لهذه الأسباب هو “مطارد مع سبق الإصرار”
توفيق محمد
هو اسم الكتاب الأخير الذي صدر للشيخ رائد صلاح وقد وقعه في احتفالية نظمت على شرف صدور الكتاب في مدينة الناصرة يوم 27.7.2017، وهو كتاب يصف حقيقة الحالة التي يحياها الشيخ رائد صلاح منذ خط طريقه الدعوي ومن ثم طريقه السياسي، وهو – أي الشيخ- ما كاد يوقع كتابه الذي يسرد فيه سلسة الملاحقات التي تعرض لها منذ عام 1980 الى هذه اللحظة حتى استأنفت السلطات الإسرائيلية ملاحقته واعتقاله من جديد يوم 15.8.2017 أي بعد 18 يوما من احتفالية توقيع كتابه “مطارد مع سبق الإصرار” لتثبت صدقية ما خطه في هذا الكتاب.
في هذا الكتاب يسرد الشيخ بأسلوب روائي يتناول فيه بعضا من حياة السجن التي عاشها، ويلقي الضوء على الجوانب الإنسانية في هذه الحياة وعلاقاته الانسانية مع كل من يحيط به في عالمه الأوسع داخل غرفته الضيقة التي تبلغ مساحتها بضعا من الأمتار، علاقته بمن يسمع أصواتهم ويكلمهم ويكلمونه دون أن يرى أحدهم الآخر فضلا عن أن يعرف رسمه، علاقته بالسجان الذي أصبح يلقي على مسامعه الأحاجي والفوازير ويعطيه الفرصة بعد الفرصة ليصل الى حلها، فيعجز أحيانا ويصيب أخرى، علاقته بنوع آخر من السجانين يحاوره ويناقشه حول إيمانه بمستقبل هذه البلاد وحول إيمانه بقيام خلافة إسلامية في قادم الأيام تكون عاصمتها القدس المباركة، فتبدو على السجان ملامح استجداء حماية الشيخ له ساعتئذ، علاقته مع مديري السجون التي حظيت باحتضانه واستعلائه على ظلمهم وتعسفهم، علاقته بمن يزورونه من الأهل والمحامين، وسائر مَنْ مِنَ الممكن أن يراهم.
باختصار إنها رسالة تُكَيِّفُ السجن لما يريد هو السجين، فساعة يستعلي على سجانه بثباته وتصغير سجنه وتكييف وتنظيم أوقاته فيه حتى تضيق الساعات في برنامجه اليومي الذي يعده لنفسه عبادة وتلاوة ومطالعة وتأليفا، فتجده في أشهر تسعة قد قرأ 80 كتابا وألَّف أربعة كتب كبيرة الحجم وهي في الحقيقة لمن يعرف التأليف والمطالعة تحتاج الى أكثر من الأشهر التسعة مما يجعل مقولته بأنه كان يحتاج وقتا إضافيا لإتمام برنامجه حقيقية وواقعا، وساعة يجعل من سجنه معتكفا ومصلى وصومعة يختلي بها مع مولاه يناجيه ويدعوه ويعيش لحظات انكسار وذل بين يدي المولى، هي ساعات الصفاء الروحي والاستعلاء الإيماني التي قرأنا عنها في سير الصالحين في كتب مثل كتاب “صفة الصفوة” وساعة يتحدث فيها مع السجانين من بني معروف ويصل الى نتيجة مفادها ضرورة التواصل مع هذا الجزء من أبناء شعبنا تواصل ود يجمع مجتمعنا كله على الخير وساعة وساعة ….
الكتاب يستعرض اعتقاله الأول عام 1980 ومن ثم محاولات استهدافه بتلفيق التهم له وهو رئيس لبلدية ام الفحم، ومن ثم محاولة تصفيته خلال أحداث الروحة عام 1998، ومن ثم سجنه هو وسائر رهائن الأقصى عام 2003 لعامين ونيف، ومن ثم سجنه لخمسة أشهر عام 2010 على خلفية تصديه لجريمة هدم طريق المغاربة، ومن ثم اعتقاله في بريطانيا، ومن ثم سجنه منزليا منذ حزيران 6/2010 وحتى نيسان 4/2011 بتحريض من اللوبي الصهيوني، ثم سجنه تسعة أشهر منذ 8/5/2016 وحتى 17/1/2017 على خلفية الملف المعروف بخطبة وادي الجوز، هذا فضلا عن منعه من السفر خارج البلاد لفترات متواصلة ومنعه من دخول الأقصى ثم القدس منذ عام 2007 ومنعه أحيانا من دخول الضفة الغربية.
لماذا يتعرض الشيخ رائد صلاح لهذه الملاحقة المستمرة والمتواصلة؟
في اعتقادي هناك ثلاثة محاور هامة اعتبرتها السلطات خطا أحمر تجاوزه الشيخ رائد وهذه المحاور هي:
1 – القدس والأقصى
2 – انتخابات الكنيست
3 – المجتمع العصامي
وحتى تكون الأمور واضحة نقرا البنود أعلاه قراءة سياسية تحليلية ليس إلا:
1 – انتخابات الكنيست: قد يقول قائل ان نتنياهو في الإنتخابات الأخيرة حرض على الناخبين العرب ويسعى الى الحد من التمثيل العربي في الكنيست بينما المقولة أعلاه تقول إن السلطة الإسرائيلية تريد من الشيخ رائد صلاح المشاركة في انتخابات الكنيست فكيف يمكن التوفيق بين الإثنتين؟ أقول ان الفرضيتين صحيحتان تمام الصحة فإسرائيل تريد من كل الطيف السياسي العربي في البلاد اللعب في الملعب الإسرائيلي والمشاركة في الإنتخابات لأن في ذلك اعترافا ضمنيا بالديموقراطية الإسرائيلية التي تحفظ لها الوجه “المشرق” أمام دول “النخب الديموقراطية” وبطاقة خضراء لدخول النوادي العالمية المختلفة اقتصاديا وسياسيا وإعلاميا.. ولكنها – أي إسرائيل – بعد أن تحصل على موافقة المكونات العربية السياسية المشاركة في هذا الملعب تسعى بكل ما أوتيت من قوة لضمان تمثيل ضئيل لهذه القوى مجتمعة وإن قوي هذا التمثيل فإنها تسعى لجعله غير ذي تأثير أو فائدة، ومن هنا يأتي الضغط على الشيخ رائد صلاح للمشاركة في هذا الملعب حتى تجعل من سلسلة الثوابت والمبادئ التي يؤمن وينادي بها طبلا أجوف لا يملك إزاءها غير الظهور الإعلامي المضبوط بعد أن يكون قد وقع على الدخول في نادي “الديموقراطية” الموهومة، وقد وعى الشيخ هذا البعد وسائر الأبعاد الأخرى فرفض المشاركة في هذا الملعب ولذلك تراهم – المخابرات- يساومونه على ذلك دائما، وهو دائما يصرح بذلك للإعلام في أعقاب كل تحقيق معه.
2 – القدس والمسجد الأقصى: يبدو أن الحكومة الحالية تحديدا وتنفيذا لنهج سابقاتها قد اتخذت قرارا بإجراء تغيير يخدم الرواية اليهودية في المسجد الأقصى مستغلة الظرف العربي والإقليمي وهي تعلم ان موقف الشيخ رائد صلاح تحديدا من مسألة المسجد الأقصى لا يمكن تجاوزه فعليه تنبني شرعية ومواقف، وهي تعلم ان مواقف دول إقليمية ذات شأن في المنطقة او غير ذات شأن لا تمثل الشرعية التي تمنحها الشعوب والأمة في هذه المسألة وهي –أي الشعوب والأمة – منحازة الى جانب الموقف الذي يمثله ويعبر عنه الشيخ رائد صلاح، ولذلك فإنها ما تفتأ في كل سجن أو اعتقال أو تحقيق تساومه على موقفه من المسجد الأقصى المبارك، وما تزال – كما يحدث هو- تسأله في كل مرة هل ما تزال تعتقد أن المسجد الأقصى في خطر وهو ما يزال يقول لهم: ما دام المسجد الأقصى يقع تحت الاحتلال الإسرائيلي فهو في خطر ولن يزول عنه الخطر الا بزوال الاحتلال الإسرائيلي عنه، وهو يعتقد ان هذا الموقف تنبني عليه مواقف أمة، فهو يشبه في ثباته عليه ثبات أحمد بن حنبل في مسألة خلق القرآن يوم ثبتت بثباته أمة المسلمين.
3 – المجتمع العصامي: في العام 2000 وبعد هبة القدس والأقصى عشنا جميعا مقاطعة اقتصادية من قبل شركات التموين التجارية العادية ومن قبل الشركات الحكومية، عقابا على احتجاجات شرعية جدا وقانونية بامتياز قام بها مجتمعنا في الداخل الفلسطيني احتجاجا على انتهاك حرمة المسجد الأقصى، هذا الوضع كان يستدعي ان يسير مجتمعنا نحو مؤسسات إقتصادية وخدماتية وإعلامية وتعليمية وطبية ورياضية وذاتية النشأة والتمويل، وكانت المسيرة التي تبناها الرجل عمره كله للسير بهذا المجتمع وإن بخطى بطيئة هي قدرة المقل لكنها ثابتة ومصرة. مصرة على أمرين اثنين هما:
أولا. السير على نهج بناء المؤسسة والإنسان في الداخل بناء ذاتيا يعتمد على الذات نحو الوصول الى اقتصاد بإمكانه مواجهة العواصف التي قد تعصف به أيا كانت وللموضوع تفسير لا يتسع المجال للخوض به.
ثانيا: اعتماد التمويل الذاتي او التمويل من مؤسسات نظيفة ذات أهداف نبيلة ورفض التمويل من الدول أيا كانت لأن تمويل الدول لا يأتي الا مع أجندة واشتراطات يجب ان يخضع لها مجتمعنا، ولذلك لم يتقدم بطلب مساعدات من مؤسسات الدولة في هذا الشأن كله كما وأنه رفض كل عرض ممكن من أي دولة أيا كانت حتى يبقى العمل شفافا نظيفا غير خاضع لاشتراطات وإملاءات من هذه الدولة او تلك، وقد أدار ما أدار بشفافية قانونية مطلقة ونظافة يد مرهفة تجعله يتصدق بما يُهدى إليه من خيرات وهي كثيرة – وقد شاهدت ذلك- قبل أن تصل الى بيته على اعتبار ان ما أُهدِيَ اليه ما كان ليكون لو كان غير الذي هو عليه.
لا شك أن ذلك أيضا جعل من ملاحقته هدفا دائما لأنه لو قبل بما قبل به الغير من أموال السلطة لتغيرت المعادلة لأن الأجندة ساعتئذ ستتغير.