درس مفيد من عبد الحكيم مفيد
سهيل كيوان
بالرحيل المفاجئ للزميل الصحفي والباحث عبد الحكيم مفيد، شعرت بصدمة مثل أكثرية أبناء شعبنا في الداخل الفلسطيني ممن سمعوا النبأ، وتمنيت أن يكتب أحدهم بأن الخبر مفبرك من مصدر مجهول، ولكن مع مضي الدقائق كانت تتأكد صحة النبأ الصادم.
عبد الحكيم مفيد صحفي وباحث جاد وطموح، لم يتوقف يوما عن التعلّم والدراسة إلى جانب العطاء والعمل الفعلي، فكان من أولئك الذين عملوا بالحديث الشريف” اطلب العلم من المهد إلى اللحد”، وهو حديث يطبقه الأجانب أكثر من العرب.
تميز عبد الحكيم بتمسكه بمبدئه، ولكن ما ميز هذا التميز بالذات هو احترامه للمختلف ليس مجاملة ولا تمثيلا، ولكن بقناعة عميقة وحقيقية بأن وجود المختلف أمر طبيعي جدا، وعلى كل طرف تقع مسؤولية تقبل وجود الآخرين المختلفين سياسيا أو مذهبيا أو طائفيا وقوميا، فلم يحاول التقليل من شأن شريحة أو أحد أو الاستهتار أو تخوين أحد أو مجموعة.
كان يعتبر أن له في بلدي مجد الكروم أكثر من بيت، سواء من رفاقه القدامى من حركة أبناء البلد، أو من غيرهم من تنظيمات فيما بعد من نشطاء الحركة الإسلامية أو التجمع الوطني والحزب الشيوعي والمستقلين ومن أناس عاديين ربطته بهم علاقات شخصية بدون أي علاقة بالسياسة، فإذا ما التقينا في أي مكان ومناسبة، ذكّرني دائما بالتين المجدلاوي، وكان يسأل عن جميع معارفه واحدًا واحدًا كيف أخبارهم، وكان يتقبل موقف كل واحد منهم بأي قضية كانت بابتسامة عريضة، فقد تمتع بروح النكتة ورحابة الصدر، حتى إذا ما طرح موضوعا أو فكرة متعارضة مع من هم حوله كان يطرحها بهدوء وقناعة وبروح طيبة بعيدا عن الاستفزاز.
ليس صدفة أن الجميع يرون بفقدان هذه الشخصية خسارة لجماهيرنا العربية الفلسطينية في الداخل، وذلك لإصراره الدؤوب على البحث بإخلاص على إيجاد ما يوحّد بين مركبات المجتمع العربي، وبناء أكبر جبهة قادرة على العمل في مواجهة سياسة السلطة الغاشمة، وهذا كان نابعا من إيمان حقيقي بأن وحدتنا بكل أطيافنا هي ضرورة حياتية وليست ترفا، ولا هي محاولة استعراضية أو تظاهر شكلي بالسعي إلى الوحدة، لقد سعى وعمل وهو مؤمن بوجود الاختلافات الفكرية والأيديولوجية واستحالة القضاء على هذه الاختلافات، ولكن ممكن تحديد الأهداف المشتركة، فناقش الرأي بالرأي والحجة بالحجة، وهذا ما ينقص بعض قادة الجماهير العربية، فهناك من يلوحون دائما بسيف التخوين للمختلف ويحاربونه حتى ولو بالباطل والبهتان، ولا يهمهم في المحصلة سوى مصالح حزبية ضيقة وغايات شخصية من خلالها.
لم تكن لدى عبد الحكيم حسابات شخصية مع الآخرين، لا غيرة قيادية ولا غيرة معنوية، فالمقياس والمحك هو من يتقدم في قضية شعبه فقط، فقد صبت كل حساباته إلى مصلحة المجتمع العربي كما يراه هو، ورغم تمسكه بالعقيدة والفكر السياسي الإسلامي فقد كن كل الاحترام لكل من رأى بنفسه مركّبا من مركبات شعبنا، ولكل من هو مستعد للعمل من أجل رفع الظلم والضيم عن شعبنا بغض النظر عن انتمائه الطائفي والحزبي.
كلنا ندرك بأن الموت حق ولا أحد يدري كيف ومتى ينتهي عمره ولكننا صدمنا.
صدمنا لأننا اعتدنا أن نراه ممتلئا بالنشاط والطاقات وأن له رأيا وموقفا في كل قضية اجتماعية وسياسية.
صدمنا لأنه لم يترك الساحة النضالية السياسية والاجتماعية أبدا، فقد كنت تراه في كل نشاط من النقب حتى أقاصي الشمال، من التظاهرة حتى السعي لعقد راية الصلح بين أناس متنازعين.
لعل العبرة في رحيله، أن ينتبه الجميع كم أن حياتنا قصيرة، وكم نحن معرضون لفقدانها بلمحة واحدة، لعل رحيله يذكر أولئك الذين لا يبقون للصلح مطرحًا مع بقية أبناء شعبهم وتنظيماته ومستعدون لإحراق كل الجسور لإرضاء أنانيتهم، لعل وفاته توقظ أولئك الذين لا يسعون لتحقيق ذواتهم إلا من خلال إلغاء الآخرين كي يرثوهم جماهيريا وتمثيليا.
رحيله يذكرنا بأسرى شعبنا في سجون الاحتلال الذين حمل قضاياهم ومنهم أبناء شفاعمرو الذين اتهموا بقتل الإرهابي ناتان زادة.
يذكرنا بنشطاء شعبنا وقادته القابعين وراء القضبان الذين حملوا قضايانا وناضلوا ودفعوا الثمن من أعمارهم.
يذكرنا بالكوارث التي تعدها السلطات في المجال السكني والمصادرات والترحيل خصوصا في النقب.
يذكرنا بمقدساتنا والقوانين العنصرية المعادية للعرب بأشكالها ونصوصها المختلفة.
رحيل عبد الحكيم يذكرنا بأنه لا وقت نضيعه في الخلافات الجانبية، وأنه يجب استثمار طاقاتنا كلها في ساحات النضال من خلال العمل الوحدوي لرفع الضيم عن كواهلنا وصدورنا وتحقيق العدل لنا ولأبنائنا وأحفادنا وأجيالنا القادمة.
(المقال من موقع عرب 48)