بين المماليك وداعش.. محاولة لفهم تاريخ العرب المعاصر
الكتاب: “بين المماليك وداعش”
المؤلف: هالة العوري
الناشر: بيسان للنشر والتوزيع ـ بيروت، (ط1، 2019).
تعيد الباحثة في الشؤون التاريخية الكاتبة هالة العوري، في كتابها الصادر حديثا بعنوان “بين المماليك وداعش”، تقليب صفحات التاريخ السياسي للمنطقة العربية، منذ عصر المماليك وصولا إلى الواقع الحالي، مرورا بالحقبة العثمانية، في محاولة لفهم الأسباب العميقة التي أوصلت المنطقة العربية والإسلامية إلى ما هي عليه الآن.
وفي تسلسل تاريخي فيه الكثير من دقة الملاحظة والاستنتاج، تصل الكاتبة هالة العوري إلى أن الأطراف المتصارعة على النفوذ في منطقتنا العربية والإسلامية، على الرغم من التناقضات الشكلية في مشاريعها، إلا أنها في النهاية لا تملك من شروط الصمود في مواجهات القوى الدولية التي بدت أكثر ذكاء ودهاء في توظيف هذه الصراعات لصالح مشاريعها المهيمنة، التي أثمرت مجموعة نظم حكم وجودها مرتبط بدعم القوى الدولية لها.
رؤية المماليك للاستيطان الفرنجي
يغطي الكتاب في 199 صفحة من الحجم المتوسط، ويتألف من مدخل، وعشرة فصول. ومحور الكتاب، هو، “صواب الرؤية الاستراتيجية لمؤسس الدولة المملوكية، ركن الدين الظاهر بيبرس، تجاه خطورة الاستيطان الفرنجي، المتشح بالصليب، في المشرق العربي، على الوجود المادي والحضاري ومستقبل شعوب المنطقة العربية والإسلامية، فعمل جاهدًا على استئصال شأفة بؤر الاستيطان، وملاحقة المغول وترويضهم في آن، ومقارنة ذلك النجاح المملوكي، بالعجز العربي والإسلامي المخيِّم الآن لما يقرب من القرن ونيّف، في الارتفاع إلى مستوى الصراع العربي ـ الصهيوني، المتمثل بدولة الاستيطان (إسرائيل)، والذي يصل إلى التهديد الوجودي ليس للفلسطينيين وحدهم وحسب، بل لشعوب المنطقة كافة، والدفع بهم خارج التاريخ!” (ص 5 ـ 6).
استطاعت الدولة المملوكية، خلافًا للشائع، تأسيس سلطة اجتماعية على نحو حيوي متوازن، بحيث اتسمت ممارسة النخبة المتنفذة من الأمراء المماليك عامة، بالدقة وبالتنظيم الفعال، بهدف تطويق حالات الفوضى الممنهجة وتعزيز التماسك الاجتماعي.
تتناول المؤلفة، في الفصل الأول، “حين يُنصف المماليك”، الدراسات التي أبقت المماليك ودولتهم، “في حالة ضبابية ملتبسة، شوَّهت الحقيقة وأضاعتها في متاهات التغزل بالمبانى الفارهة والذوق الفني الرفيع، وباتت إنجازات فرسان المماليك العسكرية الباهرة مجرّد نتوء شاذ في خضم فوضى واضطربات عارمة، أحاطت بدولتهم” (ص 15).
وبحسب المؤلفة، “استطاعت الدولة المملوكية، خلافًا للشائع، تأسيس سلطة اجتماعية على نحو حيوي متوازن، بحيث اتسمت ممارسة النخبة المتنفذة من الأمراء المماليك عامة، بالدقة وبالتنظيم الفعال، بهدف تطويق حالات الفوضى الممنهجة وتعزيز التماسك الاجتماعي. اللافت بحق، عدم قيام الدولة المملوكية، على الاستبداد والقمع أو على مبدأ التوريث، كما لم تكن أيضًا مجرد فصائل فوضوية متناحرة، بل استندت إلى قدرة الحاكم على التواصل والتوسط لحل النزاعات، وذلك بفتح حلقة الصراع بين أعضاء النخبة من ذوي النفوذ، لتحويل مطالبهم واهتماماتهم إلى نتائج تحفظ بنية الدولة وتماسكها الاجتماعي” (ص 28).
وتتبعه بالفصل الثاني، “تراضي المماليك”، وتعرفنا المؤلفة على الفواصل الرئيسية في الدولة المملوكية، فقد ظهرت الدولة المملوكية (1250 ـ 1517م)، “أثبت فرسان المماليك قدرتهم على الدفاع عن حياض الإسلام والمنطقة العربية، وهذا في حد ذاته سببًا أساسيًّا ورئيسًا لتوليهم سلطة الحكم، وإضفاء الشرعية على دولتهم المملوكية” (ص 33). وتحدثنا المؤلفة عن الصراع بين قطز وبيبرس، واغتيال قطز، وتولى بيبرس الحكم، وتأمين الوضع الداخلى في البلاد، ومواجهة الخطر الصليبي. وبذلك “يعيد الباحثون الفضل إلى الظاهر بيبرس في تأسيس الدولة المملوكية، وكذلك يقدرون جهوده في توحيد المنطقة العربية، وإقامة دولة قوية ضمت بين جوانبها سوريا ومصر والحجاز، حظيت بمهابة واحترام القوى المعاصرة على المستوى العالمي آنذاك”، (ص 44).
من المماليك إلى العثمانيين
تصل المؤلفة إلى “قرن واعد، ولكن!”، كفصل ثالث، وتحاول في هذا الفصل تعداد الأسباب التي أدت إلى نهاية الدولة المملوكية، وبداية سيطرة الدولة العثمانية على سوريا ومصر. وتبحث المؤلفة في وضع مصر، في ظل الحكم العثماني، وتقول: “يصبح الوضع إلى ما قبل القرن التاسع عشر أكثر وضوحًا، حيث نجد مجتمعًا يفيض بالحيوية، يشارك أفراده في الأنشطة المختلفة المعتادة، شأن شعوب العالم آنذاك، حيث لم يعد التقسيم جليًّا بين العسكر وبين الاقتصاديين والسياسيين، فقد تسلل أعضاء الأدجات ـ الوحدات العسكرية ـ العثمانية إلى الاقتصاد، سواء بصفتهم ملتزمين أو شركاء في التجارة والإنتاج. توفرت أيضًا فرص الحرفيين لتوسيع أنشطتهم، بما سمح بالتدفق الاجتماعي المتواصل، الأمر الذي أحدث تغييرات في البنية الاجتماعية، بحيث انخرط بعض صغار الحرفيين في تحالفات مع مختلف الوحدات العسكرية” (ص 58).
وبحسب المؤلفة، “كان القرن الثامن عشر قرنًا واعدًا، اتسم بالحيوية، والتفتح وتطور واعد ذو شأن، غير أن أحداثًا ثلاثة، أصابته في الربع الأخير، قطعت على المنطقة العربية، طريق تطورها الموضوعي الذاتي: الحملة الفرنسية، وما أثارته من تداعيات، انفراد محمد على باشا بحكم مصر، واستنزافه المجتمع في بناء جيش قوي يلبي طموحه في بناء إمبراطوريته، ثالثًا ظهور الوهابية في جزيرة العرب في منتصف القرن، وما شكلته من تغييرات سلبية لا تزال آثارها فاعلة إلى يومنا هذا” (ص 66).
تحالف الرعب
من هنا بدأ “تحالف الرعب والمصالح”، في الفصل الرابع، بعد نجاح الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تأسيس المملكة السعودية الأولى 1744م. وتتعمق المؤلفة في دراسة المصادر حول شخصية محمد بن عبد الوهاب، وعلاقة الوهابية ببريطانيا العظمى، في بدايات القرن التاسع عشر، والانتقال إلى إنشاء علاقات وثيقة مع واشنطن. و”الحصول على ضمان حمايتها للعربية السعودية مقابل العمل تحت رايتها، الأمر الذي خلف أثرًا عميقًا في تداعيات الأحداث المتلاحقة، التي أخذت تجتاح المنطقة العربية منذ خمسينيات القرن الماضي إلى اليوم” (ص 88).
تناقش المؤلفة حقيقة الحملة الفرنسية (1798 ـ 1801)، في الفصل الخامس، تحت عنوان “بين الحقيقة والأسطورة”، فتقول: “تكشف المراسلات بوضوح، دموية العقاب الجماعي، الذي أنزله الغزاة الفرنسيون بالمدنيين غير المسلحين، من قطع رؤوس ورفعها على المشاعل، إثارة النعرات الطائفية والمذهبية، تمزيق النسيج الاجتماعي، تشويه الهوية الثقافية، وأخيرًا نهب ثروات البلاد، وسلب الأهالي لتغطية نفقات الحملة” (ص 90).
هل يصمد تحالف آل سعود والحركة الوهابية، في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية الزاحفة على المنطقة العربية؟
تعالج المؤلفة شخصية باشا مصر الجديد، محمد على، في الفصل السادس، تحت عنوان “على خطى بونابرت”، فقد “أصبح واليًا على مصر في سن السابعة والثلاثين من عمره، توحدت مصالحه وطموحه الشخصي بمصالح البلد” (ص 104). و”اتخذ الباشا كافة السبل، لتوفير كافة متطلبات جيشه الحديث، من تمويل مادي، بإقامة الصناعات والنظم التعليمية، عسكرية ومدنية” (ص 105). و”أرسى باشا مصر نموذجًا في الإمساك بكافة السلطات، احتذى حذوه خلفاؤه من القادة ذوي الخلفيات العسكرية(…) ما أشبه درب كل من نابليون بونابرت ومحمد على باشا(…)، انتهى كلاهما على نحو متشابه، نابليون أسيرًا وحيدًا في جزيرة نائية، آسفًا على مجده الضائع، بينما محمد علي سجينًا في عامه الأخير داخل القلعة، ذاهلًا لضياع حلمه وتبديد ثروات البلاد” (ص 122).
العرب والمسلمون ما بعد الاستعمار
وتتبعه بالفصل السابع، “أهواؤهم شتى”، “انتهت الحقبة الإستعمارية الأوروبية، مخلفة وراءها دولًا يعمها اللاإستقرار الاجتماعي، تديرها حكومات في غالبيتها فاسدة، تسلمها حكام ارتهن غالبيتهم لقوى أجنبية، لضمان أمن سلطاتهم مقابل استمرار ولائهم بما يخدم مصالح الغرب الاستراتيجية(…) وقد خرجت معظمها من أسر الاحتلال الأوروبي، أشبه بأرض مترعة بهويات متنافرة، نتيجة لقيام القوى الاستعمارية برسم حدودها، وفي جنباتها إثنيات مختلفة وطوائف متعددة الثقافات، وقبائل متنافسة عابرة للحدود” (ص 123 ـ 124).
جاء إعلان قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، ليدفع، على حين غرة، بالدين والمذهبية إلى واجهة سياسات الشرق الأوسط
تتحدث المؤلفة عن الثورة الإيرانية 1979، وخوف السعودية منها، وتتطرق مرة أخرى إلى الوهابية وتأثيرها في المملكة السعودية، وفي نهاية الفصل تطرح السؤال التالي: “هل يصمد تحالف آل سعود والحركة الوهابية، في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية الزاحفة على المنطقة العربية؟!” (ص 137).
ثم “إيران ودواخلها”، كفصل ثامن، فقد سقط الشاه وعاد الأمام روح الله موسوي الخميني، و”جاء إعلان قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، ليدفع، على حين غرة، بالدين والمذهبية إلى واجهة سياسات الشرق الأوسط” (ص 140). و”بدأت العربية السعودية تعتبر أي إشارة إلى زعامة دينية أخرى في إيران أو غيرها، بمثابة تقويض لمركزها ونفوذها في العالم الإسلامي” (ص 142).
في الفصل التاسع، “حيّ على الجهاد”، تُعالج المؤلفة الصراع الأمريكي ـ السوفييتي في أفغانستان، وبحسب المؤلفة “كان ينبغي على واشنطن استثمار التدين الوهابي المتطرف، وقدرة العربية السعودية وحلفائها العرب والإسلامويين، على تجنيد (الجهاديين)” (ص 159). وعليه، “قامت الولايات المتحدة الأمريكية بمهام الاستخبارات العسكرية والتدريب والتنسيق، فيما تولت العربية السعودية تمويل صفقات الأسلحة، وتجنيد الجهاديين، وجلبهم من شتى أنحاء البلدان الإسلامية. أما باكستان فقد وفت بكافة تعهداتها، وفرت الدعم اللوجستي، وأقامت معسكرات التدريب” (ص 162).
هؤلاء (الجهاديين)، “أسهموا بفاعلية في الأحداث الدامية التي ألمت بالجزائر، مصر، الصومال، البوسنة، الشيشان، ولاحقًا في سوريا، العراق وليبيا” (ص 165). ترى المؤلفة أن القاعدة “ولدت(…) من رحم الحرب الأفغانية” (ص 166). فقد “التأم شمل أسامة بن لادن ورفاقه مجددًا في أفغانستان(…) وتبني استراتيجية ترمي إلى إحداث هبَّة ضد الحكومات الفاسدة في العالم الإسلامي(…) وهذا يتطلب ضرورة توجيه ضربات مدوية ضد المصالح الأمريكية، تكشف الضعف الأمريكي، وتظهر قوة القاعدة، وتستنهض بالتالي الشعوب الإسلامية، لتعمل الأخيرة بدورها على تقويض نظم الحكم الفاسدة، وإحلال نظم إسلامية أصيلة”(ص 167).
وجاءت النتائج، على النقيض تمامًا مما ارتآه بن لادن، لم ينهض الشارع الإسلامي دعمًا لـ(القاعدة)، ولم تسقط أي حكومة فاسدة، وبحسب المؤلفة، “تحولت عناصر معتبرة من (القاعدة) ومثيلاتها، إلى ذخيرة استراتيجية وأداة تستخدمها واشنطن وحلفاؤها الإقليميون، لخلق المزيد من الفوضى بغرض تمزيق العالمين العربي والإسلامي، على نحو لم يحدث من قبل” (ص 172).
تنهي المؤلفة كتابها، بـ”خلفاء ولّى زمانهم”، كفصل عاشر وأخير، “كان العراق الهدف التالي، فهو الأكثر أهمية استراتيجيًّا في المشرق، فمن يسيطر على العراق وتتواجد قواته في أفغانستان، يمكنه التأثير في الأحداث من جنوب شرق آسيا إلى شبه جزيرة العرب” (ص 175). وتناقش المؤلفة الأوضاع في العراق، منذ سقوط بغداد، وحل الجيش العراقي، وظهور أبو مصعب الزرقاوي، وسيطرة تنظيم ما يدعى “داعش” على الموصل ثاني أكبر مدن العراق.
تختم المؤلفة كتابها بالقول: “ويستّمر الصراع الوجودي الحضاري بأبعاده الدولية والإقليمية، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا”.
*كاتب وباحث فلسطيني