كتاب جديد يتنبأ بنهاية التفرد الأمريكي بقيادة العالم
الكتاب: بناء نظام عالمي: الوكالة والتغيير في السياسة العالمية
المؤلف: أميتاف أتشاريا
الناشر: كامبريج يونيفيرسيتي برس
الطبعة الأولى: 2018
عدد الصفحات: 224
شهدت السنوات الماضية ظهور كتابات أكاديمية لأساتذة مرموقين، تحاول نقد نظريات العلاقات الدولية السائدة، والتي تمثل بالنسبة لهم منظورا غربيا ضيق الأفق والمفاهيم والمصالح، كما أنهم يحاولون التأسيس لنظريات مستحدثة بمفاهيم ومضامين مغايرة لنظريات العلاقات الدولية السائدة.
الكتاب الذي بين أيدينا واحد من هذه المساهمات الأكاديمية الجادة والتي يحاول بها “أميتاف أتشاريا” تسليط الضوء بشكل مُركز على مفهوم النظام العالمي وكيف نشأ، ومن يديره وكيف يمكن تغييرة بالمستقبل. الكاتب يجتهد لتوسيع فهم طبيعة النظام العالمي من خلال إدخال الجانب المعياري في العلاقات الدولية.
هدف الكتاب توسيع مفهوم الوكالة عن طريق زيادة المشاركين والممثلين على المستوى العالمي، وبخاصة ما يدعوه الكاتب انخراط غير الغربيين للمشاركة في عملية بناء نظام عالمي جديد، ما سيجعل للأفكار والمبادئ والمفاهيم أهمية كبرى بهذا النظام الجديد.
يجادل الكتاب أن تحقيق نظام عالمي واسع التمثيل، يجب أن يؤدي إلى تقليل الصراعات، ورفع درجة التعاون والاستقرار بين الدول، بل وتغييب مفهوم “الحرب لأجل البقاء” في العلاقات الدولية.
مقدمة الكتاب: “إعادة النظر بمفهوم الوكالة والتغيير في النظام الدولي”
يعرض أميتاف أتشاريا حججه وادعاءاته الرئيسية ومن أهمها: أن النظام الدولي تم تأطيره أولا كامتداد لنظام الدول الأوروبية، وبعد ذلك أصبح نتاجا لنظام الهيمنة الليبرالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. أيضا، كثير من الأفكار والمؤسَّسات الدولية رغم ظهورها بطابع أوروبي أو أمريكي، إلا أن هذه الأفكار والمؤسسات تُقدم على أنها مؤسسات وأفكار عالمية.
يؤكد الكاتب أن مثل هذه الإدعاءات بعالمية الأفكار والمؤسسات موضع نزاع دائم بين الدول. أتشاريا يؤمن أن عدم التسليم بعالمية الأفكار والمؤسسات الغربية يفتح المجال أمام مشاركين جدد على الصعيد الدولي بما في ذلك غير الغربيين، لذا وبحسب الكاتب يجب إعادة النظر بمفهوم الوكالة.
لا شك، أن مفهوم الوكالة يركز في أغلب نظريات العلاقات الدولية على الجانب المادي فقط، إلا أن أميتاف أتشاريا يُركز على الجانب المادي والمعياري أيضا، حيث أن المدرسة “البنائية” التي ينتمي لها الكاتب تعطي أولوية للأفكار، والمبادئ والشرعية بالتنظير للنظام العالمي. لذا يطرح الكاتب مفهوم “عالم متعدد” كبديل للهيمنة الأمريكية، حيث لا يكون فيه السيطرة لدول معينة بالمستقبل، ولا يوجد هيمنة عالمية لدولة واحدة كما هو الحال حاليا مع أمريكا، فالدول تتشابك مع بعضها البعض، أي نظام عالمي ينعكس فيه التنوع والتعدد والاختلاف ببناء هذا النظام الجديد.
في الفصل الأول والمعنون بـ “التنظير لتغيير معياري” يبين الكاتب كيف تتم عملية نشر الأفكار والمبادئ بالعلاقات الدولية كما ويؤكد أن إنشاء المعايير والأفكار بعالم السياسة يجب ألا يكون حكرا على الأطراف القوية ماديا، عسكريا، فالمبادئ والمعايير لا يتم تبنيها من الأطراف الضعيفة بالجملة، حيث أن عملية إنشاء وانتشار الأفكار والمعايير يكون من خلال مقاومة مستمرة، ونقاشات ومجادلات ومداولات بين جميع الأطراف. لذا، ينتقد الكاتب في هذا الشأن المدرسة الواقعية. فالكاتب يشدد أن هذه النظرية أهملت دور الأفكار بالسياسة منذ هيمنتها بالعام 1980 على فهم العلاقات الدولية. فالواقعية ترى أن الأفكار تنتشر بالاعتماد بشكل أساسي على القوة المادية للفواعل في هذا الشأن. أميتاف أتشاريا يذكرنا أن المبادئ والأفكار قد يكون مصدرها من الغرب ومن غير الغرب، من الحركات الاجتماعية والفواعل المحليين والدوليين أيضا، لذا فإن إشراك الجميع في بناء النظام الدولي يعطي شرعية للأفكار والمبادئ بالعلاقات الدولية.
أتشاريا يؤمن أن عدم التسليم بعالمية الأفكار والمؤسسات الغربية يفتح المجال أمام مشاركين جدد على الصعيد الدولي بما في ذلك غير الغربيين
في الفصل التالي والمعنون بـ “أقلمة معاهدة وستفاليا”، يركز الكاتب على مفهوم السيادة، الذي هو نتاج لمعاهدة وستفاليا. يوضح الكاتب أن فكرة السيادة لم تتم الموافقة عليها من كل دول العالم، فدول العالم الثالث مثلا فسرت بعض مفاهيم مثل عدم التدخل والمساواة بين الدول بشكل مختلف عن معاهدة وستفاليا. الطعون بمبادئ وستفاليا مثلا أنتج وبحسب الكاتب تراثا مختلفًا في العلاقات الدولية الآسيوية.
أهملت نظريات العلاقات الدولية السائدة أيَّ دور لدول العالم الثالث، رغم أن هناك مساهمات لأقاليم أخرى ذات أهمية في هذا الشأن. ويسرد الكاتب على سبيل المثال نقطتين لمساهمة آسيا في العلاقات الدولية، حيث اجتماع باندونغ والذي كان له دوره في نزع الشرعية عن المواثيق العسكرية للقوى الكبرى، أيضا دور الاجتماع بتشكيل معالم الإقليمية في آسيا، طبعا وبحسب الكاتب هذه المساهمة وسعت فكرة السيادة وتطبيقاتها بالعلاقات الدولية. مثل هذه المساهمات لم تكن مقتصرة فقط على آسيا، أمريكا اللاتينية كان لها أيضا إسهامات، لكن كل إقليم كان يستجيب لسياقاته واحتياجاته المحددة، مما أوجد تنوعًا في التفسيرات والتطبيقات لفكرة ومعايير السيادة.
في الفصل الثالث والمعنون بـ: “تحويل وستفاليا” يتناول الكاتب دور الفواعل غير الأوروبيين بتطوير فكرة التدخل الإنساني، حيث أن موضوع التدخل الإنساني أصبح أحد أبرز موضوعات النظام الدولي في فترة ما بعد الحرب الباردة. يشير الكاتب إلى دور أساسي لغير الأوروبيين ساهموا بشكل مباشر بتطوير مبدأ “مسؤولية الحماية” أمثال فرانسيس دينق وكوفي أنان، يؤمن الكاتب أنها ليست صدفة أن هذين الشخصين من أفريقيا، حيث أن الأخير له سياقه المهم وخبرته الفريدة بموضوع التدخل الإنساني.
تحديات الأمن القومي
خلال فترة الحرب الباردة، كانت فكرة الأمن مرتبطة “بالأمن القومي”، حيث يعكس المفهوم اهتمام الدول الغربية بتأمين أمنها القومي وخصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية. لكن بعد الحرب الباردة أصبح هناك نقد وتحدٍ لفكرة الأمن القومي الغربي كون الفكرة ضيقة، فأضحى هناك دعوات بين النقاد والأكاديميين لإعادة تعريف الأمن وتوسيع المفهوم.
يعالج أميتاف أتشاريا هذه المسألة بالفصل المعنون بـ “إعادة تعريف الأمن”. إضافة إلى ذلك، يشير الكاتب إلى دور دول العالم الثالث بتحدي وتطوير مفهوم الأمن القومي، وذلك على ثلاثة أصعدة، أولًا: مفهوم الأمن القومي الغربي يركز على التهديد الخارجي للأمن القومي بينما في دول العالم الثالث فالتهديد الجوهري هو داخلي. ثانيًا: في دول العالم الثالث، مفهوم الأمن القومي لا يميز بين أمن الدولة أو النظام الذي يترأس الدولة. أخيرًا: في الغرب يركز الأمن القومي فقط على الجانب العسكري بل ويتم إهمال ما هو غير عسكري، بينما بدول العالم الثالث لا يمكن فصل الأمن عن تحديات أخرى مثل العنف والفساد. مثل هذه الجوانب ساهمت بضرورة التعجيل بإعادة النظر بمفهوم الأمن على مستوى العلاقات الدولية.
يذكر الكاتب أن فكرة “عالم متعدد” هو العالم القادم بعد زوال الهيمنة الأمريكية. حيث لا توجد دولة واحدة تسيطر وتهيمن على النظام الدولي كما أن الاتحادات الإقليمية سوف يكون لها دور مهم بالمستقبل
في الفصل الأخير والمُعنوَن بـ: “الإقليمية وبناء النِّظام العالمي” يتناول الكاتب دور وأهمية ما يسميه بـ “الإقليمية” بتطوير النظام الدولي. فعلى سبيل المثال، يناقش الكاتب دور الإقليمية بالدفاع عن الاستقلال وخصوصًا بدول العالم الثالث.
يدَّعي الكاتب أن فكرة الإقليمية مثل الاتحاد الأوروبي واتحادات إقليمية أخرى بالعالم أدت إلى زيادة التمثيل والمشاركة الدولية بتشكل النظام الدولي. فالإقليمية اليوم أوسع وأشمل وأكثر انفتاحًا وتفاعليةً مما كان عليه النظام الدولي في القرن التاسع عشر. بل إن الإقليمية تدعم بشكل عام نظاما عالميا متعدد الأطراف لا يكون فيه هيمنة لطرف دولة واحدة فقط. وبالتالي فإن هذه الاتحادات الإقليمية المختلفة التي تتشكل في مناطق مختلفة في العالم، لها أهمية بالغة بتشكل نظام أكثر انفتاحًا وتعددية.
في الخلاصة يؤكد الكاتب على أهمية تشكيل نظام يساهم بتقليل العنف ويؤدي إلى زيادة الاستقرار والتعاون من خلال التفاعل بين الحكومات. كما ويشدد على دور التمثيل وزيادة مشاركة الأطراف على المستوى الدولي، حيث يؤمن الكاتب أن مشاركة الدولة التي كانت تخضع للاستعمار الغربي سيؤدي إلى شرعنة نظام عالمي حقيقي.
في نهاية الكتاب يذكر الكاتب أن فكرة “عالم متعدد” هو العالم القادم بعد زوال الهيمنة الأمريكية. حيث لا توجد دولة واحدة تسيطر وتهيمن على النظام الدولي كما أن الاتحادات الإقليمية سوف يكون لها دور مهم بالمستقبل في تشكل وتطوير نظام دولي متعدد الأطراف.
لا شك أن هذا الكتاب مهم للأكاديميين وطلاب العلاقات الدولية والنظريات السياسية. فالكتاب ينتقد النظام الدولي الحالي ويبيِّن دور دول غير غربية بتطوير مفاهيم أدت لإيجاد تغيرات إيجابية على الصعيد العالمي.
وأعتقد أن الفصل المعنون بـ “إعادة تعريف الأمن” هو الأكثر أهمية برأيي، حيث يظهر الكاتب كيف أن دول العالم الثالث لها سياقاتها الخاصة وكيف أدى ذلك إلى حتمية إعادة النظر بمفهوم الأمن القومي على سبيل المثال.
يُظهر هذا الكتاب ضيق ومحدودية الفكر الغربي في نظريات العلاقات الدولية السائدة وخصوصًا عندما تستخدم هذه النظريات لفهم ظواهر غير غربية، حيث لكل إقليم خصوصيته وسياقاته الخاصة والتي تنفي بشكل واضح وجود فكر ومبادئ غربية عالمية تطبق على جميع الدول ولفهم جميع الظواهر الدولية.
*باحث مُشارك في مركز دراسات الإسلام والشؤون الدولية بجامعة إسطنبول “زعيم” ومحاضر في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بنفس الجامعة.