كتاب القرآن ومجتمع اللاّدولة يعيد قراءة علاقة الدين بالسياسة
الكتاب: “القرآن ومجتمع اللاّدولة”
المؤلف: الدّكتور محمد الرحموني
الناشر: الشّبكة العربية للأبحاث والنشّر 2019
عدد الصفحات: 272 صفحة
عن الشّبكة العربية للأبحاث والنشّر، صدرت الطّبعة الاولى 2019 من كتاب “القرآن ومجتمع اللاّدولة” قراءة في مفاهيم الجاهلية والكفر، للأستاذ ودكتور الحضارة بالجامعة التونسية محمد الرحموني.
لا تكمن أهمية الكتاب فقط لكونه يعيد الحفر في تاريخ نشأة الدولة في الإسلام، ولا في علاقة الدين بالدولة، وإعادة النظر في كثير من المفاهيم الدينية والتاريخية، وإنما تأتي أهمية الكتاب في تأكيد الصلة بين السياسة والدين في ظل تغيرات سياسية عربية أعادت خلط الأوراق بالكامل، وأعادت مفهوم السلطة والدولة إلى الواجهة.
والدكتور محمد الرحموني هو أستاذ الحضارة العربية الإسلامية بجامعة تونس المنار ـ تونس. وهو متحصل على الدكتوراه في اللغة والآداب والحضارة العربية وعلى الماجستير في الفلسفة، من مؤلفاته : “الجهاد من الهجرة إلى الدعوة إلى الدولة”، “الدين والإيديلوجيا”، “مفهوم الدهر”… وله العديد من الترجمات منها “ما الثورة الدينية: الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة”، و”تاريخ الحب”.
تضمن الكتاب بين دفّتيه 272 صفحة، واستُهل بمدخل تاريخي بعنوان: “الدين والمدينة والدولة”، بعنوانين رئيسيين عنوان الأول: الدّين أصلا للدولة، متضمنا ثلاثة أقسام: دور الدين في نشاة المدينة 2 ـ الإسلام وتأسيس دولة العرب 3 ـ الدين والدولة في اللغة.
بينما كان القسم الثاني بعنوان: “الدين والدّولة من خلال القرآن والسّيرة والتاريخ” متضمنا الأقسام التالية: الدين والمدينة في القران (أ) الله مهندسا وحدّادا (ب) من القرية إلى المدينة، 2 ـ الدّين والمدينة والدولة في السيرة والتاريخ (أ) في السيرة مدنية الرسول (ب) في التاريخ المبكّر أعداء الدولة الاعراب وأهل القرى..
وانقسم الكتاب إلى فصول ثلاثة وهي: “الجاهلية” فضاء فاصل بين مدينتين “الكفر” القرآني وعقيدة مجتمع اللاّدولة و”الجهاد في القرآن” سبيل الله والأرض والجهاد. وهي منقسمة بدورها إلى عناوين تفكيكية فرعيّة.
حدّد الأثر خلفية البحث النظرية التي تتصل بالبعد السياسي الاجتماعي للإسلام خاصة وأن الدّين اظطلع بالبعد السياسي ساعة ظهوره. ولكن أغلب الذين كتبوا في الموضوع استندوا إلى التّاريخ الحافّ بالقرآن أكثر من استنادهم إلى المتن القراني.
أما الخلفية الثانية فهي مترتبة عن الأولى، تلتقي بالنص القرآني، والتي انتهت حسب المؤلف إلى ثلاثة مواقف: “موقف أهل التسليم والتقليد والتمجيد الذين اكتفوا بما انتهى إليه القدماء، بل رفعوا إنتاج القدماء من فقه وتفسير وكلام إلى مستوى قداسة القران” ص (12).
وضمن هذه الرؤية اندرج العمل متعلقا بالمفاهيم المفتاحية القرآنية، نظرا لقيمة المفهوم الذي دخل في صراع مع المعايير القبلية. واعتبارا إلى أن مراجعة المفاهيم الدينية تنحصر غالبا في فترات التأسيس لأنها تعكس حقيقة الدين وجوهره. وكل هذا يقع بتحليل اللغة العربية باعتبارها تستجيب إلى معنى أصلي مادي محسوس ومعنى ثان إيحائي.
مدخل تاريخي: جدلية الدين والدولة
يرى الكاتب أنه لم يقع اختلاف لدى المسلمين مثلما وقع اختلاف في موضوع علاقة الدّين بالدولة. فكما “لم يُستل سيف كما اُستلّ في الإمامة” لم يحبّر ورق كتحبيره في اختلاط الديني بالسياسي. وبين سياقين مختلفين قارن الكاتب بين رؤيتين: فبينما “اعتبر المؤرخ فوستيل دي كولانج أن ظهور المسيحية مثَّل نهاية الترابط بين الدين والدولة، باعتبار أنها رَوْحنت العبادات وقضت على الآلهة القبلية والقومية وفصلت الدين عن الدولة والتاريخ. فعلى العكس من ذلك رأى ابن خلدون أن العرب لم يتمكنّوا من تأسيس دولة إلاّ بفضل الإسلام” ص (34). وهي المقالة التأسيسية التي لم يتجاوزها إلاّ قلة من الدارسين. بل استعاد المفكر التونسي هشام جعيط حرفيا فكرة ابن خلدون فكتب في مؤلفه “السيرة النبوية” ص (11): “ولكن الإسلام خلافا للمسيحية لم يندسّ في دولة قائمة من القِدم لتعزيزها، بل هو الذي كوّن الدولة التي حافظت عليه ونشرت وجوده”.
لم تكن العلاقة التاسيسية بين الدين والدولة فحسب بل تركت علاقتها في اللغة. فتجلت العلاقة بين الدين والمدينة أيضا فيها، ليتواتر في الكتاب تحليل الدين والدولة في اللغة وتفكيك مفهوم الطاعة والدين والمدينة في القرآن. ويتجلى الله إلها ومهندسا وحدّادا، القادر الوحيد على بناء الحضارت والدول والسلطات. عرّج فيها المؤلف على طبيعة حكم سبإ وإعراضهم عن سكن المدن وقراءة في حركة مد وجزر بعلاقتهم بالمدنية ودلالات قصة يأجوج ومأجوج في النأي عن الحضارة. هنا يتجلى الله مهندس المدن الذي وفّر لأنبيائه أدوات الحضارة لبنائها وتعميرها. فـ”كل تعاليم القران إنما هي مُوجهة إلى كيفية تنظيم حياة حضرية ينتقل بفضلها الإنسان من حياة البداوة إلى حياة المدينة”. ص (47).
يرى الكاتب أنه لم يقع اختلاف لدى المسلمين مثلما وقع اختلاف في موضوع علاقة الدّين بالدولة. فكما “لم يُستل سيف كما اُستلّ في الإمامة” لم يحبّر ورق كتحبيره في اختلاط الديني بالسياسي.
بين ترحال البداوة واستقرار المدينة التي أسسها النبي بدأت نواة الدولة، والتي لم تكن لتوجد لولا تفكير النبي في تكوين جماعة أوسع من القبيلة التي سرعان ما تعاورتها طبائع الأعراب الذين جبلوا على وسم التوحش” قال تعالى (اَلأَعَرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِه) (سورة التوبة: 97″.. لتأتي اللغة مصادقة على طبيعتهم، تجلّى فيها الخروج عن المدينة في شكل الخروج عن الدين.
الجاهلية القرانية :
تجاورت مفاهيم عديدة زمن الجاهلية جامعة بين الشرك والتوحيد والجهل والحلم والأخلاق والفاحشة… فلم تكن العرب على صعيد ليستقر مفهومها القرآني على الجهل بوجود الخالق مع المفاخرة بالأنساب والكبْر لينتهي المؤلف إلى رؤية تعتبر الجاهلية “مجرد فرضية منهجية بغاية بيان تمدّد الإسلام” (73).
واستشهد المؤلف بالمؤرخ “بيتر واب” الذي اعتبر الجاهلية أزمنة مجهولة ومعان مبهمة لينتهي إلى أن الجاهلية مفهوم استحدثه المسلمون مرتين: مرة أولى افتخارا وإبرازا لإسلامهم، وثانية في العصر العباسي لمواجهة الشعوبية، فضلا أن الإسم من الأسماء الأضداد لغة. لينتقل المؤلف بين جاهلية نتنة لم تدم طويلا في الأذهان إلى جاهلية سعيدة تثني على فضل العرب وأداة للمنافسة مع الثقافة الفارسية والبيزنطية حسب وصفه. وهذا ربما كان إحدى فضائل الشعوبية التي دفعت العرب إلى استحضار ماضيهم. فلم تكن الجاهلية إلا زمانا خارج الإسلام وليس مرحلة الاهواء الجامحة، وهو ما تبينه كتب التفسير.
الكفر القراني:
بين جاهلية وقعت لها عملية استئصال دلالي، إلى كفر خضع مفهومه للاختزال، ركّز المبحث الثاني. فالكفر ليس عدم إيمان بالله بل هو مفهوم مكتظّ الدلالة متطور بعلاقة الرسول بمحيطه الاجتماعي والسياسي. اعتمد المؤلف على مقاربة المؤرخ المفكر “ايزوتسو” مدعومة ببحث أنتروبولوجي للفرنسي “بيار كلاستر” عن أصول الدولة والعنف لينتهي إلى أنّ للكفر بعدا آخر لا يقل أهمية عن البعد العقائدي، وهو البعد السياسي. فالكفار في القرآن هم في النهاية أولئك الذين يرفضون منطق الدولة الملازم لمنطق الوحي، إنهم مجتمع ضد الدولة أو هم مجتمع اللاّدولة، ص(125).
اعتمد المؤلف على رؤية الباحثة “روبنسون فالدمان” في رؤيتها لتطور مفهوم الكفر، حيث رأت أنه يعني التكذيب للرسول بكل ما جاء به في المرحلة المكية الاولى، وارتبط بالشرك في المرحلة المكية الثانية، لينتهي بمعنى الحرب في المرحلة المدنية. وعرّج على رأي باحثين رصدوا مساحة المفهوم مثل هدى بحروني والساسي الضيفاوي، ليصل إلى أن الدراسات عصفت بالمفهوم التقليدي بالمفهوم الذي بدا متطورا بناء على اقتفاء أثره في النص القراني، ولكن جوهر المفهوم أنه مؤسس لكل ما هو سلبي بدءا بتكذيب الرسول وانتهاء ورفضا لمنطق الدولة برمتها. بينما كان القرآن يسعى إلى تشكيل نظام يقتضي التوحد والتناغم في المجتمع وقهر والزام في الدولة، فهو صنو مجتمع اللادولة، بلا شريعة أو قانون أو التزام .
الجهاد :
يتنزّل الجهاد في جدلية الديني والسياسي، وقد استند فيه الكاتب إلى تعريف في دائرة المعارف الإسلامية، يقول: “الجهاد في الإسلام لم يكن دائما يعني السيف والعنف فقد كان معركة متعددة الأوجه دفعت التاريخ الإسلامي في مختلف فتراته”، لتكون صيرورة الجهاد من الجهاد بالقرآن إلى الجهاد في سبيل الله، ويبدو ذلك في العلاقة بين القرآن المكي والمدني. ليمرّ الكاتب إلى توضيح معنى الجهاد بالقران، حيث “لا مجال للمعجزات والتدخل الإلهي المباشر أو استعانة بأنبياء آخرين “ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا”، بل استعمال القرآن أداة اساسية في هذا الجهاد” ص (205).
الكفار في القرآن هم في النهاية أولئك الذين يرفضون منطق الدولة الملازم لمنطق الوحي، إنهم مجتمع ضد الدولة أو هم مجتمع اللاّدولة
ويضيف: “لقد ارتبطت دلالة الجهاد في الفترة المكية الثانية بالقرآن باعتباره نصا توحيديا يسعى إلى توحيد جزيرة العرب في مجتمع أصبح يحكمه نص يتعالى على كل الروابط القبلية والدموية. ولمّا كانت المهمة صعبة، ورد الجهاد مؤكدا عليه باستعمال المفعول المطلق والنعت وجاهدهم به جهادا كبيرا “ص(206). بينما يجاهد الكفار في المرحلة المكيّة الثالثة في سبيل الحفاظ على شركههم “ص (206). لينتهي المؤلف بمراجعة مفهوم الكفر الذي مهد لقراءة أخرى في مفهوم الجهاد. ولكن تجد المدونة نفسها في انزياح خطير، إذ بالرّغم من سلمية الخطاب القرآني، انحرف الخطاب الفقهي وانتهى إلى الخلط بين الجهاد والقتال والغزو والنفير والرباط، رغم ضعف المعجم العسكري في القرآن… وكان الخطأ في التأويل.
تُعد المفاهيم الثلاثة المدروسة لبّ النص القرآني لأنها مفاهيم مفتاحية وجدلية، “ليكون جماع القول، بأن جزءا كبيرا من الجدل الذي مازال قائما صلب الحركات الإسلامية بينها وبين خصومها من مختلف الاتجاهات، محوره جاهلية المجتمع والفريضة الغائبة وحكم الكافر. ولكن الكافر مجرم هو في المحصّلة من ينفصل عن قيم المجتمع، وفاسقا إذا خرج عن الحدّ، ومنافقا إذا غاب عن الضبط والانظباط، وضالاّ إذا تاه في فضاء بلا معالم. هؤلاء فقط، شرّع الإسلام جهادهم بالكلمة والسيف حتى يدخلوا المدينة والمدنيّة، ويتسّقوا مع منطق الدّولة.