استخدمه المسلمون ومسيحيو القرون الوسطى ، تاريخ الحجر الصحي منذ القدم حتى يومنا هذا
الحجر الصحي أو العزل المنزلي أو حتى التباعد الاجتماعي الذي فُرض علينا بسبب تفشي فيروس كورونا، ليس حدثاً فريداً من نوعه في التاريخ، فقد عرف البشر أهمية هذه الإجراءات منذ القدم، واتبعوها عند تفشي العديد من الأوبئة والأمراض.
فقد ذكر العزل في الكتاب المقدس، كما عرفه المسلمون في مراحل مبكرة من التاريخ الإسلامي، ومع انتشار أوبئة في أوروبا مثل الموت الأسود في القرون الوسطى، كان الحجر الصحي أحد أهم الإجراءات الوقائية المتبعة لمنع تفشي المرض.
تاريخ الحجر الصحي
إليكم تاريخاً موجزاً لحالات الحجر الصحي منذ القدم وحتى يومنا هذا:
الحجر الصحي في الكتاب المقدس
ذكر في الكتاب المقدس أن الكهنة اتخذوا من العزل أو الحجر الصحي وسيلة لمنع تفشي بعض الأمراض مثل القرحة.
فقد كان الكهنة يعزلون المريض لمدة 7 أيام، ثم يقومون بفحصه ثانية، وبناءً على ذلك يقررون أنه لا يعاني من أي أعراض، أو يقررون إخضاعه للعزل ثانية.
الحجر الصحي في الإسلام
عرف المسلمون أهمية الحجر الصحي الإلزامي للمصابين ببعض الأمراض المعدية خاصة الجذام، في وقت مبكر من التاريخ الإسلامي.
فما بين عامي 706 و707 قام الخليفة الأموي الوليد الوليد الأول ببناء أول مستشفى في دمشق وأصدر أمراً بعزل المصابين بالجذام عن مرضى آخرين في المستشفى.
واستمرت ممارسة الحجر الإلزامي للجذام في المستشفيات العامة حتى عام 1431، عندما بنى العثمانيون مستشفى الجذام في أدرنة.
وقد طبقت إجراءات الحجر الصحي في جميع أنحاء العالم الإسلامي، ويذكر العديد من المؤرخين أن العالم الإسلامي قد طبق أيضاً الحجر الصحي المجتمعي الطوعي في بعض الحالات، إذ تم تطبيق هذا النوع من الحجر لأول مرة في العام 1838 من قبل السلطات العثمانية.
الحجر الصحي في القرون الوسطى
ظهرت كلمة الحجر الصحي كما نعرفها اليوم في إيطاليا لأول مرة، فالكلمة الإنجليزية quarantine والتي تعني “حجراً صحياً” مشتقة بالأصل من كلمة Quarantino الإيطالية والتي تعني “40 يوماً”.
وقد كانت Quarantino 40 يوماً في الإيطالية تستخدم للتعبير عن الحجر الصحي لأن الأطباء كانوا يفرضون حجراً لمدة 40 يوماً على المرضى، وقد اختاروا هذه المدة تحديداً لرمزيتها الدينية لدى مسيحيي القرون الوسطى.
فوفقاً لمعتقداتهم أمطرت السماء لمدة 40 يوماً عندما غمر الله الأرض بالماء، وصام يسوع في البرية لمدة 40 يوماً.
لذا انتقل مفهوم الـ40 يوماً من التطهير إلى الممارسات الصحية، فعلى سبيل المثال تبقى الأم حديثة الولادة في فترة نقاهة 40 يوماً بعد وضع مولودها، ويحجر المصابون بأمراض معدية عن الأصحاء لمدة 40 يوماً أيضاً.
الحجر الصحي لمواجهة الموت الأسود
بين عامي 1348 و 1359، قضى الطاعون الدبلي الذي يعرف باسم “الموت الأسود” على ما يقدر بنحو 30٪ من سكان أوروبا ونسبة كبيرة من سكان آسيا.
وبالرغم من أن أطباء ذلك العصر لم يعرفوا ما هي البكتيريا أو ما هي الفيروسات، فإنهم فهموا آليات مكافحة العدوى لمنع تفشي الأوبئة.
وقد كانت إيطاليا رائدة في مجال تطبيق هذه الآليات، فمع بداية عام 1348 وبعد وصول الطاعون إلى مدن مثل البندقية وميلانو، فرض مسؤولو هذه المدن بعد استشارة الأطباء التباعد الاجتماعي والحجر الصحي على السكان منعاً لتفشي المرض.
كما كانت مدينة راجوسا الإيطالية الساحلية أول مدينة تقرّ تشريعات تفرض الحجر الإلزامي على جميع السفن والقوافل التجارية من أجل فحص العدوى.
ففي عام 1377 تم إصدار قانون ينص على أن القادمين من أماكن تفشى فيها الطاعون يجب أن يبقوا في جزيرة مركان النائية أو في بلدة كافتات، حيث يتم فحصهم وعزلهم هناك إلى أن يتم التأكد من عدم حملهم للعدوى، ثم يسمح لهم بعد ذلك بالدخول.
ويعتبر بعض المؤرخين مرسوم الحجر الصحي في راجوسا أحد أعلى إنجازات الطب في العصور الوسطى.
عندما كانت إيطاليا رائدة في محاربة الأوبئة
في مدينة بحرية تعتمد على التجارة في المقام الأول مثل راجوسا، كان من المستحيل تطبيق هذه الإجراءات الصحية الصارمة دون أن يتأذى اقتصاد المدينة، كما تأذى اقتصاد إيطاليا بالكامل.
لكن مع ذلك، استمرت إجراءات الحجر الصحي الوقائية، وانتقلت إيطاليا إلى الخطوة التالية لتبني أول مستشفى للطاعون في جزيرة تسمى ملجيت في مدينة راجوسا الإيطالية، ودفعت الدولة أموالاً طائلة في سبيل تأمين الرعاية الصحية اللازمة للمرضى.
استقبل المشفى الحالات المصابة بالطاعون، وقد تم عزلها عن الحالات التي يشتبه بالإصابة بها، وكان العلاج فيه مجانياً يدفع من قبل الدولة، وقد كان هيكلاً صحياً رائداً تقدم فيه مستويات رفيعة من العلاج الصحي، ويتم تأمين الطعام والغرف النظيفة للمرضى على حساب الدولة أيضاً.
وقد كان المشفى مستعداً لاستقبال الحالات من السكان المحليين أو من أولئك القادمين من الدول الأخرى عبر البحر.
وسرعان ما اتبعت العديد من الدول الأوروبية خطى راجوسا في إجراءاتها الوقائية والعلاجية لمواجهة الموت الأسود.
الحجر الصحي في التاريخ الحديث
اجتاحت العديد من الأوبئة العالم في التاريخ الحديث، مثل الحمى الصفراء التي تفشت في أمريكا الشمالية أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر والتي اضطرت الدولة لفرض الحجر الصحي في البلاد.
كما استمرت أوبئة الكوليرا والجدري طوال القرن التاسع عشر، وأثرت أوبئة الطاعون على هونولولو وسان فرانسيسكو من عام 1899 حتى عام 1901.
مما حذا حكومات الولايات المتحدة بإجراء حجر صحي جغرافي للتحكم في حركة الأشخاص من وإلى المجتمعات المتضررة.
وخلال جائحة الإنفلونزا عام 1918 أقامت بعض المجتمعات عزلاً وقائياً لمنع المصابين من نقل الإنفلونزا إلى الأصحاء.
كما تم عزل قرية في رومانيا كان يعتقد سكانها أن الأطباء يسممون أولئك المشتبه في إصابتهم بالكوليرا في عام 1911.
الحجر الصحي في القرن الحادي والعشرين
في القرن الحادي والعشرين اتبعت إجراءات الحجر الصحي كذلك لعزل المشتبهين في حملهم للأمراض المعدية، كما هو الحال في حالات أندرو سبيكر (السل المقاوم للأدوية، 2007) و Kaci Hickox (إيبولا ، 2014).
كما كان نقل المرضى المصابين إلى عنابر العزل والحجر الذاتي في المنزل للأشخاص الذين يُحتمل تعرضهم هو الطريقة الرئيسية لإنهاء وباء فيروس إيبولا في غرب إفريقيا في عام 2016.
ومن المعروف اليوم أن الصين كانت أول من استخدم الحجر الصحي الجماعي – أولاً في مدينة ووهان وبعد ذلك من جميع مقاطعة هوبي – في جائحة فيروس كورونا 2019-20.
وبعد أسابيع قليلة، فرضت الحكومة الإيطالية عمليات إغلاق في جميع أنحاء البلاد لوقف انتشار الجائحة التي امتدت أيضاً إلى العديد من دول العالم التي اتخذت الإجراءات ذاتها لوقف انتشار العدوى.