اللهم اجعلني تلفزيونًا، اللهم اجعلني آيفونًا
الشيخ كمال خطيب
ما أصدقها وما أدق تعبيرها ومعانيها تلك العبارة التي قالها الإمام الغزالي رحمه الله: “إن أطفالنا جواهر”. في إشارة إلى ذلك الكنز وتلك النعمة والعطية التي وهبنا الله إياها، ثم إنه سبحانه قد ائتمننا على هذه الجوهرة لنصيغ منها ذلك الإنسان الذي طالما ردد الزعماء والأمراء مقولة “الإنسان أغلى ما نملك”. ولكن وللأسف فإن هناك من يجهلون قيمة هذا الإنسان الذي كان طفلًا، فلا يتعاملون معه أنه جوهرة ويحتاج إلى رقّة الصائغ، وإنما يتعاملون معه وفق منطق وأسلوب الحدّاد، فأصبحت العبارة “أطفالنا جواهر لكن كثيرًا من الآباء حدّادون”.
لطالما نسمع من يقول أن الطفل الصغير هو مثل قطعة العجين التي يمكن أن تتشكل وتصنع منها قطعة الخبز والكعك التي تريدها الأم أو أنه مثل قطعة المعجون التي يمكن أن تصنع منها في الصف أي شكل ومجسّم تريده المعلمة. لكن يا ترى هل صناعة قطعة الخبز أو الكعك نصنعها باليدين ستكون بنفس الإتقان والإبداع الذي سيكون باستخدام القالب الثابت والمتوازن ورقيق الصنع، الجواب على ذلك لا وألف لا، فإن صناعة القالب هي أدق وأكثر إتقانًا. نعم إن الله سبحانه وإن رسوله صلى الله عليه وسلم وإن تجربة أهل العلم وعلماء التربية والسلوك قد صاغوا لنا نحن الآباء، القالب الجميل الذي به نصيغ شكل شخصية أطفالنا، وقد قال في هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه وأبواه ينصّرانه وأبواه يمجّسانه”. وقبل ذلك فإنه الله سبحانه الذي قال: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} آية 138 سورة البقرة.
إن الفارق بين تربية وتنشئة الطفل وفق قالب ومنهاج وضوابط وأحكام ومعانٍ في التربية السليمة وبين أن ينشأ الطفل بلا رعاية ولا تربية سليمة ولا ضوابط تحدد له سلوكه، إنه مثل الفارق بين نبتة وشجرة تُزرع في بستان يحيطه صاحبه بأسباب الرعاية من الماء والدواء وبين أن تنبت في البرية فلا تنال حظها من الماء والدواء والحرص عليها من الحيوانات تأكل أغصانها والحشرات تفسد ثمارها.
يؤسفني القول إن كثيرين من الآباء من ينشأ أبناؤهم من غير قالب ويكبرون مثل الشجرة البرية، لا لشيء إلا لأن الآباء والأمهات قد أهملوا دورهم في العناية ولم يأخذ هؤلاء الأطفال حظّهم من الرعاية والاهتمام والتوجيه. نعم لقد وقعت الجوهرة بين يديّ حدّاد خشن غليظ الكفّين وليس بين يديّ صائغ رقيق وناعم الملمس، لقد نشأ هؤلاء الأطفال في بيوت مشغولة في كل شيء إلا في تربية الأبناء والاهتمام بهم، فكانوا أيتامًا وإن كان آباؤهم ما يزالون أحياءًا.
كما قال ذلك أحمد شوقي رحمه الله:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من همّ الحياة وخلّفاه ذليلًا
إن اليتيم هو الذي تلقى له أمًا تخلّت أو أبًا مشغولًا
كم هي معبّرة تلك القصة لمعلمة في المدرسة الابتدائية وقد طلبت من طلاب صفها أن يكتب كل واحد منهم موضوع إنشاءٍ عن أفضل شيء يتمنّاه ويودّ لو أنه يتحقق، كتب الطلاب أمنياتهم وسلّموا دفاترهم للمعلمة التي أخذت الدفاتر إلى البيت لقراءة ما كتبه طلابها وتحديد النتائج والعلامات التي يستحقها كل طالب، وخلال جلوس المعلمة على مكتبتها دخل عليها زوجها وهي تجهش بالبكاء بعد أن قرأت ما كتبه أحد الطلاب فأثار عاطفتها وأبكى عينيها فسألها عن سبب بكائها، فناولته دفترًا وقالت له إقرأ، ليجد أن الطالب كانت أمنيته التي صاغ منها موضوع الإنشاء بعنوان “اللهم اجعلني تلفازًا”، وراح الطالب يشرح لماذا يتمنى أن يكون تلفازًا، لأنه يشعر أن للتلفاز قيمة عند أبيه وأمه لا يحظى بها هو نفسه، ولأن التلفاز تتحلق الأسرة حوله، ولأن كلام التلفاز وما يقوله مقدّم الأخبار أو الممثل في الفيلم والمسرحية مسموع ومقدّس، بل إنهم يقتدون بالممثل ويعجبون أشد الإعجاب بالممثلة. وليس هذا وحسب، بل إن التلفاز يوضع في أهم موقع في صالون المنزل وأنه محلّ عناية الأم الدائمة حتى حين يكون مقفلًا. وراح الطفل يشرح أكثر عن سبب أمنيته هذه، وكيف أنه يتمنى على أمه أن تنشغل به مثلما تنشغل بالتلفاز وتقضي معه وقتًا كما تقضيه مع التلفاز بل لو كان أقل من ذلك بكثير، بل ويتمنى لو أن إخوته يتخاصمون فيما بينهم فيترك أحد المتخاصمين جلسة التلفاز فيدخل إلى غرفة أخيه فيجالسه. ثم ختم الطالب أمنيته بالقول: “يا رب إنني لا أطلب منك الكثير، أريد فقط أن تجعلني تلفازًا، ولو لليلة واحدة”.
أنهى الزوج قراءة ما كتبه الطالب صاحب الأمنية العجيبة، فتنهد وقال: “يا إلهي! إنه حقًا طفل مسكين! ما أسوأ والديه وما أقسى قلبيهما وغفلتهما عن هذا الطفل. وهنا اندفعت الزوجة المعلمة في موجة بكاء أشد مما سبقها وهي تقول لزوجها إن صاحب هذه الأمنية وكاتب هذا الموضوع هو إبننا! وقلبت الدفتر ليقرأ عليه اسم ابنه الذي كان أحد طلاب الصف.
نعم إن من الآباء من يعتبرون أو وظيفتهم تتلخص في طعام وشراب ولباس يغدقونه على أولادهم، وينسون أن الابن بحاجة إلى ما هو أقل كلفة من هذا، إنه بحاجة إلى الانتباه والتواصل معه وإنه بحاجة إلى الحنان والحب، وإنه بحاجة إلى المشاعر والأحاسيس أكثر من حاجته لأي شيء آخر.
إن من الآباء من يعتمد في تربيته لأبنائه طريقة المقاول الرئيسي الذي يقوم باستئجار مقاولين فرعيين للقيام بتنفيذ المشاريع التي يفوز هو بعطاءاتها. إن ابنك أيها الأب وإن ابنتك ليسا حجرًا في جدار ولا باب في غرفة حتى ينجح معهما أي مقاول فرعي، فما يصلح لبناء بيوت لا يصلح لبناء الأبناء، إنهم المقاولون الفرعيون وسائل الإعلام والأصدقاء، والشارع وحتى المدرسة. إنهم المقاولون الفرعيون يظن الأب أن بإمكانهم أن يقوموا بالعمل، الذي يجب أن يقوم به هو وهذا هو الخطأ بل الجريمة بعينها.
وإن من الآباء من يعتمد في تربية أبنائه طريقة الضابط والحاكم العسكري الذي لا يجيد إلا الحزم وإصدار الفرمانات التي لا تقبل النقاش ولا الاعتراض، إنه الذي يتعامل مع البيت وكأنه ثكنة عسكرية، فلا يتحرك في البيت شيء إلا بإذنه ولا يصنع في البيت شيء إلا بعد موافقته، وما على أفراد الأسرة إلا السمع والطاعة.
وإن من الآباء من يعتمد في تربية أبنائه وفي علاقته مع البيت نظام الفندق، إنه الأب الزوج الفندقي، يأتي إلى بيته في المساء فيتناول طعامه ثم يخرج مع أصدقائه تاركًا زوجته والأولاد فلا يرجع إلى البيت إلا في ساعة متأخرة تكون الزوجة والأطفال قد خلدوا للنوم، فأما أن يكمل سهرته إن رجع قبل منتصف الليل بقليل متسمرًا أمام التلفاز أو أنه يخلد للنوم ثم يستيقظ في الصباح يذهب إلى عمله ودون أن يكون قد جالَسَ الأبناء في المساء ولا هو رآهم في الصباح. إن علاقته مع البيت هي كعلاقة ساكن الفندق، هو وسيلة للنوم ليس أكثر.
وما أجمل أبيات الشعر التي صاغها أحد الشعراء على لسان فتاة صغيرة في بيت والد ثريّ أهمل تربية أطفاله ظانًا أن هذه وظيفة الخادمة ولا يقضي أوقات النزهة والترفيه معهم ظانًا أن هذا يقوم به السائق الذي استأجره لسيارة البيت وعلى ما يبدو فإنها تشخيص لحالة بيت خليجيّ، حيث يعتمد في البيوت وجود خادمة لخدمة البيت وسائق للسيارة، فقال الشاعر:
يا والدي كأننا سكان في أحد الفنادق
صرنا نعيش حياتنا ما بين خادمة وسائق
كانت لنا أمنية أن نلتقي والجو رائق
ونراك في بيتنا يا والدي ولو لدقائق
نعم إن كثيرًا من البيوت قد تجدها غارقة في الملذات ونعيم العيش ورغده، وهي فارهة في بنائها ومرافقها وقد أنفق صاحب البيت على بناء بيته الكثير من الأموال حتى أصبح يشار إلى بيته بالبنان لجماله واتّساعه وبراعة هندسته، لكنه البيت الذي يفتقر إلى السعادة والطمأنينة، إنه البيت الذي يشعر ساكنوه بقسوة القلوب، أشد من قسوة حجارة البيت التي بُنيَ بها، لا لشيء إلا لأن هذه البيوت لم تقم على الحب والمودة والرحمة وعلى العلاقة الطبيعية بين الأم والأب وبين الأطفال، لتجد أن العلاقة جافّة، وحبال الوصل مقطوعة بين أفراد البيت. يقول ابن القيّم رحمه الله منبّهًا إلى أهمية دور الأسرة في التربية، فقال: “وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارًا فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا”. وقد عاتب والدٌ ولده على عقوقه له، فقال الولد: “يا أبت إنك عققتني صغيرًا فعققتك كبيرًا، وأضعتني وليدًا فأضعتك شيخًا”. وما أجمل من قاله علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “رحم الله امرءًا أعان ولده على برّه”.
فإذا كنت أيها الأب تردد دائمًا أن أولادك هم أغلى ما في الوجود بالنسبة لك -وهذا صحيح-لدرجة أن من الناس من إذا أقسم فإنه لا يقسم إلا بالأولاد أولًا وبالله ثانيًا (وحياة أولادي والله). إن هذا القول يجب أن يدعّم بالعمل، لا لشيء إلا لأن كثيرين من الآباء كما يقول الدكتور حسان باشا في كتابه الرائع “كيف تربّي أبناءك في هذا الزمان”، يقول: “يخبّئون الكلام المهذّب والأسلوب اللطيف ليقدّموه للغرباء، ولا يكادون يقدّمون شيئًا منه لأولادهم وزوجاتهم، مع أن هؤلاء أولى من غيرهم بالكلمة اللطيفة والتعامل اللبق”. وقد قال صلى الله عليه وسلم: “خيركم خيركم لأهله”.
وإذا كان ذلك الطالب في قصته مع أمنيته قد تمنّى أن يكون تلفازًا في الزمن الذي استحوذ فيه التلفاز على اهتمام الناس، فماذا عسى طالبنا وطفلنا اليوم يتمنى وهو يرى أن الهاتف الذكي وأشباهه قد استحوذوا على اهتمام الصغار قبل الكبار والأمهات أكثر من الآباء بشكل مجنون، وإذا كان التلفزيون ورغم الاهتمام به إلا أنه يُترك في مكانه في الصالون ويستريح لساعات حينما يذهب أفراد الأسرة إلى غرفهم للنوم بينما الهاتف النقال الذي يؤدي دور ومهمة التلفزيون والهاتف والحاسوب وأكثر من ذلك في آنٍ واحد، فإنه يدخل معنا إلى غرف نومنا بل إنه يكون إلى جانب وسائدنا نقّلبه قبل النوم بلحظة ولا نفتح أعيننا عند الاستيقاظ إلا على تقليب صفحاته، لا بل إنه الذي لا يفارقنا ونحن نتناول طعامنا، وإذا جلس أفراد الأسرة في جلسات أصبحت نادرة في صالون البيت، فإن كل واحد منهم مشغول بهاتفه يقلّبه، وكل واحد متفاعل ومشدود لما يراه أو يقرأه، فلعلّ ابننا اليوم وهو يرانا على هذا الحال ليتمنى فيقول اللهم اجعلني تلفزيونًا، بل لعله سيقول ويكتب: “اللهم اجعلني آيفونًا” مما يراه من اهتمام الوالدين والإخوة والأخوات بهذا الجهاز على حساب علاقات المودّة والتواصل بين أفراد الأسرة بعضهم ببعض.
أيها الآباء أيتها الأمهات، تذكروا: أنه حين يضرس الأبناء فهذا يعني أنكم أنتم قد أفرطتم في أكل الحصرم، ألم يقل المثل: “الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون”؟
{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون