الدولة والإسلام السياسي قبل وبعد الربيع العربي.. دول المغرب نموذجا (1من4).. في مفهوم الإسلام السياسي.. مقاربات نظرية وتجارب عملية
الكتاب: “إشكالية الدولة والإسلام السياسي قبل وبعد ثورات الربيع العربي”
الناشر: المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، برلين- ألمانيا
الطبعة الأولى، 2018
المؤلف: مجموعة من الباحثين
سعى المحور الأول إلى مقاربة علاقة الدولة بالإسلام السياسي مقاربة نظرية مفاهيمية. فعمل على ضبط معنى الإسلام السياسي وتصنيف جماعاته وبحثَ في عوامل نشأته وخاض في موقفه من الديمقراطية ومن المشاركة السياسية وبسط وجوها من صراعه مع خصومه السياسيين حول هوية الدولة.
وتجدر الإشارة إلى أننا سنقدّم قراءة في الأثر بأسره فنبحث في المفاهيم والتصورات التي تخترقه. ومثل هذه المؤلفات كثيرا ما تتقاطع أو تتوازى. لذلك فديدننا الأثر بأسره ولن نذكر باحثا بعينه إلا للاقتضاء.
1 ـ في معنى الإسلام السياسي
الإسلام السياسي مصطلح جديد اقتحم الدراسات السياسية من الفضاء الإعلامي. يعتمد عادة للإشارة إلى الحركات التي تمارس العمل السياسي في إطار نظرة شمولية للحياة البشرية وتعمل على إعادة صياغتها لتنسجم مع توجهات الإسلام.
تقترح الباحثة بدرة ثلجة تعريفها الخاص فتقدّر أنه “مصطلح يشير إلى تلك الحركات والقوى الدينية التي تهدف إلى تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية في السلطة، وتصبو إلى أن تكون الشريعة الإسلامية ليست مجرد ديانة فقط بل نظاما سياسيا في الحكم”.
الإسلام لم يعرف عبر امتداده التاريخي فصلا بين الدين والسياسة. فقد كان المسلمون يسنّون القوانين في ظل القيم الإسلامية كما يفهمونها.
أما الباحث صالح عبد الرزاق فالح الخوالدة فيحدد مجمل دلالاته “في مقالة الإسلام السياسي المفهوم والأبعاد”، بكونه المصطلح المعتمد في توصيف الحركات التي تتخذ من الإسلام نظاما للحكم فيشمل كل مؤسسات الدولة من سياسة واجتماع واقتصاد وقانون. ويستمدّ أفكاره وأهدافه من الشريعة الإسلامية. ويجد في العبارة شيئا من التهجين لا يحبذه منتسبو هذه الحركات. أما نماذجه فتتحقق في أنظمة الحكم السائدة في إيران والسعودية وطالبان والسودان. ويستند إلى كتابات راشد الغنوشي الذي يؤكد أنّ الإسلام جمع دائما بين الدين والسياسة وبين الدين والدولة. فالرسول كان يصلي بالناس، في عباداتهم، ويقضي بينهم حينما يختلفون في شؤون الدنيا. وكان قد سنّ دستورا حالما نزل بالمدينة أسماه الصحيفة. فضبط فيه جملة من المواثيق المحددة للعلاقة بين المهاجرين والأنصار.
ويرى أنّ الإسلام لم يعرف عبر امتداده التاريخي فصلا بين الدين والسياسة. فقد كان المسلمون يسنّون القوانين في ظل القيم الإسلامية كما يفهمونها. ويحدده ثانيا عبر اختلافه مع الحركات الليبرالية والعلمانية التي تعارض تطبيق الشريعة بحذافيرها وتعمل على بناء دولة محايدة دينيا أما الشرائع فشأن فردي يعني الإنسان في علاقته الروحية بربه.
ويرصد الباحث تدرجا تاريخيا في الإشارة إلى هذه الحركات. فقد كان الدارسون يعيّنونها باعتماد اصطلاح الإسلام الأصولي الذي استعمل خاصّة سنة 1994 في مؤتمر عالمي في واشنطن ثم أصبح يشار إلى منتسبيه بالإسلاميين المتطرفين في العشرية السوداء في الجزائر. ثم استقر على مفهوم الإسلام السياسي اليوم.
2 ـ تصنيف جماعات الإسلام السياسي
يجد الباحث صالح عبد الرزاق فالح الخوالدة أن حركات الإسلام السياسي تعود إلى الجذور نفسها. فهي تستند إلى تراث حسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين 1928 وإلى منجز الهندي أبي الأعلى المودودي مؤسس “جماعات إسلامية” مطلع الأربعينيات. ثم تفرّعت إلى جماعات مختلفة في الاتجاهات والمرجعيات، متصارعة أحيانا. ولكنّ ورغم ما استقر بينها من التباين تظلّ عند الغرب واحدا. فالمصطلح يجمع عندهم بين الراديكالي المتطرف الذي يتبنى العنف ومن يقبل بالتعددية ويتبنى أساليب الحوار والإقناع للتغيير، في ربق واحد.
ومن ثمة يرى أنّ هذا المصطلح لا يكون دقيقا إلا بالتمييز بين نماذجه وتياراته المختلفة. فيذكر النموذج الإيراني والتركي وتيار الإخوان المسلمين بمختلف فروعه. وعامة يجد أن هذه التيارات تمنح الأولوية للعمل السياسي على الديني. ويذكر تيار الإسلام الليبرالي الذي يتبنى الحلول الليبرالية على النهج الغربي ويفصل الدعويّ عن السياسة ويسعى باستمرار إلى أن يمنح المرأة حقوقا أكبر ومشاركة أكبر في الفضاء العمومي. وإلى ذلك يضيف الإسلام الجهادي ضد الاحتلال الإسرائيلي. وفرّع التيارات السلفية إلى علمي يحلم بالعودة إلى النموذج السائد في العصر الإسلامي الأول دون أعمال عنف، وجهادي يلجأ إلى الأعمال الدموية العنيفة ضد من يصفهم بالأعداء ويطال تكفيره من يعلن إسلامه على غير النموذج الذي يتبناه هو.
وتضيف الباحثة بدرة بن ثلجة الحركات الانفصالية الإسلامية في دول غير إسلامية، مثل الجماعات الانفصالية الكشميرية في الهند أو الشيشانية في روسيا، والحركات ذات البعد الدولي وهي فرع من الحركات الجهادية العنيفة عدا أن مجال تدخلها يشمل العالم بأسره وينحدر أعضاؤها من مختلف دول العالم كذلك.
3 ـ عوامل نشأة تيار الإسلامي السياسي
يعتقد منتسبو الحركات الإسلامية، أن الإسلام نظام شامل للحكم كما سبق أن رأينا. وثمة من يعتقدون أنه يحصن الممارسة السياسية بالقيم الأخلاقية، فيجعل الدولة مصدرا للخير ويعهد إليها بنشره بين المواطنين مقاومةً للشر. من هذا المنطلق يفهم الخوالدة سببَ جعلهم الوصول إلى الحكم غايتهم الأولى قبل التفكير في تحقيق التنمية الاقتصادية أو في حل المشكلات الاجتماعية. فجميع هذه الإصلاحات عندهم تمر بالدولة الإسلامية العادلة. وسبيل الوصول إليها تشكيل هذه الجماعات السياسية.
إلى هذه الغاية القصوى يرد الباحث نشأة التيار الإسلامي. ولكن لا بد من عوامل فرعية شأن ظهور الحركات الإصلاحية التي أسس لها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدة ومحمد رشيد رضا وغيرهم. فقد حاول هؤلاء أن ينهضوا بالمسلمين بعد أن طالت فترة انحطاطهم، عبر الجمع بين العلم والدين والإصلاحات السياسية والاقتصادية الشاملة أو شأن ما آلت إليه الدولة العثمانية من تدهور جعلها مطمع البلدان الغربية مما دفع بالسلطان عبد الحميد إلى تأسيس “الجامعة الإسلامية” التي كانت لها صلات بهؤلاء المصلحين، خاصة أن هذه الأطماع قد تزامنت مع الحملات التبشيرية وموجات الاستشراق فحفزت المسلمين للتنظّم حفاظا على الهوية الإسلامية لبلدانهم.
لم تقدم إيران النموذج الذي يُحاكى فحسب وإنما عملت على تصدير الثورة ودعّمت هذه الحركات، وألهبت الحماس بإعلانها معاداة الغرب الذي يراه الكثير من المسلمين مسؤولا عن تدهور أوضاعهم متواطئا مع المحتل الأسرائيلي يكيل بمكيالين وينتصر إلى الظالم والمعتدي ويمنح ما لا يملك لمن لا يستحق.
وبالإضافة إلى هذه الأسباب البعيدة، في الزمن على الأقل، يجعل الباحثون نشأة هذه الحركات ردة فعل على فشل الدولة الوطنية في تحقيق نهضة حقيقية وسقوطها في الاستبداد وفي التبعية المفجعة للغرب وقصرها للدين في الطقوس والشعائر.
ومما ذكّى الأمل في نفوس هؤلاء الحالمين، نجاحُ الثورة الإيرانية في الوصول إلى الحكم سنة 1979 بعد أن أطاحت بحكم الشاه. فلم تقدم إيران النموذج الذي يُحاكى فحسب وإنما عملت على تصدير الثورة ودعّمت هذه الحركات، وألهبت الحماس بإعلانها معاداة الغرب الذي يراه الكثير من المسلمين مسؤولا عن تدهور أوضاعهم متواطئا مع المحتل الأسرائيلي يكيل بمكيالين وينتصر إلى الظالم والمعتدي ويمنح ما لا يملك لمن لا يستحق. تزامنت هذه العوامل مع غياب العمل الجمعياتي في البلدان الإسلامية. فوجدت هذه الحركات منفذا لتتسلل عبر العمل الخيري فتستقطب إليها الشباب العاطل والمهمش في المجتمع التقليدي الذي يحترز من الشيوعية لعلاقةٍ بالدين لا يطمئن إليها ويحترز من الليبرالية الغربية التي يراها تمعن في الحريات الفردية إمعانا يصل إلى التفسخ الأخلاقي.
لم تتزامن هذه العوامل وإنما كانت ترد في شكل موجات تمنح هذه التيارات روحا جديدة كلما أوشكت أن تخبو. وكانت كل موجة ترتبط بقادة ملهمين قادرين على إدارة الجدل واستقطاب الشباب من أمثال حسن البنا وسيد قطب وحسن الترابي وراشد الغنوشي وأحمد ياسين.
4 ـ موقف الإسلام السياسي من الديمقراطية ومن المشاركة السياسية
لم تكن مواقف الإسلام السياسي من الديمقراطية ومن المشاركة السياسية واحدة نظرا لتباين الخلفيات الذي ذكرنا في مطلع هذه المقالة. فمنها من شكك في ديمقراطية الغرب شأن خالد محمد خالد في أثره “الديمقراطية أبدا” أو محمد قطب في “مذاهب فكرية معاصرة” ويعود هذا التشكيك إلى اعتقاد أصحابه بأنّ نظام الحكم في الإسلام يشتمل على كل قيم الديمقراطية المحمودة خال من سيئاتها. ومنها من حاول الموازنة بين ديمقراطية الإسلام وديمقراطية الغرب فوجد صيغتها الإسلامية في مفهوم الشورى. من هؤلاء عباس محمود العقاد ومالك ابن نبي. فلم يكن أصحاب هذا الموقف يرون مانعا في الاقتباس من الديمقراطية الغربية، إذ هي لا تخلو من عدل ومساواة وحرية. والشورى لا تخرج عن هذا الاتجاه. وقيم الإسلام تضمن التعددية وتعطي حقوق الأفراد والأقليات والمرأة ضمن التصور الصحيح لهذه القيم.. ومنهم من يكفر الديمقراطية باعتبارها مؤامرة ونظاما فاسدا وإنتاجا غربيا علمانيا يشجع على الخروج عن الملة ويبطل الشريعة ويعطّل حدود الله.
وبحسب مواقفهم من الديمقراطية تحدد تصوراتهم لكيفية الوصول إلى سدة الحكم. فمعادوها يعتقدون أن لا سبيل لهم غير الانقضاض على الحكم بطريقة مفاجئة وسريعة عبر انقلاب عسكري أو عنف وأعمال مسلحة تُنهك الحاكم.
ومنهم من يرى إمكانية الوصول التدريجي إلى السلطة، عبر التغلغل في مفاصل الدولة وسياسة التمكن للمحافظة على استمرارية الحكم. والديمقراطية تمنحهم الفرصة لتحقيق أهدافهم، شـأن حركة الإخوان في مصر. وبعد نجاح تجربته أضحى حزب العدالة والتنمية في تركيا النموذج الأوفى لهذا التصوّر. وظلّت بعض حركات الإسلام السياسي تحلم بثورة شعبية شبيهة بما حدث في إيران مثلا. ولعنا نفهم من هذه الخلفية سعي إسلاميي بلدان الربيع العربي إلى نسبة الثورات لأنفسهم رغم وقوفهم على الحياد أو مشاركتهم على استحياء.
5 ـ الإسلام السياسي والصراع حول هوية الدولة
يرى كل من عنتر بن مرزوق وعبد المؤمن سي حمدي في مقالتهما المشتركة “الدولة المدنية في أجندة الحركات الإسلامية بين تعقيدات الفكر وتحديات الممارسة” تباينا حادّا بين مطالب الدولة في كل من التصور الديني والتصور المدني. فقد كشف الجدل الذي رافق إعادة ضبط الدساتير بعد الثورات عمق هذه الهوة. وكان مدارها على موقع الشريعة منها، ومواقف الإسلام من القوانين التي تنظّم الحقول الأساسية كحقوق الإنسان وحقوق الأقليات والأساس المدني للدولة والحريات العامة والتعددية السياسية ودور الهيئات الدينية وملامح من يشرف عليها. فكانت منطلقا لتجاذبات عنيفة سمتها الانغلاق الإيديولوجي والعمل على إقصاء الآخر والحدّ من دوره.
ويجد الباحثان أن الديمقراطية الأداتية التي ينبني عليها تصور الإسلاميين أسهمت في الخروج من المأزق، ويعنيان أن الديمقراطية في تصور الإسلام السياسي ليست أكثر من أداة للحكم، دورها أن تنظم الانتخابات وتكفل التداول على السلطة. فسلموا بمشاركة غير الإسلاميين أو من غير المسلمين في الحكم. وقبلوا بحكم لا يقوم على الشريعة بالضرورة وإنما على الشورى ومبدأ سلطة الأمة درءا لشر الحكم الديكتاتوري أو التسلط الأجنبي. ولكن المشكل التي واجهها الإسلاميون هنا تعلقت بفلسفة الديمقراطية وبتصورها لجوهر الحياة السياسية.. فما الدولة المدنية عندهم؟ هل هي الدولة العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة؟ أم هي الدولة الليبرالية التي تركز على الحقوق المدنية والحريات الفردية؟ أم هي الدولة التي يحكمها مدنيون مقابل حكم العسكر؟
يقدر الباحثان أن هذا المفهوم اعتمد للوساطة بين الخصوم السياسيين وردم الهوة بينهم نتيجة لحدة النقاش حول علاقة الدين بالدولة. فوجد بعضهم أن عداءهم لشكل الدولة المدنية يعطي الذريعة لإقصائهم من الفضاء السياسي. وبرز موقف بينهم يرى أن الدولة المدنية هي نفسها الدولة الإسلامية في صورتها الصحيحة منذ عهد الرسالة، وأنها ليست العلمانية التي تفصل بين الدين والسياسة وإنما الوعي بما يجمع المؤمن بأخيه المؤمن ومرجعها الدين وما يجمع المواطن بشريكه المواطن ويضبطه القانون المدني. ولكن ذلك لا يحل الإشكال لأن القانون المدني سيظل خاضعا للديني. يعرف محمد عمارة مثلا الدولة الإسلامية بكونها دولة مدنية تعتمد الشورى وتجعل الأمة مصدر السلطات. ولكنه يشترط ألا تُحلّ حراما أو تحرّم حلالا. فمدنية هذه الدولة من صناعة الأمة للنظم والمؤسسات والآليات. ورغم هذه المواربة يلاحظ الباحثان تدرّجا في القبول بفكرة الدولة المدنية وفي الحدّ من فعل الدين في الفضاء العام. فقد تخلى الإسلام السياسي عن سعيه إلى نموذج الدولة الدينية وعن فكرة تطبيق الحدود وعن اعتقاده بأنّ الإسلام هو الحل لمختلف الإشكاليات التي تواجه المواطن.
وبحسب الخوالدة يجد الغنوشي الحل في مفهوم الوطن والمواطنة للخروج من هذا الإشكال. فيؤكد انحياز حركة النهضة للمبادئ الديمقراطية وعدم احتكار الدين أو الوصاية على الشعب. ويشدد على إيمانها بالحريات كاملة، حرية العقل والضمير وحرية الصحافة وحرية المرأة والحريات الفردية. ومعياره في ذلك أنّ الحكم للشعب وبمقتضى حق المواطنة تكون البلاد ملكا للجميع والإسلام منح الإنسان الحق في أن يتمتع بحقوقه كاملة. ولن يتحقق ذلك إلا عبر أجهزة الحكم الدستورية. فليس من المجدي عنده افتعال صدام بين القيم الديمقراطية والتراث الإسلامي. فمثل هذا التصور يقود إلى الاستبداد.