الاستشراق.. فعل تآمري على الإسلام أم منهج علمي لفهمه؟
الكتاب: الاستشراق: نشأته ومآله
المؤلف: التوهامي الهاني
الناشر: دار القلم للنشر والتوزيع ـ تونس 2015
عدد الصفحات: 334 صفحة
تظل علاقتنا بالآخر مربكة لأسباب حضارية ودينية ونفسية عديدة ولكن علاقة الآخر بنا لا تخلو بدورها من قلق مماثل. فالتواصل بين الشرق والغرب لم يكن سلسا في الغالب. وكثيرا ما وقع ضحية لسوء فهم من هذا الطرف أو ذاك. ومما يزيد الهوة اتساعا أنّ السياق الخارجي، السياسي والفكري والاقتصادي، ما يفتأ يتغير باستمرار. وهذا ما يجعل العلاقة متحركة تحتاج إلى التدبر في كل حين.
وفضلا عن كونها متعدّدة في الزمن فهي متنوعة في المظاهر إذ تتخذ أكثر من عنوان وأكثر من واجهة. والاستشراق أبرز واجهاتها القلقة. لذلك ما انفكت الدراسات تعود إليه لتعيد تمثله في ضوء ما تغيّر من العناصر. وأثر “الاستشراق: نشأته ومآله” للتهامي الهاني واحد منها يكشف منذ عتبته الأولى [مآله] الكائنة في العنوان هذا البعد المتحرك فيه.
بين يدي الكتاب
يشتمل الكتاب على عشرة فصول تتجاور في محتواها أو تتقاطع وتتفاوت طولا وعمقا. لذلك آثرنا ألا نعرضها خطيّا وأن نردها إلى محاورها الرئيسية الموجهة. فنورد البنية الثاوية التي تخترقها. ومدار أولاها على عرض تعريفات الاستشراق المختلفة وما يراد منه ويشمل الثلث الأول من الكتاب ومدار ثانيها على الاستشراق من خلال تصور المستشرقين أنفسهم فتعرض سيرهم وآثارهم ومنتخبات من آرائهم وتمتد على مدار الثلث الثاني من الكتاب ويعرض الثلث الأخير مواقف العرب الرافضة لهذه الحركة الثائرة عليها.
1 ـ التعريف وعرض المصادرات/ المقدمات
يعمل الكتاب على عرض تاريخ المبحث منطلقا من نشأة إرهاصاته الأولى في الأزمنة القديمة والتماس الأول بين الشرق والغرب، إلى تشكله حركة واعية الأهداف والمقاصد منظمة تنظيما جيّدا. ولكنه يقدّر أن ضبط المصطلح والوعي بالحركة تشكل خاصّة بإنجلترا سنة 1779 وفق تحديد مكسيم رودنسون. ويقدّم المفاهيم المختلفة المقصودة بهذا المصطلح، عند العرب وعند المستشرقين مبرزا وجوها من الاتفاق والاختلاف بين التصورين. فلا يخرج عن متداول التعريفات والأفكار. كأن يحدده بـ”طلب الشرق” والاهتمام بدراساته. ولا يطلبه غير غربي، ومن ثمة لم يعتبر الياباني أو الاندونيسي مستشرقا. ويذكر من شروطه الواجبة التخصص العميق. ورغم نزعته إلى إبراز احتراز العرب والمسلمين منه فإنه يعرض موقف المصري أنور عبد الملك القائل بأن الاستشراق الجاد يقوم بعمل علمي مفيد جدا. فبأياديه يتم الحفر عن الكنوز المخبوءة في ثقافتنا. وإنجازاته رائدة في مختلف المجالات. ومن معايير الجدية عنده البعد عن تهديم الإسلام والعرب. ثم يورد تعريفه عند المستشرقين أنفسهم. فيبين أن المستشرق يرى نفسه عالما نبيلا اختار أن يتجشم الصعاب في البحث، اللغةَ الوعرةَ والكتابات في الآداب والديانات المستعصية على الفهم لبعدها عن التراث الكلاسيكي الغربي.
مقاربة هذا الكتاب لموضوع الاستشراق مهمة لا لعمقها وإنما لكونها تشخّص الكثير من أزمتنا الحضارية ممثله في الريبة في كل ما هو قادم من الغرب.
ويصنف المستشرقين إلى قساوسة وعلماء وتجار مبرزا أن روافده المختلفة تصب في حوض واحد هو سعي الغرب إلى الهيمنة على الشرق ثقافيا واقتصاديا منذ عهود ما قبل الميلاد. ومع ظهور النبوة المحمدية اتخذ هذا السعي عنوانا جديدا هو الصدام بين المسيحية والإسلام. ولئن عرض بعض التعريفات العربية التي تقر بفضل هذه الحركة كتحقيق المخطوطات وإبراز دور العرب في تطوير العلوم فإنه ينتهي إلى دحضها مذكرا قارئه بأننا نعيش في عالم قُلّب لا مكان فيه لخير صرف متمحض في ذاته ولذاته وأن للوجه المليح الذي يفتننا قفا قبيحا تتعذر علينا رؤيته. إنه ” إحدى واجهات الصراع بين الغرب والشرق أما المفاهيم السطحية لمصطلح الاستشراق فهي كثيرة وتغمر الكتب والمنشورات التي تولت طرق هذا الموضوع”.
2 ـ الاستشراق من خلال آرائهم ـ مستشرقون وآراء:
يعرض نماذج مختلفة من المستشرقين (19 مستشرقا) يرتبهم ترتيبا زمنيا خطيا من الأقدم إلى الأحدث بحسب تاريخ الميلاد. فتبدأ قائمته بـ (Noldeké Théodor و Ignaz Goldziherو Hurgronje Christiaan Snouck ) وتنتهي بـ (Chrles Pellat وBernard Lewis..). فكان يعرف العلم مقصود ويذكر أهم آثاره ويعرض بعضا من أفكاره ويتولى أحيانا مجادلته في بعض أطروحاته . ولئن كان يقر من جديد بأنه “لا يختلف إثنان في الجهود الجبارة التي بذلها المستشرقون في دراسة التراث الثقافي العربي والإسلامي .. إذ أن الاستشراق كان له الفضل في النبش عن الماضي وتحقيق المتون ونشر الكتب، وما ينتج عن ذلك من تحريك لسواكن الثقافة وجمود الفكر” (ص 102) فإنه يكتفي في عرض منجزهم بما يراه انحرافا حينا وجوسسة حينا آخر وتنصيرا يهدّم الإسلام حينا ثالثا لأن موضوعيتهم، وفق تقديره، ليست سوى غطاء لأهدافهم المشبوهة. فقصر هذا الفصل على عرض ما بدا له “زلات” في فهم الديانة الإسلامية والثقافة والآداب العربية. وأهمل بالكل ما يساعد القارئ على الإفادة من منجزهم. فيكتفي في ذكر منجز شار بيلاّ، ذلك الرجل الذي بذل عمرا في خدمة الثقافة العربية بالقول إنه بذل جهودا جبارة في الكتابة عن الجاحظ وأنه “بقدر ما كان موضوعيا في دراسة الأدب العربي فإن كتاباته عن اللهجات العربية وعن اللغة البربرية ونشر نصوص بربرية وحديثه عن العادات والتقاليد والحياة اليومية للبربر، تجعل الباحث في أثر شارل بيلاّ يشك في مسيرته وفي مواقفه من العرب والمسلمين..” (ص 220).
3 ـ ثورة الشرق على الاستشراق:
يعرض الكاتب لمناهضي هذا التيار ويهتدي بأفكارهم الناقدة له. من ذلك أنور عبد الملك من خلال مقالته “الاستشراق في أزمة”. ومما ينقل عنه أن المستشرقين كانوا يمهدون الطريق أمام الاستعمار. ويذكّر بأنه كان يناهض فكرة القطب الواحد التي ظهرت مع سقوط الاتحاد السوفييتي وكان يدعو إلى الاتجاه شرقا، نحو مصر والصين، لأنهما قادرتان على تغيير العالم بدل التبعية إلى الغرب.
أما عن إدوارد سعيد فيذكّر بأنه حلل الاستشراق تحليلا علميا. فوجده استثمارا ناجحا بالنسبة للغرب الخاسر فيه هو الشرق. ويسانده في قناعته بألّا وجود لاستشراق موضوعي لارتباطه بالمصلحة وتحوله إلى إيديولوجيا، مبرزا الوسائل المختلفة التي استخدمتها الثقافة الغربيّة لتثبيت فوقيّتها ثقافياً وتربوياً وأخلاقياً.
ويخلص إلى أن الرجلين قد أنصفا الإسلام والمسلمين رغم انحدارهما من غير الديانة الإسلامية، لتنتهي إلى ضرورة تدعيم الاستغراب، مقدرا أن ” المستشرق تحول إلى نوع من المخبر سياسيا للدوائر الاستعمارية” وأنّ “على العرب والمسلمين وكل من كانوا موضوعا ومادة للاستشراق أن يتصدوا للاستشراق بالاستغراب” ص319، تلك الحركة الكاشفة لخصائص الثقافة الغربية والفاضحة لأطماعها التبشيرية والاستعمارية.
4 ـ الاستشراق وبعد؟
في الكتاب جهد ضخم توثيقا وجمعا للمعطيات واطلاعا على الدراسات لتمثل حركة الاستشراق. فقد كان الباحث يسعى إلى الموضوعية عبر عرض الأفكار ثم الردّ عليها بما يدحضها. ولكن النوايا الحسنة وحدها لا تحقق المراد دائما. فعديد الدراسات الحضارية التي تخوض في علاقة الشرق بالغرب كان الكتاب يطرح القضايا بكثير من التشنج على المستوى النفسي والتراخي والتسرع تسرعا يعسّر الفصل بين العلمي والإيديولوجي. ولعل هذا التسرع ما دفعنا إلى عرضه والوقوف على بعض هناته. فنحن إذ نجادله نجادل الكتابات السريعة المتشنجة ونبين خطورتها على وعينا بمنزلتنا في هذا العالم ولا ندافع عن الاستشراق أو نمجّد الثقافة الغربية.
ـ يميل الكتاب إلى عرض الاستشراق في سماته العامة ولكنه يهمل بعض الفروق المهمة ذات الصلة بالسياقات الخاصّة التي تجعلنا نفهمه في عمقه. فهو يسكت بالكل عن الفروق الجوهرية بين الاستشراق الفرنسي والأنجلوسكسوني والألماني وخصوصيات الاستشراق الإسباني الناشئ عن الهوية الملتبسة في علاقة إسبانيا بالعرب والمسلمين. ويجمع بين الاستعراب والاستشراق في ربق واحد دون تمييز. ولا ينتبه إلى نشأة ما بات ينعت بالاستشراق الجديد الذي يعمل تحت عناوين مراكز البحث والديمقراطية وغيرها. ويعرض عن إعراضا تاما عن الخوض في تيار الاستشراق في الفنون، في الفنون التشكيلية قديما، وفي السينما الوثائقية والإثنية اليوم. وهذا من العوامل التي حدت من وجوه إضافته.
ليس مطلوبا من الآخر أن ينهض بعلومنا وآدابنا وفنوننا. وما يقدّره هو ليس أكثر من وجهة نظر يمكن أن ندحضها
ـ يبذل الكاتب الوسع من الجهد ليبرز ما طرأ على مفاهيم الاستشراق الرئيسية من التحولات الكبرى وما انسحب من حركتها على المفاهيم الفرعية ويحاول أن ينزّل ذلك ضمن السياقات الفكرية والحضارية والمادية التي ولّدتها. فينزّل بحثه، بصورته هذه ،ضمن خلفية منهجية إبستيمولوجية تدرس الأنساق المنتجة للمعرفة. ولكن هذه المرامي لم تكن تتبلور في ذهن الباحث بسهولة. ولم تكن تذهب رأسا إلى المفاهيم وتناقشها بقدر ما كانت تعرض منجز كلّ مستشرق وتتصيّد ما سُجّل عليه من المؤاخذات. فظلّ الكتاب يعيد التذكير بما هو قائم في الكتب السابقة له وظلّ أقرب إلى المؤلفات الموسوعية التي يغيب فيها الاختصاص الدقيق.
ـ يقف المتأمل في البنية العميقة التي تحكم هذا المؤلف على الآليات الحجاجية التي تحكمه. ففي الثلث الأول تصريح بأطروحة تدين الاستشراق وتحمله على التجسس والتآمر على الإسلام والعروبة وفي الثلث الثاني يعرض مواقف المستشرقين ويركز على السلبي منها ثم يعرض في الثلث الثالث ما يراه مناقضا لأطروحاتهم وإجمالا يجعل باقي الكتاب سيرورة تدعم أطروحته لينتهي في الخاتمة إلى استنتاج مداه على أن الاستشراق “مؤامرة” و”جوسسة” و”استعمار” و”تلوث” قيمي يجب التصدي له بالاستغراب.
ويعهد إلى المستغربين بدور الكشف عن البعد المادي للحضارة الغربية ويطلب منهم انتقاء ما توافق منها مع الاسلام وغض الطرف عما سواه من المعارف. وهذا الموقف مدار لاحترازات كثيرة. فالاستغراب لا يتنزل دائما ضمن دائرة الصدام بين الحضارات. فكثيرا ما عُوّل عليه لتمتين الحوار بينها من أجل نشر السلم بدل تأجيج الحروب المدمّرة. وكثيرا ما انحرف هو بدوه ليتحول بعض منتسبيه، بفعل الانبهار بمنجزات الحضارة الغربية إلى سفراء للثقافة الغربية، وإلى رافد إضافي لحركة الاستشراق بالمعنى السلبي الذي يتبناه الباحث.
الباحث ينتظر من الاستشراق أن ينوب عن العرب والمسلمين في طرح قضاياهم وتطوير علومهم. ويتجاهل أن طبيعة الأمور تقتضي أن يدرس الغربي ثقافتنا من وجهة نظره الخاصة وأن يسعى إلى أن يطوّع معارفنا لخدمة ثقافته ومجتمعه.
إجمالا يمكن اختزال الغايات القصوى للكتاب في ضرورة التصدي للخطر الداهم الذي يترصد الإسلام والمسلمين. وعليه كان الباحث يعلن النفير العام. ولا تخلو هذه الدعوة من تشنج وقصر نظر. فالباحث ينتظر من الاستشراق أن ينوب عن العرب والمسلمين في طرح قضاياهم وتطوير علومهم. ويتجاهل أن طبيعة الأمور تقتضي أن يدرس الغربي ثقافتنا من وجهة نظره الخاصة وأن يسعى إلى أن يطوّع معارفنا لخدمة ثقافته ومجتمعه. فهذا ما يفعله الفرنسي اليوم بالمعارف الوافدة من أمريكا وما يفعله الإيطالي بالمعارف التي يأخذها من ألمانيا. وهذا ما فعله العرب مع الثقافة الإغريقية بالأمس، يوم كانوا فاعلين في الحضارة. وبدل أن يجعل القارئ يتقمص دور “الضحية الحضاري” ويرى في الآخر شيطانا رجيما متآمرا، كان أولى بهذا الأثر أن يحثه على حجز موقع تحت شمس المعرفة وأن يدفع الشباب إلى أن يعولوا على أنفسهم في اكتشاف تراثهم أو دراسة قضاياهم وأدبهم.
يصنف الكاتب بعض الأخطاء التي وقع فيها المستشرقون ضمن خانة الرغبة في إلحاق الأذى بالثقافة العربية وتدميرها. ويحمل تشكيك بعضهم في وجود الشعر الجاهلي على هذه الغاية الخبيثة، والحال أن الضالعين في الدراسات الأدبية لا ينكرون فضلهم في الدفع بحركة النقد الأدبي العربي، ولا يصنفون هذه الأخطاء على سوء النية ولا يحشرونها في خانة التآمر وإنما ينزلونها في سياقها المعرفي ويردونها إلى تأثير المنهج التاريخي الذي كان سائدا وقتها في أوروبا عامة وفي ألمانيا تحديدا. فقد كانت الدراسات الأدبية منه تنظر في تاريخ الأثر المدروس وتتتبعه تتبعا دقيقا فتقارنه بالنصوص المحايثة له بحثا عن أوجه القرابة الممكنة بينها.
ومن هذا المنطلق شككت في وجود هوميروس الذي تنسب إليه الملاحم الإغريقية دون أن يعلن اليونانيون اليوم رصد مؤامرة ضدهم أو يعلنوا النفير العام. ورغم بعض هناته فقد قدّم هذا المنهج خدمة جليلة للمعرفة الإنسانية، حتى ظهرت مناهج جديدة تجاوزت ما وقع فيه من الأخطاء أحيانا ووقعت هي بدورها في أخطاء جديدة تم تصحيحها لاحقا وهكذا المعرفة فتاريخها هو تاريخ أخطائها.
إن السياق الحضاري يقتضي منا الرصانة الفكرية ويدعونا إلى أن نرشّد تصوراتنا لعلاقتنا مع الآخر وأن نتمثل العلاقات الدولية خارج منطق التآمر الديني وضرورة الدفاع عن بيضة الإسلام المستهدف بعيدا عن التشنج الذي يولّد ردود الأفعال العنيفة وأن ننزلها ضمن دائرة التفاوض. فنعدّ له ما استطعنا من القوة الفكرية والاقتصادية والسياسية، وهو القانون الذي يحكم العلاقة اليوم بين أمريكا والاتحاد الأوروبي أو بين الاتحاد الأوروبي وروسيا. وليست الحرب التجارية هذه الأيام بين الصين وأمريكا إلا برهانا على ما ندّعي.
وعليه نقدر أنّ مقاربة هذا الكتاب لموضوع الاستشراق مهمة لا لعمقها وإنما لكونها تشخّص الكثير من أزمتنا الحضارية ممثلة في الريبة في كل ما هو قادم من الغرب. فليس مطلوبا من الآخر أن ينهض بعلومنا وآدابنا وفنوننا. وما يقدّره هو ليس أكثر من وجهة نظر يمكن أن ندحضها. أما حمله اليوم محمل التجسس والدعوة إلى الانغلاق للضن بمكنونات أسرارنا عن هذا الغربي المتلصص فلا يخلو من بساطة. فالعالم غدا صفحة مفتوحة أمام الجميع بفعل الأقمار الصناعية والأنترنت. والحقيقة أضحت ملقاة على قارعة وسائل التواصل الاجتماعي وقانونها معلوم لدى الجميع. فالعالم تحكمه المصالح ومنطق القوة العلمية والاقتصادية أساسا. أما التشنج والاندفاع فلا يفضي إلاّ إلى الخراب والدمار ولنا في سياقنا الحالي عبر ودروس.