الدولة الإسلامية ونظام الحكم.. مفاهيم وتجارب
على الرغم من صعود عدد من قادة الحركات الإسلامية إلى رأس السلطة في العديد من الدول العربية والإسلامية، إلا أنهم لم يتمكنوا من تقديم نماذج ذات خصائص محددة يمكن أن نطلق عليها مصطلح الدولة الإسلامية.
من إيران إلى السودان مرورا بباقي الدول العربية التي تنص أغلب دساتيرها على أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي، ظل هيكل الدولة الحديثة هو الوعاء الذي اندرجت فيه مختلف الاجتهادات السياسية.
ومع أن المكتبة الإسلامية تزخر بآلاف الكتب التاريخية التي توثق مختلف مراحل تطور المنطقتين العربية والإسلامية قديما وحديثا، إلا أنها في الجانب الدستوري والقانوني المتصل بالدولة ظلت في أغلبها أقرب إلى الترجمة والنقل من التجربة الغربية منها إلى النحت الإسلامي. كما هيمن عليها الاصطفاف الأيديولوجي الذي قسم المنطقة العربية والإسلامية، بين شق وطني يعتقد بثراء المكتبة الإسلامية وتقدمها عن غيرها من الاجتهادات الفكرية، وبين نخبة تعتقد بأن العلم لا وطن له، وأن التلاقح الفكري والثقافي من أهم أسباب التطور في مختلف المجالات.
ولكن الحاجة إلى مفاهيم وآليات دستورية وقانونية لإدارة الدولة لم تظهر بشكل جلي وواضح، إلا مع ثورات الربيع العربي، التي أعادت صياغة المشهد السياسي بالكامل، وفتحت الباب على مصراعيه أمام مختلف التيارات السياسية الوطنية للبروز وتصدر المشهد، وكان من بينها تيار الإسلام السياسي الذي ظل ينظر للدولة الإسلامية منذ مطلع القرن الماضي.
“عربي21″، وفي سياق متابعتها للحراك الفكري الذي تعرفه المنطقة العربية والإسلامية، تعيد فتح ملف الدولة الإسلامية كمفهوم وآليات، وتطرحه على قادة المجتمع السياسي والفكري في العالمين العربي والإسلامي.
التباس فكري.. مقدمات أولية
يرى كثيرون أنّ فجوة الثقة المتواصلة بين حركة “النهضة” وخصومها السياسيين، منذ نشأتها في حزيران (يونيو) 1981، والتي أبانتها الجلسة البرلمانية المخصصة لمنح الثقة لحكومة الحبيب الجملي، يوم الجمعة 10 كانون ثاني (يناير) الجاري، وإن بدت سياسية، فهي تخفي في طيّاتها معارك قانونية وتشريعيّة أكبر، بدأت فصولها أواخر ثمانينيات القرن الماضي، مع احتدام الصراع الهووي حول الموقف من طبيعة المجتمع ومؤسساته المنتجة، المرأة والزكاة على وجه الخصوص، وتتواصل اليوم في ظلّ عجز دستور 27 كانون ثاني (يناير) 2014 وإن خفت صداها ونفض غبارها، كلّما عاد السجال الفكري إلى مربّعي الدولة والحكم، وموقع الشريعة في كل منهما.
لم تكن كتابات الراحل محمد الشرفي، “الاسلام والحريّة: الالتباس التاريخي” الصادر سنة 1999، وراشد الغنوشي، “الحريات العامّة في الدّولة الاسلاميّة” الصادر سنة 1993، وفق كثيرين، إلا نفيا لمنظومة قيم الحريّة، أو تبيئة لها، ضمن الفضاء العربي الاسلامي، وصدى مباشرا للصراع السياسي الذي طبع علاقة “النهضة” مع الدّولة ومؤسساتها، والذي يأتي بدوره تعبيرا، عن حالة التباس فكري تخصّ منظومة الحكم ومرجعياتها، ظلّ يلازم النخب العربيّة، أصحاب الأطروحة الإسلاميّة على وجه الخصوص، منذ حادثة السقيفة وما تلاها من انقسامات مذهبية وفكرية، لا زالت تشق الأمّة، أربعة عشر قرنا بعد وفاة الرسول.
لئن كان البعض يعدّ كتاب “الأحكام السلطانيّة” لأبي الحسن الماوردي (توفي 450 هجري)، مرجعا متقدّما ومؤسسا لنظرية الحكم السني في الدولة، فإنّ جملة الاشكاليات التي طرحها كتابا “الإسلام وأصول الحكم” لعلي عبد الرازق، صدر سنة 1925، و”الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي” لوائل حلاّق، صدر سنة 2014، لا تزال تحتاج إلى ردود فكرية وفلسفية أكثر متانة، من قبل القائلين بوجود نظرية للدولة في الإسلام، تكون ترياقا لمعضلة الحكم، المبحث الشاغل للمفكرين الإسلاميين، ما بعد الرابع عشر من كانون ثاني (يناير) 2011، وهو تاريخ سقوط أول نظام عربي رسمي تحت ضغط الاحتجاجات الشعبية.
بغض النظر عن المواقف التاريخانيّة والأديولوجية التي صيغت فلسفيا، ولا تزال متحكمة في رؤية مفكري الغرب للإسلام ودولته المنشودة منذ عصر هيغل، ومع الإقرار بأنّ ما يتحدد في النظرية، من حيث المبادئ ليس هو نفسه ما يتحدد في الواقع من حيث الإنجاز، يرى كثيرون بحاجة الإسلاميين، خصوصا من قذفت بهم رياح الربيع الديمقراطي إلى مربعات السلطة وتخومها، إلى مزيد تحيين طروحات الحكم، بما يتواءم مع أنظمة الحكم الديمقراطية الحديثة.
التقرير التالي يسأل مدى صلابة الأطروحة الإسلامية القائلة بوجود نظرية في الحكم الإسلامي، ومناقشة الردود الكاشفة لهناتها.
خلط منهجي يتعلق بمسألة الحكم في الإسلام
يشير الدكتور سمير ساسي، باحث جامعي وعضو وحدة بحث الظاهرة الدينية في تونس، إلى الخلط المنهجي الحاصل فيما يتعلق بتحليل ملف الحكم في الاسلام، والذي يراه نابعا من استئذان بعض الباحثين لفصل وهمي بين الدين والسياسة مثلما هو مطروح في فلسفات أخرى ومذاهب مختلفة عن الإسلام، مضيفا أنّ “تنزيل هذه المفاهيم على الإسلام، يجعل الباحث منسجمًا مع مقدماته، لكنه في وضع الإسقاط إزاء موضوع بحثه، لأنه يتجاهل خصوصية هذه التجربة السياسية في التاريخ والفكر، فلا يراعي حضور الوحي كمقوم أساس في النظام السياسي الإسلامي لأنه ينطلق من القول بتاريخية النص، ثم إنه يفترض شكلا من أشكال التنظم السياسي وهو الدولة ليحاكم به انتظام المسلمين السياسي”.
ويعتبر سمير ساسي أنّ قلّة من الباحثين انتبهوا إلى أن ذلك مخالف لمنطق العلم، على سبيل المثال برتران بادي في كتابه “الدولتان” وإرماندو سلفاتوري في كتابه “سوسيولوجيا الإسلام”، مضيفا بالقول أنّ “معضلة بعض الباحثين العرب والغربيين، أنهم فشلوا في التخلص من إكراهات المفاهيم السياسية التي تلت تجربة الانتظام السياسي للمسلمين أو من سبقهم، وهيمنت على منظومة السياسة المعاصرة، وهذا ما جعلهم يحومون حول سؤال: هل هناك دولة إسلامية؟
واختلفت إجاباتهم وغلب عليها منطق الاستحالة كما صاغها وائل حلاق، وشكك آخرون في مقوماتها في حين انبرى كثير من الإسلاميين أو الحركات الإسلامية لتبني المفهوم ومحاولة إيجاد صيغة منسجمة مع ما يحملونه من قراءة عن الإسلام.
ويعيب ساسي على الحركات الإسلامية المعاصرة بحثها التوفيق بين مرجعيتها النصّية ومفاهيم وقيم سياسية مستمدة من نظريات غربية، ممّا صيّرنا أمامً رؤى مفتقرة للنسق الفكري الناظم، رغم وعي هذه الحركات بضرورة التجديد والتجاوز للمنجز السياسي القديم.
المفصليّة التاريخيّة والسياسية لحادثة السقيفة
تشير حميدة بالسعد، باحثة في العلوم السياسية بكلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس، في تصريح لـ “عربي21″، إلى إجماع المتقدمين من الباحثين والمتأخرين منهم على “النموذج التأسيسي للحكم الإسلامي في عقد البيعة””، مؤكدة على أن حادثة السقيفة، وما عرفته من اختلاف بيّن حول آليّة اختيار خليفة الرسول، مثلت اللبنات الأولى لولادة وعي سياسي، سرعان ما تطور إلى تباين فكري حول ماهية السلطة ودورها ووظائفها، مضيفة أنه مع تبلور الاختلافات في مفاهيم الدولة وتدبير شؤون الناس، خصوصا مع منتصف القرن الثاني للهجرة، نشطت المناظرات الكلاميّة ودواوين الحديث والشعر وكتب التفسير ورسائل الإمامة، التي عُنيت جميعها بمفاهيم السلطة والدولة، ليتولّد عن ذلك التفكيرٍ في الشأن العامّ، تفكيرٌ سياسيٌّ، وعن هذا الأخير تولّد تفكيرٌ في السلطة والدولة، بحسب ما ذهب إلى ذلك رضوان السيد، في ورقته البحثية المحكّمة “الفكر السياسي الإسلامي مدارسه واتجاهاته”، تضيف حميدة بالسعد.
في نفس الإطار، يرى الفيلسوف أبو يعرب المرزوقي، ضمن محاضرة بعنوان: “هل للإسلام نظريّة في الدولة؟” ألقاها في معهد الدراسات العليا بالدّوحة سنة 2016، أنّ “الفتنة الكبرى” تمثل الدليل القاطع على وجود نظريّة في الدولة عند المسلمين، حيث نشب الخلاف بين الصحابة حول مصدر الحكم إن كان بالاختيار أم بالوصيّة، في تجاوز لنظرية الحق الإلهي التي كانت سائدة في النظام الكسروي والقيصري، وهو ما عالجه الغزالي في ما بعد في كتابه “فضائح الباطنية”، والذي تخيّل فيه حوارا بين باطني وسني حول مصدر السلطة، هل هي بالحق الإلهي أم بالخيار، وانتهى فيه إلى أنّ الحكم يكون بالاختيار.
تقعيد نظريّة الدّولة في الإسلام
يرى أبو يعرب أنّ اللبنات الأولى للبحث النظري في نظرية الدولة التي صيغت بمقتضى الإسلام، قد تمّت بولادة كتاب الأحكام السلطانية للإمام الماوردي، مضيفا أنّ الأبواب الأولى من الكتاب المتحدثة عن عقد الإمامة وتقليد الوزارة والولاية على المصالح وما فيها من تفصيل لمفهوم السيادة ومن ينتخب الخليفة ومن له أهلية الترشح لينتخب والتفصيل بين وظيفتي التفويض والتنفيذ، قد وضعت نظرية الدولة انطلاقا من هذه المرجعية المعتمدة على نفي الكنسية، أي بداية اعتبار الفرد مركز الذات السياسية، باعتباره صاحب قرار البيعة، وهو ما يقوّض عمليا سلطة “الحق الإلهي”، التي لم تقطع معها أوروبا إلا بحروب القرون 16 و17 و18، والتي انتهت بقصّ رأس الكنيسة في بريطانيا.
تبين حميدة بالسعد أنّ الماوردي، صاحب كتاب “الأحكام السلطانيّة “(توفي سنة 450 هـ)، يمثل الجيل اللاحق للمدرسة الرابعة من الفكر السياسي الإسلامي، وفق تصنيف رضوان السيد في مؤلفه أعلاه، والمعروفة بمدرسة فقهاء السياسة، التي تلت بدورها مدارس ثلاث هن: “الآداب السلطانيّة”،”الفلاسفة الاسلاميين”، ممثلة في الفارابي وابن رشد، ومدرسة “المتكلمين” من السنة والشيعة، حيث قال السنة بأن الخلافة تكون بالشورى، وهي مسألة اجتهادية وليست عقائدية، وقال الشيعة أنّ الامامة مثبتة بالنص والوصية، مشيرة إلى اعتماد الإسلاميين المعاصرين على نفس هذه المدارس المرجعيّة، تأصيلا لنظريتهم في الحكم الإسلامي.
أبو يعرب والمقوّمات الأساسية لمشروع الإسلام في الحكم
يقول أبو يعرب بتوفّر خمس مقوّمات أساسية للدولة الإسلامية ويعدّدها في: المشروع، تثبيت المكان (تكوين الثروة)، تثبيت الزمان، أثر الزمان في المكان (تكوّن الثقافة أو التراث) ثم المرجعية. ويعتبر أنّ معياري مشروع الدولة الكونية هما وحدة البشريّة، دون اعتبار ما يوحدهم (العقيدة الدينيّة)، والانتساب للمجموعة، بغض النظر عن الخيارات العقديّة، إسلامية كانت أم يهودية، مضيفا أنّ الدولة الإسلامية لا تعتمد على التمييز الديني بين البشر، عملا بالآية 13 من سورة الحجرات: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى? وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ? إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ”، ويعتبر أبو يعرب أن هذه الآية جمّعت خصائص وغايات بيولوجية (ذكر وأنثى) وأنثروبولوجيّة (شعوبا وقبائل) ومعرفيّة (لتعارفوا)، مؤكدة على أنّ أساس الكرم عند الله هو خشية القانون (الشريعة).
في ذات سياق شرح مقومات مشروع الدولة الإسلامية، يقول أبو يعرب بأنّ الرسول هو واضعه وشارحه ومعلّمه بالسنّة، وأنّ أبا بكر هو من ثبت مكان المشروع وحدّد له مركزه المتمثل في الجزيرة العربيّة. فيما يرى في عمر بن الخطاب، من خلال التأسيس للتاريخ الهجري وجعله تقويما للدولة الإسلامية، مثبت الزمان في المكان، وأنّ عثمان بن عفّان هو مثبت المرجعيّة من خلال توحيده لنسخ القرآن.
في الرد على نفاة الدولة الإسلامية
يعيب أبو يعرب على كل من وائل حلاق، صاحب كتاب “الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي”، النافي لإمكانية تحقق الدولة الإسلامية في المستقبل، وعلى علي عبد الرازق، صاحب كتاب: “الإسلام وأصول الحكم”، الذي ينفي وجود نظرية جاهزة في الدولة الإسلامية رغم إقراره بتحققها في عهد الرسول، عدم تأسس موقفها من الدولة الاسلامية على موقف داخلي من الحضارة الاسلامية وإنّما تأسس على موقف ذامّ (حلاق) أو مادح (عبد الرزاق) للحضارة الغربيّة.
ويعتبر أبو يعرب أن كلا الموقفين هما من قبيل تحصيل الحاصل ومصادرة عن المطلوب، فلا يوجد عاقل بوسعه القول بوجود نظرية للدولة الإسلامية على الشاكلة البريطانية (الشكل اليبرالي للدولة) التي يصبو إليها عبد الرازق، ولا أحد يمكنه القول بتحقق دولة إسلامية، على شاكلة الدولة الإسلامية زمن القرون الوسطى، في المستقبل كما ينادي حلاّق. ورغم تأكيد أبو يعرب على أن نفي الوجود في الماضي (غياب النظرية وفق عبد الرازق) أقل خطرا على الدولة الإسلامية من نفي الإمكان في المستقبل (التحقق العملي وفق حلاق)، فإنّه يشير إلى أنّ ضعف أطروحتي عبد الرازق وحلاق يتمثل في عدم البحث في مفهوم الدولة وتاريخها قبل الجزم بإمكانية تحقق الدولة الإسلامية، فكرة أو واقعا، من عدمها.
ضرورة مراعاة اختلاف التجربة التاريخية
يعتبر الدكتور مصدق الجليدي، جامعي وباحث في الحضارة الإسلامية وتجديد الفكر الديني، أن ظهور الدولة في التاريخ الإسلامي أملته الحاجة العمرانية للجماعة المؤمنة الناشئة، ومن تعايش معها من أصحاب الديانات الأخرى، معتبرا أنّ تلك الدولة لم تكن أبدا نموذجية ولا مكتملة بالمعيار المؤسسي في عهد الرسول، غير أنّها لم تكن كافية لحل مشاكل الجماعة في ذلك الحين، مضيفا أن هذا يفهم بكون وظيفة الاستخلاف والإعمار في الأرض سيرورة بنائية متواصلة وليست إعادة إنتاج لنماذج جاهزة مكتملة.
في نفس السياق، يشير الجليدي أن الدولة الإسلامية في أوج تقدمها وعظمتها لم تكن من صنع العرب المسلمين لوحدهم، بل إن النصيب الأوفر في بنائها ومأسستها كان للأجناس الأخرى من المسلمين ومن غير المسلمين الذين اتّصلوا بالأمة الإسلامية أو اندمجوا فيها، فساعدوها أيما مساعدة على بناء حضارتها، بما جلبوه معهم من تجارب الأمم الأخرى في الحكم وتسيير الشأن العام، وبما تمكّنوا من إضافته بفضل ما وجدوه من مناخ ملائم للإبداع والابتكار والإعمار في العالم الإسلامي، وهذا أيضا مما لا يصعب قبوله من وجدان المسلم في ضوء مبدإ التعارف القرآني.
من جهته، يرى الدكتور الهادي الغيلوفي، جامعي مختص في التاريخ، في تصريح لـ “عربي21″، أنه رغم محاولات الإسلاميين المتكررة للتوفيق بين الديمقراطية الغربية والدين الإسلامي أملا في الترويج لأطروحتهم لدى الغرب لكي لا يحول دون وصولهم إلى السلطة عبر صناديق الانتخاب، فضلا عن محاولات مفكريهم تبيئة القيم الغربيّة في الفضاء العربي الإسلامي، إلا أنهم لم ينتبهوا إلى اختلاف المرجعيات الفكرية والتجربة التاريخية، مشيرا إلى أنّ التجربة الغربية التي انطلقت مع الثورة الفرنسية منذ القرن العشرين والتي أدت إلي التحرّر من الإقطاع، وبروز الثورة الصناعية ثمّ الثورة التشريعية في البرلمان الانجليزي، ومن ثمّة الثورة الامريكية، كانت كلها نتيجة ثورة فكرية ضد الكنيسة، مؤكدا في ذات السياق على ضرورة الفصل بين الديني والسياسي، أو يعبر عنه البعض بالعلمانية الغربية، كشرط ضروري لفض الاشتباك بين الديني والسياسي، وهو ما لم يحصل في عالمنا العربي.
الممارسة السياسية عامل مساعد على تبيئة الرؤية الفكرية
تصنف حميدة بالسعد حركة “النهضة” ضمن مدرسة الممارسة المنتجة للأفكار، معللة ذلك بأنّ حركة “النهضة تبني رؤاها ونظرياتها ومواقفها بناء على تطور ممارستها السياسية وتحولاتها التنظيمية، التي شهدتها منذ نشأتها اواخر الستينات، تحت مسمى الجماعة الاسلاميّة، وصولا إلى حدود اللحظة السياسية الراهنة”.
وأضافت: “إنّ حركة النهضة شرعت بداية من تسعينيات القرن الماضي في مراجعات جذرية لنهجها الفكري والسياسي، متحللة من إرثها الإخواني، وسائرة نحو التلبس أكثر بواقعها، وتبيئة مشروعها السياسي والثقافي، ولا أدل على ذلك ما طرحته الحركة في وثيقة الارضية الفكرية ونظرية العمل وملامح المشروع 2010، والتي تجاوزت فيها الحركة الطوباوية واللاتاريخية، وتقلص شحنات الرفض للواقع التونسي، وقد تضمنت في بنودها: اعترافا صريحا بتجربة الاصلاح الفكري التونسي، واعتبار الفكر الإصلاحي التونسي من روافد حركة النهضة، فضلا عن تنامي عقلية الواقعية والتفاعل مع البيئة المحلية والاقتناع بعدم إمكانية القفز على واقع القطرية”.
من جهته، يرى الدكتور شاكر الحوكي، جامعي مختص في الفكر السياسي، في تصريح لـ “عربي21″، أنّ المطّلع على كتابات الغنوشي وأدبيات حركته، يقف دون مواربة على امتلاك الحركة الإسلامية التونسية لتصوّر خاص للحكم، دون أن يكون ذلك جزما قاطعا بتوفرها على شروط الحكم وتمامه، معتبرا أنّ القول بتمام الشروط قد يجرنا إلى إجابات متعسفة.
وأضاف: “الثابت أن هذا التصور للحكم ـ ولا أريد أن استعمل عبارة النظرية، هو تصور فيه قدر كبير من الانسجام والواقعية العملية، وليس صدفة أن تقوم عملية الانتقال الديمقراطي التي تمر بها بلادنا بحصد معظم الأحزاب السياسية بمختلف تلويناتها الأيديولوجية التي ظهرت قبل الثورة وحتى بعدها باستثناء حركة النهضة”.
وتابع: “إنّ الدليل على انتصار القراءة الإسلامية لخيار مدنية الدولة، يبرز جليّا من خلال ما تمّت إضافته للفصل الثاني في دستور 2014، والذي يهمّ مدنيّة الدولة ويحدد معناها في عبارة علوية القانون وسيادة الشعب والمواطنة”.
في المقابل، يقرأ مصدق الجليدي ما تسميه حميدة بالسعد بواقعية “النهضة” في تعاملها مع الواقع، على أنها مجرّد صيغة بيداغوجية مضاعفة في التعامل مع مسألة تطبيق الشريعة، لكونها تتوجه إلى أنصار الحركة الإسلامية بخطاب يبرر عدم الاستعجال في المناداة بتطبيقها، مؤيدا قراءته بما تضمنه كتاب “الحريات العامة في الدولة الإسلامية” من القول بأنّ الإسلاميين سيعرضون مرة من بعد مرة تطبيق الشريعة على الناس، حتى يأتي الوقت الذي يقتنعون فيه بها، ويصبحون من المطالبين بها ومن الداعين إلى تطبيقها، مشيرا في الآن ذاته إلى ما اعتراه بناء مفهوم الحرية في نفس الكتاب من منهج توفيقي إسقاطي، أي تلفيقي في النهاية، حيث لا نجد له إطارا نظريا منسجم العناصر، بل إحالات لمدارس فكرية إسلامية معاصرة متباينة، كالطاهر ابن عاشور (مدرسة مقاصدية)، وحسن الترابي (مدرسة الإسلام الإخواني الحركي البراغماتي)، ومحمد إقبال (مدرسة فلسفة تجديد الفكر الديني على قاعدة مفهوم ختم النبوة) ومالك بن نبي (الإسلام الحضاري)، وعثمان أمين (اليسار الإسلامي).
الإسلاميون وليبرالية مشروع الحكم
يشير الدكتور الصغير الزكراوي، أستاذ القانون العام بالجامعة التونسيّة، في تصريح لـ “عربي21″، إلى أنّ مشروع الحكم عند الإسلاميين، إذا سلمنا بوجوده، ليبرالي في جانبه الاقتصادي، لاعتماده بصورة كلية على اقتصاد السوق، بما يشمله من خصخصة وتفكيك المرافق العمومية والقبول بالأليكا مع تطعيمه ببعض الوصفات الاجتماعية على غرار مناداتهم بالاقتصاد التضامني، وفق قوله، مؤكدا في ذات الإطار على أنّ مشروع الإسلاميين “يهدف بالأساس إلى التمكن من مفاصل الدولة وبناء الحكومة الإسلامية، كهدف استراتيجي، وأنّ ما يمنعهم من ذلك هو تزامن الإكراهات الظرفية الإقليمية والدولية، ويجعلهم يتراجعون تكتيكيا ويقبلون بالدولة المدنية وبالديمقراطية”، نافيا بذلك امتلاك الإسلاميين في تونس لمشروع حكم متكامل، على وجه الخصوص في الجانب الاقتصادي، مضيفا أن افتقارهم للكفاءات القادرة على صياغة برنامج اقتصادي وفشلهم في الحكم خير دليل على ذلك.
ويضيف الزكراوي أن محاولة الإسلاميين إدراج الشريعة كمصدر من مصادر القانون، يندرج في إطار سعي الحركة الإسلامية إلى ما أسماه بـ “أسلمة المجتمع”، فضلا عن تشجيعهم على تركيز البنوك الإسلامية وإحداث صناديق الزكاة، مشيرا إلى “تقدّم الحركة بمشاريع قوانين مثيرة للجدل حول الأوقاف ومسائل أخرى على صلة وثيقة بالشريعة الإسلامية، وهي مداخل للتمكين. فمشروع الإسلاميين في تونس هو مشروع الإخوان المسلمين، الذي سقط غير مأسوف عليه، وهو مشروع يقسم ولا يجمع، يفتت المجتمع ولا يوحّد. وهو مدخل لتفكيك الدول والسودان خير مثال على ذلك”.
يوافق الغيلوفي ما ذهب إليه الزكراوي من افتقاد الإسلاميين لمشروع حكم متكامل، معتبرا أنّ الدليل على ذلك هو اقتصارهم في غالب الأحيان على مجاراة النخب الحداثية، فيما يتعلّق بتبني كل مكاسب دولة الاستقلال، من قبيل منع تعدد الزوجات وتبني الحرية الاقتصادية، محاولة منهم لإظهار التماهي مع باقي النخب الليبرالية.
ورأى الدكتور شاكر الحوكي أن “مشكلة حركة النهضة اليوم ليست في الفكر السياسي الذي تحمله، فهو فكر نجح في أن يواكب عصره وهو لا يختلف كثيرا عن الفكر البورقيبي أو فكر خير الدين التونسي الإصلاحي، وهو الأمر الذي أشار إليه عالم الاجتماع التونسي عبد القادر زغل منذ أكثر من عقدين، ولكن المشكل في الممارسة السياسية لحركة “النهضة” التي تعاني قطيعة وتوتر في كثير من الأحيان مع ذلك الفكر السياسي الذي بلورته نفسه”، إلا أن الدكتور سمير ساسي يقول بغياب مدوّنة ناجزة عن نظام الحكم لدى الإسلاميين، وأنّ الجهد النظري المهم، الذي بذله عبد المجيد النجار من أجل تحرير الفقه السياسي من مفاهيم قديمة لم تعد صالحةً لزماننا كمفهوم ولاية العهد، على أهميته، لم يسند على مستوى الإنجاز أو على مستوى التناسق الفكري، من قبل كتابات باقي رموز الحركات الإسلاميّة.