لكي لا يخون العرب والمسلمون قضيتهم!
د. إبراهيم خطيب – باحث سياسي ومحاضر جامعي
مع زيادة وتيرة تطبيع الحكومات العربية بتطبيع الإمارات والبحرين، ومع الحديث عن دول أخرى على هذه الطريق، يتصاعد النقاش حول رضا الشعوب العربية والاسلامية بهذه الخطوات من عدمه، مع إدراك أن الشعوب بغالبيتها، حتى الآن، لا تقبل بهذا التطبيع مع الاحتلال الاسرائيلي. ولكن يبقى السؤال حتى متى سيبقى هذا الموقف، وما هي العوامل التي يمكن أن تزيد من قبول هذا التطبيع مستقبلاً والخطوات للجم ذلك مبكراً؟
سيحاول هذا المقال مناقشة العوامل التي من الممكن أن تؤثر على زيادة احتمال قبول الشعوب العربية للتطبيع مع الاحتلال الاسرائيلي. وكما يبدو فإن هناك عوامل عدة وعقلية معينة يمكن أن تزيد من احتمال التطبيع او قبوله. وفي هذا السياق لا يمكن التغاضي عن حقيقة الوضع العربي الراهن المليء بالأزمات والتحديات، والذي جعل من القضية الفلسطينية تتراجع لطبيعة الواقع والمآسي في هذه الدول.
في هذا السياق، يجب الانتباه لعدة عوامل يمكن أن تؤثر على رفض الشعوب من عدمه للتطبيع:
1. الموقف الفلسطيني نفسه: الموقف الفلسطيني خصوصاً من السلطة الفلسطينية، وعدم بث مثال وصورة جيدة لمعنى النضال والعمل من أجل التحرر الوطني، خصوصاً في السنوات الأخيرة، ناهيك عن الاتفاقيات مع إسرائيل والتنسيق الأمني معها، والانقسام الفلسطيني، مع استبعاد المظلة العربية والإسلامية وجعلها مجرد أداة. كل ما ذُكر جعل من الآخرين يفكرون “بمصالحهم” المتوهمة. ولا أقول ذلك تبريراً للتطبيع، فلا شيء يبرر التطبيع ممن يناصر حل القضية الفلسطينية، بل أقول ذلك لكي تتعلّم القيادة الفلسطينية من أخطائها، وتعمل باستراتيجية نضالية تعيد الثقة بالفلسطينيين وقيادتهم، وبالتالي مشروعهم.
2. الشعور بالتهديد: الشعور بالتهديد الذي تعيشه بعض الدول العربية، وهماً أو حقيقة، وخصوصاً من إيران، جعل الشعور بالخطر الآني في هذه الدول سيّد الموقف، مما يجعل البعض يقبل بالتحالف مع “الشيطان” من أجل صد الطموحات الإيرانية، الحقيقية أو المتوهمة.
لا شك في أن الماكينة الإعلامية المرتبطة بالأنظمة العربية تضاعف هذا التخويف، وكذلك حقيقة دور إيران في المنطقة، وخصوصاً مع تواجدها في أكثر من بلد عربي، ما يجعل هذا التهديد عند البعض قريباً. كل هذا الشعور يجب أن يتم تجسيره بحوار مع إيران وليس بسلام مع إسرائيل، التي هي الوحيدة التي تملك سلاحاً نووياً وفق مصادرٍ غربية. وفي نفس الوقت، حتى لو كان التهديد الإيراني قائماً يجب أن لا تكون المعادلة إمّا إيران أو اسرائيل! بل العمل على صيانة الأمن القومي العربي والإسلامي، وفتح الباب لتحالفات أخرى ممكنة، وجسر للخلافات بين بلدان المنطقة. وهنا تحتاج هذه الشعوب لتطمين بتقليل احتمال الخطر الإيراني، وتذكيرها بنهج إسرائيل التوسعي وسعيها لدونية البلدان العربية.
3. تصنيف الصراع العربي الإسرائيلي: تصنيف الصراع العربي الإسرائيلي كصراع فلسطيني إسرائيلي وانحساره ليكون نضالاً للفلسطينيين دون غيرهم، وفي نفس الوقت محاولة قولبة الصراع على أنه مثل الصراعات الأخرى في المنطقة وحروبها التي لا تنتهي. وبالتالي وفي سبيل تغيير الواقع، يجب الرضا بحقيقة موازين القوى والوضع العالمي، وعدم اجترار موقف الحرب لسنوات.
طبعاً هذا التصوير للصراع في غير محله كون الصراع في فلسطين وعلى فلسطين ليس صراعاً محلياً بين قوى محلية تتنازع حكمها ومستقبلها، بل بين مّحتل جاء من وراء البحار وسعى ويسعى لاجتثاث شعب، ناهيك عن حربٍ على المقدس فيها وعلى حريتها وسيادتها، وبالتالي تجب إعادة طرح الصراع في فلسطين وقولبته بشكلٍ سليم يُعيد تجميع العرب والمسلمين والأحرار حوله.
4. الديمقراطية: يبدو أن الديمقراطية باتت تهديداً للأنظمة الدكتاتورية العربية، وبالتالي تحاول الحصول على شرعيتها من خلال استرضاء أمريكا وإسرائيل. ومع أن الفلسطينيين، أو قل قيادتهم راهنت على مواقف الدول العربية معتمدة على موقف قيادة هذه الدول، فيجب هذه المرة العمل على تأييد تحرر الشعوب من الأنظمة القمعية، هذه الأنظمة التي يمكن أن تبيع المواقف من أجل كرسي السلطة، أو على الأقل الكف عن الرهان على الحكام، فحرية الشعوب وتحرر الشعوب العربية وبناء دولة الحرية والكرامة هو الضامن لتأييد حرية فلسطين لكون الحرية لا تتجزأ.
في نفس الوقت، كلي إدراك بأن حالة عدم اليقين وعدم النجاح الكامل لبعض الثورات العربية، قللت من حالة الاكتراث للشأن الفلسطيني لواقع الحال في تلك الدول، ولكن كلي يقين بأن نصرة فلسطين بالشكل الحقيقي والناجع لن يكون إلّا بالتحرر من أنظمة وأفكار مؤمنة بالقمع وكبت تحرر الناس، طبعاً على أن ترافق ذلك حالة من زيادة الوعي الجمعي بقيم الحرية والكرامة، وأن فلسطين قضية عادلة.
5. المشاعر (اليأس والأمل): يبدو أن عامل المشاعر الذي يمكّن أن يسيّر البعض ومواقفه هو عامل إضافي يمكن أن يقود البعض للتنازل. وهنا تمكن الإشارة إلى مشاعر اليأس التي رافقت وترافق العديد من الأفراد في الوطن العربي، وذلك لسوء الحال وترهل الحالة العربية مع حالة من الأمل بالتغيير، مترافقة مع واقع صعب متمثل بقوة المؤسسة الإسرائيلية، والتي لربما تُترجم بدعم اتفاقيات تطبيع ولو كانت منقوصة ولا تُلبي رغبات الجموع العربية.
وعليه، فيبدو أن العمل على الخروج من حالة اليأس وعلى جعل أمل التغيير مرتبط أكثر بدعم الفلسطينيين وتوظيفه في دعم حل القضية الفلسطينية على أساس عادل؛ هما العاملان النفسيان اللذين يجب العمل عليهما.
6. البعد الهوياتي: يبدو أن الهوية الوطنية المحلية باتت هي المسيطرة على عدد من شعوب المنطقة العربية، هذه الهوية الوطنية المحلية باتت تتجاوز وتتصادم مع الهويات العابرة لها، مثل الهوية العربية الجامعة والإسلامية.
ويبدو أن المصلحة وفق رؤية الهوية الوطنية هي المسيطرة الآن بشكل كبير، والمصلحة المتوهمة هذه هي التي تقرر توجهات الحكام او الشعوب. وبهذا الاتجاه تجب إعادة إنعاش الهويات العابرة للهوية الوطنية، وفي نفس الوقت إعادة تعريف الهوية الوطنية بشكل يجعلها متعلقة بالهويات الأخرى ولا تتصادم معها، وتجعل من المصلحة وفق الهوية الوطنية لا تختلف عن المصالح وفق الهويات الجامعة الأخرى.
8. التقدم الاقتصادي: في الشأن الاقتصادي، يتضح أن المصالح الضيقة والمرتبطة بالفوائد الاقتصادية هي المحرك الأساسي لعدد من الناس وخصوصاً مع تزايد الفردانية، وبالتالي فالمصالح الاقتصادية المتوخاة والتقدم على الصعيد الشخصي، وبالأخص المالي، بات مقرراً لكثير من المواقف. وفي شأن التطبيع مع المؤسسة الإسرائيلية، يصبح ميزان قبول ذلك من عدمه هو البعد الشخصي، بعيداً عن المصالح الجامعة والبعد القيمي والأخلاقي الذي يرفض هذا التطبيع.
وعليه، وفي مجتمع تسيطر عليه الرأسمالية الجشعة، والحال الاقتصادي الصعب عند البعض، يجب العمل على ترسيخ المبدئية والمصالح الجماعية، ووضع الضوابط للمصالح الشخصية، وخلق حالة من التوازن بينهما. كما أنه من الواجب إنعاش والاستثمار في الأسواق العربية وإنعاشها اقتصادياً وتكنولوجياً لتوفّر ملاذاً لشعوبنا العربية، بدلاً من الالتفات للمصالح المتوخاة من التطبيع مع المؤسسة الإسرائيلية.
8. المبدئية والتسويق القيمي للقضية الفلسطينية: إن مفاهيم العدالة والحرية والقيم الجامعة، والتي هي بالمناسبة منبثقة من ديننا وهويتنا، وتُجمع الأُمم على مركزيتها، يجب أن تعود لتكون متصدرة للنقاش العام، وتكون العامل الأساسي في”تسويق” القضية الفلسطينية، ويكون العمل الشعبي والرسمي في هذا المضمار مفتاحاً للوصول لشعوب العالم. فإذا كانت المؤسسة الإسرائيلية تستخدم التكنولوجيا والتقدم العلمي، فيجب العمل على تسويق المبدئية وقيم العدالة لزيادة الالتفاف حول القضية الفلسطينية (مع الحاجة طبعاً للعمل على التقدم العلمي والتكنولوجي في العالم العربي).
أخيراً، يجب العمل على إعادة الوعي الجمعي حول القضية الفلسطينية ومركزيتها في ضمير الأمة، وأن يشعر الفلسطينيون دون غيرهم بمعاناة الشعوب الأخرى والوقوف معها، وبنفس الوقت حاجتهم لمواكبة تغييرات العصر وظروفه وابتكار سبل لجعل هذه القضية حية في ضمير الأمة وإبقائها قضية الأمة الأولى!