مجزرة قرية يازور الساحلية… مشهد يلخص النكبة وحجم الكارثة
ساهر غزاوي
تُعد مجزرة قرية يازور ضمن مئات المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية عام 1948 وهي صورة من المشاهد التي تلخص نكبة الشعب الفلسطيني وتشريده واقتلاعه من وطنه بالنار والبارود، والتي تسببت في مقتل وتهجير ما يقارب المليون فلسطيني من أرضهم، وتدمير أكثر من 500 قرية تدميرًا كليًّا، من أجل توطين اليهود وإنشاء كيان لهم.
ففي الثاني والعشرين من كانون الثاني عام 1948 ارتكبت العصابات الصهيونية بقيادة اسحق رابين مجزرة مروعة بحق أهالي قرية يازور الواقعة على مدخل مدينة يافا، ودمرت العديد من المنازل والمباني في القرية وبينها مصنع للثلج، وأسفر هذا الاعتداء عن استشهاد 15 فلسطينياً من سكان القرية لقي معظمهم حتفه وهم في فراش النوم، ولم يُكشف عن تفاصيل هذه الجريمة إلا عام 1981.
قرية يازور
تقع قرية يازور التي ترتفع حوالي 25 مترا عن سطح البحر، على بعد 5 كلم من مدينة يافا شرقا، وحوالي 7 كلم من مدينة تل أبيب، وما يقرب من 9 كلم من مصب نهر العوجا في البحر الأبيض المتوسط، وذلك على الطريق الممتدة من يافا إلى القدس، مرورا بمدينة الرملة. وإلى شمال يازور يمر خط سكة الحديد الرئيسي الذي يربط يافا بمدينتي اللد والقدس، حيث يقوم بفصل يازور عن قرية سلمة الواقعة شمال يازور إلى الشرق من مدينة تل أبيب. بلغ عدد سكان يازور في عام 1945 حوالي 4030 شخصا. أما مساحة يازور فتقارب 12 ألف دونم، أي حوالي 12 كلم مربع.
اشتهرت يازور ببساتينها المزروعة أساسا بالبرتقال، إضافة إلى عدة أنواع من الحمضيات والفواكه والخضراوات والحبوب، حيث كانت زراعة البرتقال وقطفه وتصديره أهم مصادر الدخل بالنسبة للسكان بوجه عام. ومن برتقال يازور والقرى المجاورة عرف العالم “برتقال يافا” الذي اشتهر في أوروبا بشكل خاص. وفي مواسم إزهار الأشجار، كان المارة يتمتعون برائحة الزهر أينما كانوا وأينما ذهبوا. وبسبب كون جميع أهالي يازور من المالكين للأرضي الزراعية والبساتين، فإن جميعهم كانوا من الميسورين، ولم يعرفوا خلال تاريخهم الطويل الفقر أو الحاجة. وفي السنوات الأخيرة التي سبقت قيام إسرائيل، انتشرت تربية الأبقار الهولندية في القرية، مما أدى إلى زيادة الدخل وتنويع مصادره بالنسبة للكثير من العائلات، وزيادة استهلاك السكان من الحليب والاجبان والزبدة.
احتلال وتطهير عرقي
يروي المؤرخ الإسرائيلي “بني موريس” أن وحدات البلماح بدأت في كانون الثاني يناير وشباط فبراير 1948، تخرب منازل يازور، مستخدمة أسلوب هجمات اضرب واهرب. وتشير مصادر أخرى إلى أن يازور، الواقعة في منطقة مكشوفة عرضة للهجمات خارج تل أبيب، تعرضت للإغارة منذ كانون الأول/ديسمبر 1947. وقد أوردت صحيفة “فلسطين” نبأ هجوم وقع في (11) فبراير عبر يازور، ورمى من فيها بعض القنابل على المقهى وعلى أحد محلات الحلاقة، من دون أن يسفر ذلك عن وقوع أية إصابات. ويذكر المؤرخ الفلسطيني عارف العارف أن جنودا صهيونيين تنكروا، في 18 كانون الأول/ ديسمبر بزي الجنود البريطانيين واندفعوا داخل القرية ورشقوا مقهى يقع على الطريق الرئيسي بقنابل سبّب انفجارها مقتل ستة من سكان القرية.
وجاء في صحيفة (نيويورك تايمز) أن الوكالة اليهودية طالبت السلطات البريطانية، بعد مرور خمسة أيام على هذه الحادثة، بفرض حظر التجول على يازور وعلى “مواطن الشغب” العربية الأخرى. بعد ذلك ذكرت صحيفة (فلسطين)، في 30 كانون الأول ديسمبر، أن دورية من سكان القرية اكتشفت مجموعة صهيونية مغيرة تزرع ألغاما في بعض منازل يازور وأرغمتها على الانسحاب. كما أوردت الصحيفة نبأ غارتين أخريين وقعتا في الشهر التالي، في 8 و30 كانون الثاني/ يناير 1948. وقتل في الغارة الثانية التي نفذها مهاجمون انطلقوا من مستعمرة موليدت، رجل عجوز تحت ركام منزل تهدم. وذكرت “نيويورك تايمز” في 22 كانون الثاني/ يناير، أن قافلة يهودية هوجمت بالقرب من القرية، وبعد مضي ثلاثين دقيقة وقعت شاحنة تنقل عمالا من يازور في كمين فقتل 3 من القرويين وجرح 12.
خلال الشهر التالي، في 12 شباط فبراير، شنّ هجوم بالهاون والرشاشات على يازور وعلى ضاحية أبو كبير، من ضواحي يافا، المجاورة لها. وقد بدأ الهجوم قبيل منتصف الليل واستمر حتى الفجر. وأفيد عن وقوع خمسة جرحى في يازور وتدمير 7 منازل فيها وفي الضاحية المذكورة وذلك بحسب ما جاء في صحيفة “نيويورك تايمز” ووصفت صحيفة “فلسطين” هذا الهجوم بأنه الأعنف على يازور حتى ذلك التاريخ، وقالت إن شخصا واحدا استشهد وثلاثة منازل نسفت كما وقعت غارة كبرى غير هذه عند فجر يوم 20 شباط/ فبراير، حين تقدمت غطاء من مدفعية الهاون. ودمر المهاجمون الذي استخدموا الدبابات والعربات المدرعة (استنادا الى تقرير نشر في صحيفة فلسطين) معمل ثلج ومنزلين، وقتلوا أحد السكان وجرحوا أربعة آخرين. وقد تواصلت الغزوات على نحو أسبوعي تقريبا، حتى تم احتلال القرية.
وجاء في أكثر من تقرير أن القرية سقطت في 30 نيسان أبريل 1948، عندما تم في سياق عملية حميتس اجتياح القرى المحيطة بيافا وتطويق المدينة. وتشير السجلات التي احتفظ بها قائد جيش الإنقاذ العربي، فوزي القاوقجي، إلى أن جيش الإنقاذ قام بمحاولة لصد الهجوم عن طريق إرسال وحدة مجهزة بمدفعي ميدان إلى يازور، لقصف تل أبيب وتخفيف الضغط عن يافا. لكن هذه الوحدة انسحبت في 28 نيسان/ أبريل للاشتراك في معركة أخرى، فسقطت يازور بعد مدة وجيزة في جملة ما سقط من قرى المنطقة.
وكتب بني موريس أن القرية سقطت في 1 أيار/ مايو، وأن السلطات البريطانية أعربت في البداية عن معارضتها احتلال القرية، ووجهت إنذارا الى الهاغاناه بأنها ستقصف مواقعها في يازور، التي كانت تقع على طريق عام مهم، إذا لم تقم بإخلاء القرية في 5 أيار مايو. لكن سرعان ما تم التوصل الى تسوية سلمت الهاغاناه بموجبها البريطانيين المنازل المشرفة على الطريق، في حين بقيت تحتل باقي القرية. ثم إن البريطانيين انسحبوا من فلسطين بعد ذلك بأسبوعين، وفي تموز يوليو كانت يازور تستخدم مقرا للقيادة العسكرية الإسرائيلية في عملية داني. وذكرت “القضاء” أنها باتت في ذلك في موقع من يملي الشروط أكثر مما هي في موقع من يصغي.
القرية اليوم
أنشئت مكفي يسرائيل في سنة 1870، على ما كان تقليديا من أراضي القرية. وأنشئت مستعمرة أزور في سنة 1948، على أراضي القرية، وهي الآن جزء من المنطقة الصناعة المتصلة بتل أبيب. وتتاخم المستعمرتان ضواحي حولون. وما زال مقاما القرية قائمين. أحد هذين المقامين مبني بالحجارة، ويعلو سقفه اثنتا عشرة قبة تتوسطها قبة أكبر منها. ولا يزال بعض الأبنية والمنازل سليما: منه ما هو مهجور، ومنه ما يستعمل لأغراض متنوعة. أحد المنازل تسكنه عائلة يهودية، وهو بناء من الأسمنت مؤلف من طبقتين، وله بابا مستطيل وسقف معدل على شكل الجملون. وثمة بناءان أسمنتيان آخران مهجوران، كل منهما مؤلف من طبقتين. وقد حول بناءان صغيران إلى متجرين: الأول متجر ألبسة إسرائيلي، والآخر يشتمل على مطبعة ومحل لتصليح وتركيب أنابيب. وفي الموقع أشجار السرو والتين والجميز ونبات الصبار.
شهادات حية
يقول الشاهد محمد العارضة من سكان قرية يازور المهجرة: “كان عمري 8 سنوات وصارت مناوشات بين السكان والقوات الإسرائيلية وكان منهم الهاجاناه وشتيرن. ليلة من الليالي بدأ القتال عشاء الساعة السابعة مساء وبقينا حتى حتى صلاة الفحر وقوات الهاجاناه تضرب البلد وكان في البلد حوالي (20-30) شخص منهم من دار بركات ومن دار طه ومن دار قطاني ومن دار بسيوني… حطوا النسوان بغرفة والزلام لحال بغرفة وفتشوهم والغرفة اللي كنا فيها احنا وجدوا فيها قنبلة. صفوا الزلام بغرفة على جنب الحيطة وقال المسؤول العسكري بالهاجاناه: “هذه القنبلة وجدناها بالغرفة مع مين كانت…” ما حدا رضي يحكي، قالهم بالحرف الواحد “إذا بتقولوش مع مين كانت بقتلكم كلكم”. وكان واحد من الموجودين لا أذكر أسمه قال “فلان معاه القنبلة” فطخ هذا الزلمة وأعطاه رصاصة بقلبه، شوف عيني وبعدين سحبوه وحطوه على الطابون، بعدين أخذوا الزلام أسرى قعدنا يومين بغرفة. وكانوا برضه البنت الجميلة ينادوها ويأخذوها للضابط ومعروف التكملة شو بيساوا فيها. كنت أوعى لما ستي صارت تطول من الطنجرة شحبار (سكن بالدارجة) تعمل بإيدها شحبار وتليط على وجوه قريباتها وتخليهن سود خوف ما اليهود يوخذوا البنات….”
وفي شهادة أخرى يرويها المهجر محمود صالح بركات يقول فيها: حصلت معركة بالليل من الساعة 4 الصبح ل 10 والمعارك شغالة، نسفوا اليهود معمل الثلج للعرب والانجليز مع اليهود، دخلوا بلد جنبنا اسمها خيرية فأجا واحد من خيرية اسمه عبد العزيز جرف وقال لي يا عمي أبو صالح اليهود احتلت خيرية وطخوا 12 واحد. أبوي قال للثوار أول ما تطلعوا واد تضربوا على اليهود. فاشتبكوا معهم فانقتل اللي انقتل وشرد اللي شرد. ومن هذول الثوار كان عمي حسين بركات وعلي عبد الهادي جبريل، حسين سليمان، أحمد حمودة”.
ويضيف الشاهد: “وأبوي بركات مسؤول عن القيادة في لجنة يازور. والشهداء الحاج محمد جاد الله، مصطفى عبد الواحد، أبو صبحي، حسين أبو صفية، عبد احميد زبيدي، علي تيمة، وانجرح: عبد الهادي جابر، عبد العزيز بركات، يمين القطناني”.