاسم يصعُب فهمُ كنهها. إنه حديثٌ عن أهل الحق القابضين على الجمر في زمن السنين الخداعة التي يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. إنه حديثٌ عن الذين لم تفارقهم شجاعة المؤمنين ورباطة جأش المرابطين على الثغور، رغم ما يبدو للرائي من ضعف قوّتهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس وتخلي الأقربين عنهم.
هو حديثٌ عن تركيا، وعن ماليزيا، وعن الإخوان المسلمين، وعن الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليا، وعن غزة قاهرة الغزاة، وعن العراق ما قبل 2003، وعن العلماء الربانيين الذين رفضوا السير في ركب السلطان، وعن صفحات أخرى مشرقة في بلاد المسلمين التي استهدفها فسطاط الشرّ طوال عقود.
رجالٌ صدقوا… (4)
الدكتور سلمان العودة
لو كان ممثلا سينمائيا مشهورا، أو مطربا فاجرا، أو عارض أزياء خليعا وسيما، لوقفت أوروبا وأمريكا وروسيا والأمم المتحدة على رؤوس اقدامها، ولاصطفّت المتردية والنطيحة من كل غُرزَةٍ وعلبة ليل وملهى ومقهى وماخور في جوقة موحدة تطالب بإطلاق سراحه. ولربما لوّحت دول تقول عن نفسها إنها متنوِّرة وتدافع عن الحريات بسحب السفير أو بعقوبات اقتصادية ضد النظام الذي اعتقله. لكنه ليس كذلك. إنه واحد من أعلام الأمة وعلمائها الذين اعتقلهم زبانية ابن سلمان لأنهم قالوا “لا”. إنه الدكتور سلمان العودة، الذي اختطفه ابن سلمان وألقى به في ظلمات السجون، حيث الظلم والتعذيب والإهانات والتجويع والإمراض والإهمال الطبي.
لم يتجاوز الدكتور العودة حدود النصيحة التي وجهها إلى عصابة آل سعود فيما يتعلق بالحصار على دولة قطر، بل كانت تلك النصيحة شديدة الحذر شديدة اللُّطف، لما يعلمه الدكتور العودة من إمكانية تعرضه للبطش لو أن نصيحته كانت أكثر صراحة ووضوحا. ومع ذلك لم تشفع له مكانته العلمية ولا حُسن نصيحته ولا لطف خطابه للأسرة المختطِفة للحكم في بلاد الحرمين، إذ سرعان ما انقضَّت عليه الزبانية وكبّلته بالأصفاد وكـأن لسان حالها يقول: من أنت حتى تسمح لنفسك أن توجه النصيحة لعبقري الزمان وفلتة الدهر ولي العهد محمد بن سلمان؟!!
وسرعان ما وجد العودة نفسه يواجه لائحة اتهام من سبعة وثلاثين بندا هي أغرب من الخيال. إنها أغرب من خيال شاعر جاهلي أمضى حياته متنقلا في صحراء جزيرة العرب. وهي تهم تؤكد أن الاعتقال لم يكن فقط على خلفية تلك النصيحة المتعلقة بقطر، وإنما يقف خلفها تاريخ طويل من الكراهية لكل صوت إسلامي يخرج عن سمفونية العصابة الحاكمة، وهي تؤكد كذلك أن هذا كله جزء من الحرب على الصحوة الإسلامية المعاصرة من خلال ضرب رموزها وتجفيف مواردها ضمن تحالف غربي- عربي – صهيوني.
شملت لائحة الاتهام تهمةَ الإفساد في الأرض بالسعي المتكرر لزعزعة بناء الوطن وإحياء الفتنة العمياء، وتأليب المجتمع على الحكام وإثارة القلاقل، والارتباط بشخصيات وتنظيمات، وعقد اللقاءات والمؤتمرات داخل المملكة وخارجها؛ لتحقيق أجندة تنظيم الإخوان المسلمين الإرهابي ضد الوطن وحكامه. إنها إذاً عُقدة “الإخوان المسلمين” التي تقض مضاجع القوم وتشكل لهم كابوسا لا ينفكّ عن صدورهم.
وتشمل قائمة التهم العجيبة أيضا دعوة العودة للتغيير في الحكومة السعودية والدعوة للخلافة في الوطن العربي، وكأن الدعوة إلى الخلافة جريمة يعاقب عليها المسلم، وهم الذين صدّعوا رؤوس الناس بـ “قال الله وقال الرسول”. وكأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يبشر بالخلافة الراشدة على منهاج النبوة في آخر الزمان. وربما أرادوا أن يوهموا الناس بأنهم هم المقصودون بالخلافة، وما سوى ذلك هو دعوة للفتنة وخروج على “السُنَّة”! إنها الخلافة التي تآمر آباؤهم وأجدادهم على إسقاطها مطلع القرن الماضي، ومكّنوا بذلك للمشروع الصهيوني. هكذا أصبحت الدعوة إلى الخلافة جريمة يعاقب عليها صاحبها! بينما لم يتنبّه هؤلاء الحمقى، الذين طُمس على قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم، أنهم بمحاربتهم لفكرة الخلافة الراشدة على منهاج النبوّة إنما يحاربون رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بشّر بها.
ومن التهم العجيبة أيضا أن الدكتور العودة يجمع الشباب كنواة لقلب الأنظمة العربية، ويلقي محاضرات محرضة. ويدعو للزج بالمملكة في الثورات الداخلية ودعم الثورات في البلاد العربية، من خلال ترويجه لمقاطع تدعم الثورات، ونقل صورة عما تعانيه الشعوب من أجهزة أمن الأنظمة الفاسدة سواء في مصر او سوريا أو ليبيا، واستثماره الوقت في التركيز على جوانب القصور في الشأن الداخلي وإظهار المظالم للسجناء وحرية الرأي.
ومنها أيضا الانضمام لتجمعات واتحادات علمية دينية مخالفة لمنهج كبار العلماء المعتبرين، وتقوم على أسس تهدف لزعزعة الأمن في البلاد والوطن العربي، ودعم الثورات والانشقاقات والصمود ضد الحكومات، والانضواء تحت قيادة أحد المصنّفين على قائمة الإرهاب (الدكتور يوسف القرضاوي) وتوليه منصب الأمين المساعد في الاتحاد. وكذلك تأليب الرأي العام وإثارة الفتنة وتأجيج المجتمع وذوي السجناء في قضايا أمنية، هي في الحقيقة لا أمنية ولا يحزنون.
هذه هي جريمة الدكتور العودة. جريمته أنه ينضوي تحت لواء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي تحاربه الدنيا كلها. وجريمته أنه ساند ثورات الربيع العربي وحق الشعوب في رفع الظلم وتحقيق الحريات واختيار حكامها والعيش بكرامة، دون تبعية لغرب أو شرق.
اعتقل الدكتور العودة في كانون الثاني من عام 2017، فيما يعرف باعتقال “الخلية الاستخبارية” التي اعتقل فيه عدد من الدعاة والعماء بينهم الشيخ سفر الحوالي، وعوض القرني، وعلي العمري، ومحمد الهبدان، وغرم البيشي، والشيخ عبد المحسن الأحمد، ومحمد عبد العزيز الخضيري، وإبراهيم الحارثي، وحسن إبراهيم المالكي وغيرهم.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تلاحق فيها عصابة آل سعود الدكتور العودة، إذ كانت له معها جولات فيما مضى من السنين. فقد كان من الموقعين على العريضة التي قالت “لا” للاستعانة بالقوات الأمريكية والأجنبية الأخرى ضد العراق؛ البلد المسلم، في مطلع التسعينات، بعد اجتياح العراق للكويت. وكما فعل الشيخ سفر الحوالي، تصدى العودة للقضية في خطبه ودروسه حتى ضاقت العصابة به وبإخوانه ذرعا، فكان من ضمن الذين اعتقلوا عام 1994. وكان قبل ذلك بأشهر قد مُنع من إلقاء الدروس والمحاضرات. واستمر سجنه حتى عام 1999، حيث أفرج عنه وسُمح له بإلقاء المحاضرات الدعوية، لكنه منع من التطرق إلى القضايا السياسية التي يُرعب التطرق إليها عصابة آل سعود.
وفي عام 2013 وجّه العودة خطابًا مفتوحًا للنظام السعودي، وخصوصًا وزارة الداخلية، مطالبًا بإطلاق سراح معتقلي الرأي، وامتصاص الغضب الشعبي المتعاظم فيما يتعلق بملف المعتقلين، درءاً لخطر الفتنة. وقد استخدم أسلوب الحوار الهادئ والناصح في خطابه هذا، ولكنّ هذا لم يشفع له، بل زاد سخط العصابة عليه، بالذات بسبب خطابه الوسطي الذي عرف به.
ولا يزال الدكتور العودة في سجون آل سعود يعاني التعذيب والإهمال الطبي القاتل، وسط أحاديث (غير مؤكدة) عن إمكانية إعدامه، ربما في محاولة للتخلص من شخصية تمثّل نموذجا للصحوة الإسلامية التي تحاربها الأنظمة الجبرية الفاسدة أشد مما يحاربها أعداء الأمة في الغرب والشرق.
إنها إذاً ثلّة من العلماء والقادة الذين قالوا “لا”، من المخلصين لدينهم، الحريصين على نهضة أمتهم من كبوتها التي طالت، منذ أن تمكنت الحملة الصليبية ا- الصهيونية من إسقاط الخلافة الإسلامية بتواطؤ ومشاركة عملية من عصابات عربية صنعها الاستعمار البريطاني والفرنسي، ورعاها لاحقا – ولا يزال يرعاها- الاستعمار الأمريكي.
ولعلنا نختم هذه السلسلة بالحديث شخصية من عمق التاريخ، تؤكد تفاصيلُ الأحداث التي عايشتها وصنعتها أن المشهد هو المشهد، والأوضاع هي الأوضاع، والأوجاع هي الأوجاع، والأمل بالنهوض هو ذات الأمل، والطريق هو ذات الطريق، رغم تغير الزمان والمكان والأشخاص. (يتبع).