عبد القادر الحسيني.. ذكرى البطولة والتآمر الرسمي العربي
علي سعادة
رسالته إلى جامعة الدول العربية اختصرت مأساة فلسطين وكشفت بعضا من تفاصيل وشظايا ما جرى في حرب عام 1948، ففي أقل من 22 كلمة، وضع يده على الجرح:
“السيد الأمين العام لجامعة الدول العربية… القاهرة…
إني أحملكم المسؤولية بعد أن تركتم جنودي في أوج انتصاراتهم بدون عون أو سلاح.
عبد القادر الحسيني”.
كان ذلك النص الحرفي لبرقية عبد القادر الحسيني إلى الأمين العام للجامعة العربية عبد الرحمن عزام، برقية سبقتها صيحته غاضبة أطلقها الحسيني ضد المؤسسة الرسمية العربية المتخاذلة: “نحن أحق بالسلاح المُخَزَّن من المزابل، إن التاريخ سيتهمكم بإضاعة فلسطين، وإنني سأموت في القسطل قبل أن أرى تقصيركم وتواطؤكم”.
إحساسه بخطورة ما كان يحاك من مؤامرات ضد فلسطين بدأ معه في جميع مراحل حياته منذ والدته في القدس عام 1908 وروايات تقول أنه ولد في إسطنبول، فوالده هو موسى كاظم (باشا) الحسيني الذي تقلد مناصب عديدة في عهد الدولة العثمانية كان آخرها رئيس بلدية القدس عندما دخلتها القوات البريطانية، ومن موقعه ترأس “الحسيني الأب” الحركة الوطنية الفلسطينية في مواجهة الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية، حتى وفاته عام 1934.
بدأت ميول عبد القادر الحسيني النضالية تنضج بعد التحاقه بكلية الآداب والعلوم في الجامعة الأمريكية في بيروت، التي اضطرت إلى طرده بسبب نشاطه الوطني، فانتقل إلى الجامعة الأمريكية في القاهرة، حيث تخصص بدراسة الصحافة والتاريخ، وذكرت مصادر أخرى أنه تخصص في الكيمياء.
وفي القاهرة قام الحسيني بفضح “الدور المشبوه” للجامعة آنذاك وأدان سياستها، فأمرت الحكومة المصرية عام 1932 بطرده من مصر وإعادته إلى بلاده فلسطين ليعمل محررا في جريدة “الجامعة الإسلامية”.
وفي محاولة لإسكاته عرضت سلطات الانتداب البريطاني على فلسطين، تعيينه في عدد من المناصب الرفيعة إلا أنه رفضها جميعا، ورضي أن يعمل مأمورا في دائرة تسوية الأراضي في فلسطين بهدف العمل عن قرب مع الفلسطينيين الذين يشاركونه مواقفه، ومن أجل إحباط أكثر من محاولة للاستيلاء على أراض عربية.
غير أنه بعد أقل من عامين استقال من عمله في تسوية الأراضي، بهدف التحضير للثورة على الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية.
وزاد من صلابة موقفه استشهاد الشيخ السوري عز الدين القسام، ما دفعه للالتحاق بالثورة الفلسطينية باندفاع كبير ودون تردد.
عرضت سلطات الانتداب البريطاني على فلسطين، تعيينه في عدد من المناصب الرفيعة إلا أنه رفضها جميعا، ورضي أن يعمل مأمورا في دائرة تسوية الأراضي في فلسطين بهدف العمل عن قرب مع الفلسطينيين الذين يشاركونه مواقفه، ومن أجل إحباط أكثر من محاولة للاستيلاء على أراض عربية.
ولم ينتظر طويلا للدخول في العمل العسكري المباشر فقد قام في عام 1936 بإلقاء قنبلة على منزل سكرتير عام حكومة فلسطين، تلتها قنبلة أخرى على المندوب السامي البريطاني، وتوج نشاطه الوطني في هذا العام بعملية اغتيال مدير شرطة القدس ومساعده، بالإضافة إلى اشتراكه مع أفراد الوحدات التنظيمية التي أسسها في مهاجمة القطارات الإنجليزية.
مع اشتعال ثورة فلسطين الكبري ما بين عامي 1936 و1939 لجأ الحسيني إلى الجبال، وخاض عدة اشتباكات مع الجنود البريطانيين، أهمها اشتباك “الخضر” الذي ارتقى فيه القائد السوري سعيد العاص شهيدا، كما أصيب الحسيني بجروح بالغة، وتمكنت القوات البريطانية من أسره لكنه نجح في الفرار من المستشفى العسكري في القدس، وتوجه إلى دمشق، حيث استكمل علاجه، فلبنان، ومن هناك نجح في الوصول إلى العراق بجواز سفر عراقي.
عمل الحسيني مدرسا للرياضيات في المدرسة العسكرية في معسكر الرشيد، وفي إحدى المدارس المتوسطة. ثم التحق عام 1940 بدورة لضباط الاحتياط في الكلية العسكرية مدتها ستة أشهر، وفي تلك الفترة أيد ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق التي وقعت عام 1941، وبعد أن التحق بالعمل العسكري ضد القوات البريطانية، اعتقل وقضى في السجون العراقية ثلاث سنوات حتى أفرج عنه أواخر عام 1943، بعد تدخل الملك عبد العزيز آل سعود ملك السعودية، فتوجه إلى السعودية وأمضى فيها عامين بمرافقة أسرته.
كانت جراح الحسيني لا تزال تؤلمه فقام عام 1946 بزيارة مصر لمعالجة جروحه والندوب التي تقرحت في جسده إثر معاركه الكثيرة، وأثناء وجوده في مصر عمد إلى وضع خطة لإعداد المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين، فأشرف على التدريب والتسليح للمقاومين وأنشأ معسكرا سريا بالتعاون مع قوى وطنية مصرية وليبية مشتركة بالقرب من الحدود المصرية الليبية.
كما عمد إلى التواصل والتنسيق مع قائد الهيئة العربية العليا ومفتي فلسطين أمين الحسيني من أجل تمويل خطته وتسهيل حركة المقاومين على كل جبهات فلسطين.
ولم يبق أسير العمل السري إذ بعد قرار التقسيم تشرين الثاني/نوفمبر عام 1947 تولى قيادة قطاع القدس وعمل على وقف زحف القوى اليهودية إليها.
ونتيجة لضعف التسلح وعدم توفر الذخيرة الكافية توجه الحسيني أواخر آذار / مارس عام 1948 إلى قادة اللجنة العسكرية لفلسطين التابعة لجامعة الدول العربية، أملا في الحصول على السلاح لمقاومة الهجمات الصهيونية على المناطق الفلسطينية، لكن الجامعة العربية التي كانت تخشى غضب بريطانيا طالبته بعدم افتعال تصرفات فردية، وأبلغته بأن اللجنة العربية العسكرية العليا أوكلت بقضية فلسطين، ومنع من الذهاب نحو القسطل.
ضرب الحسيني في معركة “القسطل” غير المتكافئة مثلا للشجاعة والغيرة الوطنية التضحية والحماسة والاندفاع، فقام باقتحام القرية مع عدد من المقاومين، واشتبكوا مع العصابات الصهيونية في معارك عنيفة، لكن مع ضعف التسلح وقلة الذخيرة وعدم توفر الدعم وقع ومجاهدوه في طوق الصهاينة وتحت وطأة نيرانهم ارتقى الحسيني شهيدا في 8 نيسان/أبريل عام 1948 بعد أن قاد معركة ضد العصابات الصهيونية لمدة ثمانية أيام.
بقيت جثته قرب بيت من بيوت القسطل إلى أن نقلت في اليوم التالي إلى القدس، ودفن بجانب ضريح والده في باب الحديد.
وأثناء المشاركة بتشييع جنازته ارتكبت عصابات “الأرغون” و”شتيرن” الصهيونية بدعم من “البالماخ” و”الهاغاناه” مجزرة في قرية دير ياسين قرب القدس لتهجير سكان القرية، وبث الرعب في القرى والمدن الأخرى .
لا يزال عبد القادر الحسيني برفقة عز الدين القسام رمزا للمقاومة الفلسطينية العربية لعملية احتلال فلسطين، ولا يزال موقف النظام الرسمي العربي حينها، وسلبية جامعة الدول العربية جرحا غائرا في مسيرة الشعب الفلسطيني، وما سببته من تشريد لآلاف الفلسطينيين عن وطنهم وتحولهم إلى لاجئين في شتى بقاع الأرض.