معركة الوعي (33)..الذيــــن قالــــوا “لا”! (12)
حامد اغبارية
مدخل
قليلون هم الذين قالوا “لا”! لكنّهم على قلّتهم فرضوا بمواقفهم الثابتة معادلةً جعلت الذين أرادوهم أن يقولوا “نعم” يُجيّشون لهم جيوشا مدججة بكل أنواع السلاح العسكري والاقتصادي والإعلامي والثقافي، سعيا إلى الشيطنة والتشويه والملاحقة والبطش والاجتثاث، فما ازداد الموقف إلا صلابة، وما ازداد المشهد إلا وضوحا، وما ازداد الذين رفضوا السير في الركب إلا عنفوانا، وما ازداد الذين راودوهم عن مواقفهم إلا فشلا، حتى أصبح العالم وقد انقسم إلى فُسطاطين لا ثالث لهما، اللهم إلا من “فُسَيْطِطِ” المنافقين الذين ربطوا مصائرهم بمن يظنون- مخطئين- أنه غالبٌ في كل الأحوال.
في هذه السلسلة التي قد تستغرق صفحات كثيرة، محاولةٌ لفتح البصائر على حقيقة الصراع الدائر بين الذين قالوا “لا”، وبين الذين يريدون فرض أجندتهم على أهل الأرض جميعا، أو بالأحرى فتح البصائر على حقيقة الحرب التي يشنها فسطاط الشيطان على الذين استقر في نفوسهم قول “لا” في كل الأحوال كذلك.
هذا ليس لغزا من الألغاز، ولا هي طلاسم يصعُب فهمُ كنهها. إنه حديثٌ عن أهل الحق القابضين على الجمر في زمن السنين الخداعة التي يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. إنه حديثٌ عن الذين لم تفارقهم شجاعة المؤمنين ورباطة جأش المرابطين على الثغور، رغم ما يبدو للرائي من ضعف قوّتهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس وتخلي الأقربين عنهم.
هو حديثٌ عن تركيا، وعن ماليزيا، وعن الإخوان المسلمين، وعن الحركة الإسلامية المحظورة إسرائيليا، وعن غزة قاهرة الغزاة، وعن العراق ما قبل 2003، وعن العلماء الربانيين الذين رفضوا السير في ركب السلطان، وعن صفحات أخرى مشرقة في بلاد المسلمين التي استهدفها فسطاط الشرّ طوال عقود.
***
رجالٌ صدقوا… (2)
الشيخ رائد صلاح
وإن تلك الثلّة من الذين صدقوا، قد تمثلت في حياتها مشاهد فاصلة من حياة السلف، وجعلت منهم نموذجا يُحتذى ومثالا يُقتدى به، ولسان حالهم يقول:
تشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاحُ
وهُم والله مثلُهم، يتشبهون بهم لأنهم عرفوا أنهم خلاصة الرجولة بكل معانيها، وهم نماذج مضيئة في تاريخ الأمة، حفظوا على الناس في عصرهم ثوابتهم وصانوا لهم عقيدتهم في عصور الاهتزاز والضعف والهوان الذي أصاب الأمة، حتى قيل إنه لولا فلان لضاعت الأمة، ولولا فلان لالتبس على الناس دينهم وأُورِدوا التهلكة.. ونموذجيّتهم ليست مجرد قصة تُروى في الكتب، بل هي مدارس ينهل الشرفاء من معينها ويتخرجون منها بأعلى الشهادات وأرفع النياشين، يوم أن قرنوا عِلْمهم بالعمل في الميدان، فكان قولهم مثل عملهم وكان عملهم انعكاسا لقولهم. وهكذا تجد نماذج مثل الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وبائع الملوك سلطان العلماء العز بن عبد السلام، وعماد الدين الزنكي وابنه محمود الزنكي، ثم صلاح الدين الأيوبي، ومثلهم يوسف بن تاشفين، والنماذج حاضرة في مختلف العصور.
وإن كُنت بدأت في المقال السابق بفضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، فذلك لأنه أبرز نموذج معاصر للذين وُجدوا في زمان غصّت فيه السوق بأهل العلم الشرعي في مختلف تخصصاته، ولكنك عندما تأتي وتمحّص فإنك تستخرج من تلك السوق حفنة قليلة من الصادقين. إذ أنه ليس بالعلم وحده يُعرف الرجال وإنما باقتران علمهم بصدق الالتزام بالطريق وحسن فهم المسألة وإدراك الدور الحقيقي الذي هيأه الله له وامتلاك الشجاعة في قول الحق والاستعداد لدفع الثمن. فكان هؤلاء سلاطين علماء، في سوق امتلأت حتى النخاع بعلماء السلاطين.
يقبع الشيخ رائد صلاح الآن في سجون الظلم الإسرائيلية التي دخلها أكثر من مرة، لأنه قال “لا”، ليس فقط للمؤسسة الإسرائيلية وللمشروع الصهيوني، وإنما لكل المشروع الصليبي- الصهيوني- الماسوني الذي يستهدف الأمة منذ إسقاط الخلافة الإسلامية مطلع القرن العشرين.
لقد أدرك الشيخ رائد صلاح، منذ البداية، أن مستقبل الأمة ومصيرها متعلق بثباتها على الثوابت التي طالما رددها في كل مناسبة، وأن تراجع الأمة وانحطاطها سببه الوحيد ارتخاء قبضتها عن تلك الثوابت أو تخليها عنها أو عن بعضها. وفهم أكثر أنه لن يكون لهذه الأمة شأن، ولن يتسنى لها أن تستعيد مكانتها في قيادة الأمم إلا إذا أعادت ترتيب أوراقها، وغيرت أولوياتها، وصوّبت مسارها، وأعادت بوصلتها إلى الاتجاه الصحيح. ثم أدرك أن لهذه المهمة الثقيلة لا بدّ من جيل يتربى في المدرسة التي تربى فيها أحمد بن حنبل وابن تيمية والعز بن عبد السلام وصلاح الدين وسائر الأعلام من أمثالهم، فسعى إلى استنهاض الهمم، وإلى تنشئة جيل أشبه ما يكون بذلك الجيل الذي خرج منه صلاح الدين. فالظروف متشابهة في الحالتين، وجُرح الأمة هو ذات الجرح. ففي ذلك الزمن البعيد كان جرح الأمة الأكبر هو القدس والأقصى، الذي غرزت فيه الحملات الصليبية أظفارها حتى أدْمته، وكانت الأمة في شتات وصراع ممالك وفُرقة شنيعة وقيادة ضعيفة هزيلة. وفي زماننا لا يزال جُرح الأمة النازف هو القدس والأقصى الذي غرزت فيه الصهيونية المسنودة من الصليبية أظفارها، وها هي الأمة تعيش في أسوأ حال من الشتات والفُرقة والصراعات الدامية تقودها قيادات ارتهنت للمشروع الصهيوني – الصليبي الماسوني حتى تحولت إلى أداة في يدي هذا المشروع، يضع في أيديها السلاح لتقتل شعوبها وتقمعها، وتمدها بالمال لتثبّت ببعضه أركان عروشها التي تقطُر دما، وتبني ببعضه سجونا لشرفاء تلك الشعوب، وتشتري ببعضه الذمم من جيوش علماء وقفوا على أبواب السلاطين، وضمائر نخب مثقفة اختارت أن تعيش بلا شرف ولا كرامة ولا هوية ولا انتماء.
أدرك الشيخ رائد صلاح هذا كله، فقال “لا” للارتهان والتراجع والتنازل، ومن خلفه آلاف يرددون ذات المقولة: “لا” لعيش الذل، ذلك أنه “لا إله إلا الله محمد رسول الله”.
ولقد أدرك قادة المؤسسة الإسرائيلية وخبراؤها الأمنيون والسياسيون والاستراتيجيون والفكريون هذه الحقيقة، فكان قرارهم بالعمل على تقييد حركة الرجل ومشروعه الرباني، والتضييق عليه وملاحقته حتى وصلوا إلى مرحلة الحظر النهائي، ثم إلى مرحلة الوصم بالإرهاب، تلك الصفة القبيحة التي تمارسها الصهيونية والصليبية ومن لفّ لفّهما، لكنها نجحت- إلى حين- في إلصاقها بكل مشروع ذي علاقة بالإسلام.
لم تترك المؤسسة الإسرائيلية بكل أجهزتها فرصة للتخلص من الشيخ شخصيا ومن مشروعه، إذ أدركت قوّة تأثيره ليس على المستوى المحلي وحسب، ولا على مستوى الشعب الفلسطيني، ولا على مستوى العالم العربي وإنما على مستوى الأمة الإسلامية. فقد نجح الشيخ ومشروعه في إيقاظ الأمة كلها فيما يتعلق بالقدس والمسجد الأقصى، بعد أن كان المشروع الصهيوني، وبعون من أنظمة العار العربية، وبمدد من قوى فسطاط الشر قد نجح في إلهاء الأمة عن قضاياها الكبرى وعلى رأسها قضية القدس والمسجد الأقصى المبارك.
عملت المؤسسة الإسرائيلية على تحييد الشيخ شخصيا بالسجن والاعتقال من خلال تلفيق التهم والملفات المفبركة، والإبعاد عن القدس والأقصى، ومنعه من السفر، حتى وصل الأمر إلى محاولة الاغتيال أكثر من مرة. فقد حاولوا قتله في أحداث هبة القدس والأقصى لما أطلقوا عليه النار (الرصاص المطاطي) وأصابوه في وجهه. وقبل ذلك حاولوا قتله في أحداث هبة الروحة بدحرجة صخرة كبيرة عليه نجّاه الله منها، ثم حاولوا اغتياله على سطح أسطول الحرية، لكن الله تعالى أخرج من أقاصي تركيا رجلا يشبهه في مظهره ولباسه؛ أخرجه من بيته على غير ميعاد، ليكون على موعد مع الشهادة على سفينة مرمرة بدلا من الشيخ. ولعلنا ما زلنا نذكر الدهشة التي أصيب بها قائد أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي أشكنازي عندما أخبره صبيانه أن الشيخ رائد حي يرزق، يتنفس ويبتسم. وما زلنا نذكر دخول أشكنازي عليه في قاعة الاعتقال ليتأكد بنفسه، ويكتشف أن خطة الاغتيال قد فشلت!!
وقد كانت وسائل محاولات التخلص من الشيخ رائد ومن مشروعه متشعبة ومتعددة. فحاولوا تشويه سمعته من خلال محاولة دس المخدرات في جيبه أثناء خروجه من المسجد، ثم سلّطوا عليه وعلى مشروعه قاذورات إعلامهم، فلما يئسوا من محاولاتهم وأدركوا أن هذا الرجل جزء من قدر لا يقدرون عليه، حاولوا إغراءه بالملايين، فابتسم احتقارا لعروضهم وردّهم خائبين، وهو يقول لهم: “لا”.. “لا”.. فكل عروضكم تحت الأقدام. ثم سلّطوا عليه مخابراتهم في محاولة لإقناعه بالتراجع قليلا من خلال المشاركة في الكنيست الصهيوني مقابل الحصول على كل الامتيازات، لكنه ردهم خائبين وابتسم احتقارا لعروضهم وهو يقول لهم: “لا”، كل عروضكم تحت النعال. فلما يئسوا قرروا حظر مشروعه ظنا منهم أنهم بهذا تحقق لهم ما يريدون، لكنهم لم يستوعبوا حتى الآن أن مشروعا سقى الله نبتته لا يمكن لبشر أن يغلبه. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون. (يتبع).