“أوسلو”.. مشروع مأزوم وطريق مسدود (1)
ساهر غزاوي
بمناسبة مرور 27 عاماً على توقيع اتفاق “أوسلو” الذي يُعرف رسميا باسم “إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي”، وقد أُطلق عليه اسم “أوسلو” نسبة إلى مدينة “أوسلو” النرويجية التي عقدت فيها المحادثات السرّية التي أنتجت الاتفاق قبل توقيعه في العاصمة الأمريكية واشنطن، في 13 سبتمبر/ أيلول لعام 1993. نقف في سلسلة مقالات على اتفاق “أوسلو” وتداعياته ونتائجه السلبية التي ألقت بظلالها على المشروع التحرري الفلسطيني، وأوصلته إلى طريق مسدود وأدخلته في نفق مظلم، وكانت هذه الاتفاقية باكورة انفراط عقد بعض الأنظمة العربية ومجاهرتهم بالتطبيع والتعاون مع الاحتلال الإسرائيلي وفتح الاتفاقيات معه، كما نشهد هذه الأيام وكما شهدنا من قبل، كما سوّق الاتفاق للمفاوضات، حتى جعل “الحياة مفاوضات”، وبرّر التنازل عن الحقوق والمقدسات بدعوى الواقعية والحلول الوسط، فكان من آثار ذلك كله ما وصلت إليه القضية الفلسطينية ومشروعها التحرري الوطني، الذي انتهى إلى واقع لم يتوقعه أي فلسطيني في أسوأ الأحوال التي من الممكن أن تؤول إليها القضية الفلسطينية. هذا فضلا على أن اتفاق “أوسلو” هو أفضل ما حدث للمستوطنين الإسرائيليين والمشروع الاستيطاني الإسرائيلي. فقد هيأ الظروف الملائمة التي ينتعش معها مشروعهم، كما قال الناشط الإسرائيلي المتخصص بالمستوطنات، درور إتكس.
تأثير “أوسلو” على المشروع التحرري الفلسطيني
يعتبر اتفاق “أوسلو” حدثا تاريخيا ومفصليا ومنعطفا مُهما في مسار القضية الفلسطينية. فقد أنهى النزاع المسلح بين منظمة التحرير الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، ورتب لإقامة سلطة وطنية فلسطينية في الضفة الغربية وغزة. كما يعتبر هذا الاتفاق نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني؛ مرحلة اعتُمد فيها النضال السياسي والدبلوماسي بدل الكفاح المسلح، حيث أدى عن الاتفاق بشكل فعلي إلى إنهاء انتفاضة الحجارة الفلسطينية التي انطلقت في نهاية 1987، والتي أعادت الاعتبار لمنظمة التحرير وللقضية الفلسطينية. فقد هيأ اتفاق “أوسلو” والاتفاقات الفلسطينية -الإسرائيلية التي تلتها، وما سبقها من مفاوضات علنية وسرية، إلى تحولات واسعة في الحقل السياسي الفلسطيني، لعل أبرزها إقامة سلطة وطنية على جزء من إقليمها الفلسطيني.
وفي حين كانت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية تدرك جيداً حدود اتفاق “أوسلو”، فقد رأت أن لا خيار أمامها إلا القبول به، فبعد أن ضعف وضعها كثيراً في عصر ما بعد الحرب الباردة وحرب الخليج الثانية. ففي بداية فترة التسعينيات، تكَوّن وضع دولي جديد إثر انهيار موازين القوى عقب سقوط الاتحاد السوفيتي، وحدوث انقسام في الموقف العربي بعد أزمة احتلال العراق للكويت وتأييد منظمة التحرير الفلسطينية للموقف العراقي، وما نتج عنه من ضعف للتضامن العربي، وفرض حصار مالي وسياسي على منظمة التحرير بسبب موقفها من الأزمة، كما انعكست كل المتغيرات الدولية والإقليمية على القضية الفلسطينية وعلى منظمة التحرير وجعلتها تسير في ركب التسوية التي انطلقت في مدريد عام 1991.
وبناءً على ذلك فإن اتفاق “أوسلو” قد شكّل بداية جديدة للعمل السياسي والدبلوماسي الفلسطيني، ونشأت السلطة الفلسطينية التي وُفرت لها الشرعية للتعامل معها دولياً، وحددت لها مهامها في إدارتها لسكان الضفة الغربية وقطاع غزة، وأصبح اتفاق “أوسلو” المرجع الرئيس لأي حل سياسي للقضية الفلسطينية، والذي كان تركيزه على المفاوضات مع الطرف الإسرائيلي، وعقد الاتفاقات المتتالية معه. وحُصر العمل الدبلوماسي الفلسطيني في جزئيات وتفاصيل بعيدة عن الالتزامات التي تمثل القضايا الأساسية لحل المشكلة الفلسطينية. وفي المقابل ساعد اتفاق “أوسلو” الدبلوماسية الإسرائيلية في إظهار الاحتلال الإسرائيلي على أنه شريك حقيقي في عملية السلام وملتزم بحل القضية الفلسطينية، بينما كان في حقيقة الأمر يستمر في مشروعه الاستيطاني، والعمل على إنهاء حل الدولتين، مما أثر سلبا على المشروع التحرري الفلسطيني، وخاصة بعد ظهور خلافات حادة حول صلاحيات العمل الدبلوماسي بين الدائرة السياسية لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وبين السلطة، في ظل حصر حل القضية الفلسطينية في إطار المفاوضات المباشرة مع الطرف الإسرائيلي، مقابل غياب برنامج سياسي موحد وخطة منهجية لكافة الفصائل الوطنية والإسلامية الفلسطينية وحالة من الانسداد وفقدان الاتجاه.
يضاف إلى ذلك أن اتفاق “أوسلو” أدى إلى تحولات واسعة في الحقل السياسي الفلسطيني، كان من أبرزها تهميش دور منظمة التحرير الفلسطينية سياسياً، وترهّل مؤسساتها الجماهيرية، وتولي السلطة الوطنية الفلسطينية بدلاً منها الدور الأساس في تنظيم الشؤون السياسية والمدنية لسكان الضفة الغربية وقطاع غزة. وشكل ذلك إحدى أهم تبعات اتفاق “أوسلو”، وهو تفكيك الكيان السياسي الأبرز للشعب الفلسطيني والعنوان الجامع الذي كان يُرسخ، ببرامجه وميثاقه الوطني وبمؤسساته وفصائله، وحدة الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، وما كان يُعتبر أحد أهم مقومات الهوية الوطنية الفلسطينية. هذا فضلا أنه من الناحية الأمنية ترك الفلسطينيين في وضع الطرف الأضعف، إذ يظل الاحتلال الإسرائيلي، بحسب الاتفاق، مستحوذا على شرقي القدس والمستوطنات والسيادة والاقتصاد. ففي الوقت الذي كان عدد كبير من الزعماء الفلسطينيين ومفكريهم لا يتوقفون عن وصف الاتفاق بأنه انتصار، كما قال نبيل شعث على سيبيل المثال من أنه حقق مساواة تامة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. فإن الواقع أن إسرائيل، كما قال جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي السابق، لم تتنازل أو تقدم أي شيء سوى قبولها الفاتر بأن منظمة التحرير الفلسطينية تمثل الشعب الفلسطيني. في حين قال أحد الحمائم وهو داعية السلام الإسرائيلي عاموس عوز، في سياق مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية جرت في 14 سبتمبر 1994: “إن هذا هو ثاني أكبر انتصار في تاريخ الصهيونية”.
يتبع……