بعد الإمارات.. لماذا توجه إسرائيل قطار التطبيع إلى بغداد؟
«احتفلنا بالأمس بأول رحلة جوية من تل أبيب إلى أبو ظبي، نحن ننتظر بشغف الوقت الذي يمكننا فيه السفر من تل أبيب إلى بغداد ونرحب بكم أيضًا هنا في إسرائيل»، حين انشغل العالم بالحدث السابق،السياسية الإسرائيلية «ليندا مينوهين» بالإعراب عن أمنيتها أن يكون الاحتفاء المقبل خاصًا بالتطبيع مع العاصمة العراقية بغداد.
«مينوهين» كالكثير من يهود العراق في إسرائيل، لا يفوتون، منذ ما يقارب من 70 عامًا على خروجهم من العراق، فرصة للمطالبة بالتطبيع عبر إظهار حنينهم إلى مسقط رأسهم؛ فتارة يطالبون باستعادة الجنسية العراقية، وأخرى بالسماح لهم العودة إلى وطنهم الأصلي، وثالثة باستعادة أملاكهم في العراق.
بيد أن توقيع اتفاق التطبيع بين الإمارات وإسرائيل مؤخرًا فتح شهية الأخيرة للترويج للتطبيع مع بلدان ذات مواقف تاريخية في رفض الاعتراف بها كالعراق، على اعتبار أن الحسابات بأكملها تغيرت الآن، فبرغم أهمية الإقرار بوجود تحديات جدية أمام التقارب بين البلدين، لا تتوانى إسرائيل عن استغلال كل الفرص المتاحة للمطالبة بما تعده حقوق اليهود العراقيين في بلادهم ومحاولات توجيه خطاب للشباب العراقي بأهمية العلاقات معها مستغلة نفورهم من النفوذ الإيراني، والفساد الرسمي العراقي.
يهود العراق من الرفاهية إلى الهجرة
في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2017م، عرضت في العاصمة العراقية مسرحية شعرية تستذكر أول وزير مالية عراقي، وهو «ساسون حسقيل»، وقد كان مسرح العرض بيت حسقيل الواقع على نهر دجلة، حيث قُدم الرجل، وهو يهودي الديانة، بوصفه وزيرًا نزيهًا حافظ على الثروة العراقية أوائل القرن العشرين.
هذا الحدث الذي جاء بهدف المقارنة بين العهد الماضي والعهد الحالي للمسؤولين المتخمين بالفساد وسرقة المال لم تكن تحمل دعوة بالتطبيع مع دولة الاحتلال، بقدر ما تعني الاحتجاج على فساد النظام الحالي، والتذكير بتاريخ مواطنين مخلصين ومن بينهم يهود العراق الذين عملوا على تأسيس الدولة العراقية الحديثة بعد عام 1921م؛ إذ إنه قبل حصول العراق على استقلاله عاش اليهود العراقيون لسنين طويلة في بغداد (شكلوا 40% من سكانها)، وفي جيوب صغيرة أخرى في البصرة والموصل، واندمجوا في النسيج الاجتماعي، وتفوقوا في المجال السياسي والاقتصادي، وحتى الثقافي. لكن، بعد نيل الاستقلال وانتهاء فترة الانتداب البريطاني عام 1932م، وفي حقبة الثلاثينيات ذاتها، تسبب بروز داعمي الفاشية والنازية بوضع أساس لكراهية اليهود في المنطقة، حتى إن عام 1941م السياسي العراقي الموالي للنازية، رشيد عالي الكيلاني، اندلعت أعمال شغب أدت إلى مقتل 180 يهوديًّا عراقيًّا كانوا يشاركون في احتفالات «عيد الأسابيع» اليهودي في بغداد، ثم مع إعلان «دولة إسرائيل» عام 1948م بدأت حياة اليهود العراقيين تتحول على جميع المستويات، ففي هذا العام الذي أعدم فيه رجل الأعمال اليهودي شفيق إدريس بتهمة بيع أسلحة لإسرائيل توالي – حسب الرواية الإسرائيلية – التحريض ضد يهود العراق بصفتهم «صهيونيين خائنين»، لتبدأ إسرائيل بمحاولات إغرائهم للهجرة إليها تحت ذريعة الخوف من أن تنال منهم اعتداءات أخرى، وبالفعل هاجر ما يقارب من 123 ألف يهودي عراقي إلى إسرائيل ما بين عامي 1950 – 1951م.
يقول الباحث في شؤون الأزمات والصحافي العراقي صفاء خلف: «لم يسع يهود العراق إلى الهجرة خارج بلادهم والذهاب إلى الكيان الإسرائيلي، أو التوزع على الشتات العالمي، لكن ثمة ضغوط مُشينة مورست ضدهم من حكومات عراقية ذات نزعة قومية شوفينية متحالفة مع النازية الألمانية آنذاك، حرضت وشنت عنفًا غير مسبوق، بلغ حد إصدار قانون بطرد اليهود إلى الكيان الإسرائيلي (أرض فلسطين) وإسقاط الجنسية عنهم»، ويضيف خلف: «آنذاك، فضَّل كثير من العائلات الذهاب إلى الولايات المتحدة أو بلدان أوربية أو في أمريكا اللاتينية، لعدم القناعة أو الاعتراف بقيام دولة يهودية، بالإضافة إلى الرغبة المُلحة بالعودة مجددًا إلى العراق، وعدم إسقاط الجنسية عنهم، وتفنيد مزاعم دعمهم للصهيونية».
ورقة إسرائيل التي تحاول تمرير التطبيع من خلالها
لا محالة من أن يرى المتجول في مدينة «أور يهودا» المقامة على أنقاض القريتين الفلسطينيتين، ساقية وكفر عانا، في سلسلة المطاعم الممتدة، كافة أصناف الطعام العراقي، ففي المعقل الأكبر ليهود العراق في إسرائيل ترى رجلًا يرقق عجينة الخبز العراقي بمهارة عالية، ثم يضعها في الفرن الحجري، أو تقدم يهودية مسنة الدولمة، تمامًا كما تصنع نظيرتها في العراق.
ففي دولة الاحتلال، يعيش نحو نصف مليون يهودي عراقي يحافظون على اللغة العربية والثقافة العراقية، ويسمون شوارع، ومطاعم، وفرقًا موسيقية بأسماء عراقية، ويواصلون الاهتمام بالأحداث على أرض العراق، وآخرها الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2019م، ففيما أعاد قمع هذه الاحتجاجات بعض اليهود العراقيين – كما قالوا – إلى ذكرياتهم مع القمع الذي نال منهم في بغداد في بداية الخمسينيات، كان جلهم ينظر إلى حركة الاحتجاج بوصفها أداة تقرب من خلق واقع سياسي جديد، قد يكون للتطبيع سبيل فيه.
يشبه هذا «التفاؤل» ما وقع عندما سقط نظام صدام حسين في عام 2003م، فالنظام الأخير الذي حافظ على حالة الحرب الرسمية مع إسرائيل لما يقرب من 61 عامًا، وأمر بإطلاق عشرات الصواريخ على تل أبيب، كان سقوطه نقطة تحول حفزت اليهود العراقيين نحو المطالبة بالعودة إلى العراق، والحصول على الجنسية العراقية، وحق استعادة الممتلكات اليهودية، لكن سرعان ما تفاجأ هؤلاء بأن انتهاء عهد صدام حسين لم يعنِ تحول العراق نحو نظام تطبيعي فيما يخص إسرائيل كما تمنوا؛ إذ برزت جماعات الإسلام السياسي السنية، وبرز المعسكر الموالي لإيران من جماعات الميليشيات والسياسيين العراقيين، الذي حطم آمال الجالية اليهودية العراقية في إسرائيل.
وبرغم ما سبق، عززت بعض مظاهر التطبيع التي توالت إثر سقوط نظام صدام حسين التوقعات الإيجابية لليهود ذوي الأصول العراقية، كأن يزور نواب سابقون، أمثال «مثال الألوسي»، إسرائيل مرتين على الأقل بين عامي 2004 و2008م، وهي زيارات تسببت في نهاية المطاف بإلغاء المحكمة الفيدرالية العليا لائحة الاتهام ضده، وإلغاء اعتبار زيارة المواطنين العراقيين لإسرائيل جريمة يعاقب عليها القانون، وفي الأعوام الأخيرة تزايدت مظاهر التطبيع، حتى أضحت تعليقات العراقيين على صفحة السفارة الافتراضية في العراق على «فيسبوك»، والتي أنشأتها إسرائيل عام 2018م بالآلاف، فيما أحدث وصول الوفود العراقية إلى إسرائيل في بداية العام الماضي ضجة كبيرة، وذلك بالتزامن مع ازدهار العلاقة بين إسرائيل والقادة الأكراد العراقيين، التي وصلت لحد إعلان إسرائيل دعمها لاستقلال الأكراد.
وتعد النقطة الأهم في مسيرة التطبيع العراقي الإسرائيلي، هو ما تحدث به السفير العراقي لدى الولايات المتحدة فريد ياسين خلال ندوة حول «علاقات العراق مع إسرائيل» في فيرجينيا الأمريكية؛ إذ قال ياسين يوم السادس من يوليو (تموز) 2019م إن: «هناك أسبابًا موضوعية قد تتطلب إقامة علاقات بين العراق وإسرائيل، بما في ذلك وجود جالية عراقية مهمة في إسرائيل، ما تزال تعتز بخصائصها وتقاليدها العراقية، خاصة في حفلات الزفاف والمناسبات الأخرى».
اعتبرت تصريحات ياسين بمثابة دعوة للتطبيع بين العراق وإسرائيل، التي لا يعترف العراق بها رسميًّا، وقد عجلت الحكومة العراقية بالتبرؤ من تلك التصريحات؛ فأصدرت وزارة الخارجية بيانًا وصفت فيه إسرائيل بـ«الدولة المحتلة» التي لن تطبع العلاقات معها، واعتبرت إسرائيل تصريحات فريد ياسين بمثابة «أرضية يمكن البناء عليها في المستقبل»، كما قال الباحث الإسرائيلي في الشؤون العربية، جاكي خوجي، في مقال نشرته صحيفة «معاريف» الإسرائيلية.
إسرائيل ترى العراق «البوابة الحقيقية لبقائها في المنطقة»
«عشية اجتماعاتكم مع الإدارة الأمريكية في واشنطن، اسمحوا لي أن أعرض عليكم هذا النداء، على أمل صادق أن تتخذوا موقفًا شجاعًا لضمان تحقيق العدالة للجالية اليهودية العراقية»، جزء من رسالة كتبها نائب رئيس مجلس النواب لليهود البريطانيين «إدوين شكر» في 19 أغسطس (آب) إلى رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي.
وعد الكاظمي بتحويل العراق من ساحة معركة إلى ساحة سلام وتعاون للحكم، كان أحد أهم الدوافع التي شجعت اليهود العراقيين ككل على التحرك نحو العراق، مستغلين موجة التطبيع الحالية، فإسرائيل المعنية بالحصول على اعتراف من قبل البلدان العربية، تسعى دومًا وراء التطبيع مع العراق الذي تعده أخطر دول المواجهة معها.
وهي من أجل ذلك تثير قضايا عدة مع العراق، منها على سبيل المثال قضية استعادة اليهود العراقيين لجنسيتهم، فبعد إطلاق وزارة الخارجية الإسرائيلية منذ عام 2012م حملة «أنا لاجئ يهودي» تطالب بتعويضات مالية لهم، والمساواة بينهم وبين اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا من أراضيهم، أثيرت قضية قانون الجنسية العراقية الجديد الصادر سنة 2006م في المادة (17) منه/ الفقرة (ثانيًا)، وجاء فيها أنه ما يزال العراقي اليهودي يمنع من استرداد الجنسية العراقية.
الإسرائيليون الذين يريدون العودة إلى عراق متعدد الجنسيات والثقافات، يرون في عودتهم بوصفهم أقلية وتحقيق التحالف بين الأقليات العراقية، السبيل الوحيد لتحقيق مطالبهم، وفي هذا الإطار احتفوا بدرجة كبيرة بتصريح رجل الدين الشيعي، مقتدى الصدر، عندما رد على تساؤل يتعلق بإمكانية عودة اليهود إلى العراق: «إذا كان ولاؤهم للعراق، فهم موضع ترحيب».
وتذهب إسرائيل، التي أزالت العراق من قائمة الدول المعادية لها في عام 2019م، الآن إلى أبعد مما سبق، فبعد تاريخ طويل من الصراع العراقي الإسرائيلي ترى الاعتراف العراقي بها البوابة الحقيقية لبقائها في المنطقة، لتبدأ الدعاية الرسمية الإسرائيلية بالترويج لفكرة أن العراقيين ليس لديهم مشكلة في الاعتراف بها، بل التسويق لأهمية مشاركة الإسرائيليين في إعادة إعمار العراق، على اعتبار أن يهود العراق كانوا مجتمعًا قويًّا في العراق في مجالات الاقتصاد والتعليم والتكنولوجيا.
يقول الباحث في شؤون الأزمات والصحافي العراقي صفاء خلف: «الآن بعد شروع (مشيخة الإمارات) بالتطبيع، تحاول دولة الاحتلال أن تستثمر سخط الشبان العراقيين الذين خرجوا منذ عام وحتى الآن، في انتفاضة ضد النظام الحاكم والتغوُّل الإيراني في العراق»، إلا أن ما يظهر من ترحيب على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو نكاية بالإيرانيين وجماعاتهم المسلحة – حسب خلف – لا يعبر حقًّا عن الموقف من التطبيع المرفوض، ويوضح لـ«ساسة بوست»: «مجرد شحنات غضب للاستفزاز، بالمقابل، تحاول إسرائيل اليوم، الاستفادة من نفور العراقيين من السياسات الإيرانية المتطرفة في المنطقة، وتروِّج بأن السلام معها سيخلص المنطقة من النفوذ الإيراني، إنه استغلال نفعي والتفاف على الحقائق».
ويدعو خلف إلى الفصل بين الدعاية الإسرائيلية وبين حق اليهود العراقيين في العودة إلى وطنهم الأم، فهذه العودة مماثلة لحق عودة الفلسطينيين، ويضيف: «تعوِّل إسرائيل على النقمة الشعبية على النظام الحاكم في العراق، النقمة التي تطال الأحزاب والحركات والميليشيات الإسلامية المرتبطة بإيران وتتبنى مواقفها، وكأن هذه النقمة ستمرر التطبيع بوصفه واحدة من سياسات إضعاف تلك القوى. لكن الحقيقة، أن الشارع العراقي لا يجد الاعتراف بإسرائيل أولوية أو حتى مصلحة».
المصدر: ساسة بوست