“يافا” في ذاكرة لاجئ فلسطيني.. تاريخ لا يبلى
عبد القادر ياسين
في وسط مدينة يافا، عشنا حياة جديدة، في غرفتين من غرف “فندق الانشراح”؛ فالمحيط مختلف، تمامًا، عن حي المنشية، وأُمي لم تُقِم في المطبخ، كعادتها، لأن الأكل يأتينا، جاهزًا، ونحن نرتدي ملابسنا كاملة، خشية المفجآت. وخارج الفندق، ثمَّة ضوضاء مستمرة، من حركة السيارات، ونشاط وحوانيت السوق.
اعتاد والدي على أخذي معه، لمقابلة أصدقائه، شأن كل آباء ذلك الزمان؛ حيث يصحُب الأب كبير أبنائه الذكور ليتشرَّب معاني الرجولة، والتجارب والخبرات، حتى ينشف عظمه، على أن هدفًا آخر لوالدي من اصطحابي معه، تمثّل في قراءتي جريدة “الدفاع” له، كل يوم. أما لماذا “الدفاع”، دون غيرها؛ فأغلب الظن لأن صاحبها، ورئيس تحريرها، إبراهيم الشنطي، كان جارنا في حي المنشية؛ لذا، فإن والدي كان يفضِّل “الدفاع” على غيرها من الصحف.
ذات مرَّة، قرأت لوالدي خبرًا، مؤداهُ أن صندلاً يقِلُّ عشرات الركَّاب قد غرق في البحر. استهجن والدي كيف لصندل، نرتديه في أقدامنا، يُمكن له أن يحمل عشرات الناس، ويعوم في البحر؟! ورجَّح والدي أن أكون أخطأت في القراءة! وفي مرَّة أخرى، قرأت خبرًا مطولا، في الجريدة نفسها، عن خطاب لشخصية مهمة، ادَّعت الجريدة بأنها تورِد نُصّه هنا. فعاد إلى والدي استهجانه؛ إذ كيف للجريدة أن تنشر نصف الخطاب وتُهمل نصفه الآخر؟!
على كل حال، عمَّقت عندي عادة قراءة “الدفاع”، يوميًا، هواية القراءة، والانغماس في السياسة، بشكل تدريجي، كما أنها دفعتني إلى سماع ما استطعتُ من نشرات الأخبار، من المذياع، ومن هاتين العادتين، تمكَّنت من حفظ أسماء العديد من رؤساء الدول، ووزراء الخارجية، وعواصم الأقطار. ما خصَّب الأرض لعملي السياسي، وكتابتي السياسية، منذ وقت مبكِّر، نسبيًا.
ننتقل إلى الشأن العام، فحين اندلع القتال لم يكن في يافا إلا أقل من عشر بنادق، اشتراها مناضلون عرب فلسطينيون، بعد أن باعوا مصاغ زوجاتهم. وسرعان ما اندلعت الاشتباكات المسلَّحة، بين العصابات الصهيونية المسلَّحة، والمناضلين العرب الفلسطينيين، بدايةً من سكنة درويش، جنوبي يافا.
تألَّفت “اللجنة القومية”، على غرار ما حدث عند اندلاع ثورة 36 ـ 1939 الوطنية الفلسطينية، وأرسلت “اللجنة العسكرية”، المنبثقة عن الجامعة العربية، نحو مئة بندقية، فرنسية الصُنع، كانت أرسلتها العراق.
انبثقت عن “اللجنة القومية” لجان فرعية، هي: الاقتصادية، الدفاع، صُنع المتفجرات، السلاح والألغام، الصحة، القروية، والرُخص. وتموَّلت اللجنة الأم من “بيت المال”، بدايةً بألفي جنيه فلسطيني (مرادف للاسترليني). وبعدها، أخذت اللجنة نفسها، تجمع التبرعات من الأهالي، وتودعها في “بيت المال”.
أُتبِعت لجنة الدفاع اليافية إلى الشيخ حسن سلامة، قائد “الجهاد المقدَّس”، في “المنطقة الوسطى، المتمثِّلة في مدن وسط غرب فلسطين (يافا، اللد، والرملة). وسرعان ما ارتفع عدد المناضلين المسلحين إلى 450 مقاتلاً، يحملون أقل من 290 قطعة سلاح، ونحو 400 قنبلة يدوية، من العهد التركي! ومع ذلك، فإن المناضلين خاضوا معاركهم، ببسالة عزَّ نظيرها، فحرموا المسلَّحين الصهاينة من تحقيق أي نجاح، حتى ظهر عجزهم باديًا للعيان؛ ما أرغمهم على الاستنجاد بالقوات البريطانية، غير مرَّة.
كان هذا مما سمعته من لقاء والدي بأصدقائه. ويا عالِم!
استبدَّ بي الفضول لرؤية الشيخ حسن سلامة، وحين رأيتهُ، فوجئتُ بأنه لا يرتدي عمامة فوق رأسه، بل كوفية وعقال، وإن أطلق لِحية خفيفة.
سرعان ما وصلت إلى يافا مجموعة من المتطوعين الألمان، اشتُهِروا بجُرأتهم في مقاتلة العصابات الصهيونية المسلَّحة. بينما تولَّى المتطوعون الأتراك مهمة بناء الاستحكامات إلى المتطوعين اليوغسلاف، الذين دُهِشتُ، في حينه، لاندفاعهم في الذود عن فلسطين.
كل هذا، بينما قصَّرت “اللجنة العسكرية” العربية، في دعم المناضلين في يافا، ما جعل هذه المدينة عُرضة للسقوط في أيدي الصهاينة، لاحقًا.
خلال مناقشة والدي وأصدقائه للشأن العام، تبرَّموا من أن المناضلين يقيمون في استحكامات متواضعة، لا تقيهم حر الصيف، ولا برد الشتاء، ويُتركون بلا طعام، أو شراب، عدا ما يُقدِّمه لهم الجيران، من وقت لآخر.
وعن تسليح هؤلاء المناضلين، حدِّث ولا حرج؛ فهم لا يمتلكون إلا القليل منها، وأغلبها من النوع الإيطالي، الذي جمعه فلسطينيون من صحراء مصر الغربية؛ حيث دارت معارك حربية طاحنة، بين القوات البريطانية، وقوات المحور، الألمانية والإيطالية، هُزمت فيها الأخيرة، خاصةً في “معركة العلمين” (خريف 1942). ولعل أهم عيوب تلك البنادق الإيطالية أنها كانت تضيء، عند إطلاقها، فتكشف موقع مُطلِقها للأعداء.
والأنكى أن كل المصروف للمناضل الواحد هو مجرَّد خمس رصاصات، من “اللجنة القومية” ليافا. في مقابل الجندي الصهيوني، المرابط في دُشمة، مُحكمة التحصين، تحمي من يُثيم فيها من البرد، والحر، ورصاص العرب. وتأتي الجندي المعني وجبات الطعام، بانتظام، طازجة، مع المشروبات الساخنة، وآخر دلال.
توالت المعارك المسلَّحة، في كل من المنشية، وسكنة أبو كبير، وتل الريش، والجبالية. لأكتشف بأن يافا مطوَّقة بالمستعمرات اليهودية، تُحيط بها إحاطة السوار بالمعصم: مكفا إسرائيل (نيتر)، وعمارة حزبون، اللتان دأبتا على صب الزيت على طريق يافا ـ القدس، حتى تضطر السيارات العربية المارة، فتُصبح هدفًا سهلاً لنيران المسلحين الصهاينة، وبذا كانت نيتر، وحزبون أخطر تلك المستعمرات، وبقيَّتها: ريشون لزيون، وبيت فيجان، وهاتيكفا.
في صباح يوم 14 كانون ثاني (يناير) 1948، دوَّى انفجار كبير، قرب الفندق الذي ننزل فيه، فهرولت خارجًا، لأفتِّش عن والدي. واكتشفت أن الانفجار لم يبعُد عن “فندق الانشراح” سوى أقل من نصف كيلومتر، حيث أوقف الصهاينة سيارة مفخَّخة، قرب السرايا القديمة (دار الحكومة)، قبل أن يُفجِّر وهان فتحصُد أرواح نحو عشرة أشخاص.
بعد نحو أسبوع واحد، مرَّت سيارة نقل مسرعة، من شارع جمال باشا، أوسع وأرقى شوارع وسط البلد، وكان القائم حسن بيك الجابي، حاكم يافا، هو من فتح هذا الشارع (1915)؛ تخليدًا لجمال باشا السفَّاح، قائد الفوج الرابع في الجيش العثماني، خلال الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918). دحرج ركَّاب السيارة برميلاً إلى الشارع، فتجمَّع بعض المارة العرب الفلسطينيين، وحين انفجر البرميل، تطاير اللحم على الجدران، وذهب نحو عشرة أشخاص آخرين ضحية هذا الانفجار.
هنا، صارع والدي، واتَّصل بجميل الأبيض، وكان مدرس حساب في “المدرسة الأموية الابتدائية للبنين”، وكنت أدرس فيها، وطلب إليه والدي أن يحصل لنا على تأشيرة من القنصلية المصرية في القدس، تسمح لنا بدخول مصر؛ حيث أخوال والدي وخالاته المصريين (من المطرية، دقهلية). وقد كان.
قبل أن ينتهي شهر كانون الثاني/يناير 1948، كنَّا نغادر يافا، وأخذنا ندعو الله أن يحفظنا نيتر وحزبون. وصلنا محطة اللد، بسلام، وركبنا “قطار الشرق السريع”، إلى القنطرة شرق، ومنها ركبنا المعدِّية، وتخطَّينا قناة السويس، إلى القنطرة غرب، ومنها ركبنا القطار الآتي من القاهرة، والمتَّجه إلى بور سعيد، لتبدأ صفحة جديدة في حياتنا، وحياة قضيتنا الوطنية.
*كاتب وباحث فلسطيني مقيم في القاهرة