في ذكرى الانتفاضة: المسجد الأقصى، البركات والهزّات الارتدادية
الشيخ كمال خطيب
يوم غد السبت 28/9 هو يوم الذكرى التاسعة عشرة لانتفاضة القدس والأقصى من العام 2000. اليوم الذي اقتحم فيه رئيس المعارضة الإسرائيلية أريئيل شارون مدنسًا المسجد الأقصى المبارك جاعلًا إياه ميدان للمنافسة والمناكفة بينه وبين رئيس الوزراء يومها إيهود باراك.
لم تتأخر غضبة شعبنا الفلسطيني نصرة للمسجد الأقصى المبارك، بل كانت آنية وفورية حيث دخل شعبنا في مواجهة مع شارون وحمايته من شرطة وجنود ومخابرات الاحتلال، ليبدأ سيل الشهداء فداءً للأقصى وليسجل شعبنا بكل شجاعة وفخار ملحمة مواجهة الكف للمخرز ومقارعة الحجر للبندقية والرشاش. وليقدم داخلنا الفلسطيني كوكبة من أبنائه شهداء انتصارًا للمسجد الأقصى الذين قتلتهم شرطة باراك وجنوده وهم الشهداء: رامي غرة، أحمد صيام، محمد جبارين، مصلح أبو جراد، عمر عكاوي، وسام يزبك، إياد لوابنة، محمد خمايسي، رامز بشناق، وليد أبو صالح، عماد غنايم، علاء نصار وأسيل عاصلة.
يومها أدرك شعبنا الفلسطيني بل أدركت الدنيا حقيقة النداء والتحذير الذي سبق وأطلقته الحركة الإسلامية “الأقصى في خطر” والذي كانت انطلاقته الأولى في شهر 10/1996 عبر مهرجان سنوي أقامته محذرة من الأخطار المحدقة بالمسجد الأقصى كحفر الأنفاق تحته والدعوات لتقسيمه.
لقد كان تدنيس شارون للمسجد الأقصى واندلاع هبة القدس والأقصى يوم 28/9/2000، بعد عشرة أيام فقط من المهرجان السنوي الخامس “الأقصى في خطر” والذي كان يوم 17/9/2000 في مدينة أم الفحم.
لعشرين سنة متواصلة والحركة الإسلامية التي حُظرت لاحقًا ظلت تقيم مهرجان الأقصى في خطر السنوي ويحضره عشرات الألوف من أهلنا، وليصبح ويتحول إلى حدث عالمي تنقله وسائل الإعلام بالبث المباشر ويشاهده ملايين المسلمين والعرب. لكن دور الحركة الإسلامية لم يقتصر على مجرد التحذير والنذير من الأخطار المحدقة بالمسجد الأقصى من قبل الاحتلال الإسرائيلي وإنما هي التي سبق وقامت بمشاريع الإعمار في المصلى المرواني وفي المسجد القديم ومشروع تبليط الساحات الشرقية والجنوبية وإقامة وحدات الوضوء، وذلك بالتنسيق التام وبإشراف دائرة الأوقاف وهيئة إعمار المسجد الأقصى، ثم هي التي أبدعت بمشروع مسيرة البيارق وتسيير الحافلات للأقصى من كل بقاع الداخل الفلسطيني من أقصى النقب جنوبًا حتى أقصى الجليل شمالًا، وهي التي أقامت مشاريع ومصاطب العلم وأيام التسوق المقدسية ومشروع صندوق طفل الأقصى، وهي التي وقفت وراء أيام النفير والدعوة للرباط في المسجد الأقصى عند دعوات اقتحامه من قبل المستوطنين، وهي التي أقامت المؤسسات والجمعيات التي لم تنشغل إلا بخدمة القدس والأقصى كمؤسسة الأقصى ومؤسسة البيارق ومؤسسه القدس للتنمية ومؤسسة مسلمات من أجل الأقصى وغيرها.
نعم لقد جاء اقتحام شارون للمسجد الأقصى وبحماية شرطة الاحتلال وجيشه بعد أسبوع من المهرجان الخامس “الأقصى في خطر” والذي بدأ صداه يتردد بل وبدأ الانشغال بالمسجد الأقصى يتجاوز الوطن الفلسطيني والعربي ليصبح قضية الأمة كلها.
وخرجت وسائل الإعلام الإسرائيلية لتصب مزيدًا من الحقد والتحريض زاعمة أن من يقف وراء هبة القدس والأقصى ومحاولة التصدي لشارون هي الحركة الإسلامية التي يرأسها الشيخ رائد صلاح، وهو شرف لا ندّعيه، ليبدأ مشوار التضييق والملاحقات عبر حملة اعتقالات عام 2002 وعبر إغلاق مؤسسات وعبر إصدار أوامر عسكرية بمنع السفر وصولًا إلى أحداث طريق باب المغاربة عام 2007 واعتقال الشيخ رائد صلاح ومنعه من دخول المسجد الأقصى الذي ما يزال مستمرًا حتى يومنا هذا.
لقد جاءت أحداث شهر أيلول من العام 2015 بعد مهرجان الأقصى في خطر العشرين الذي كان يوم 11/9/2015، ثم كان موسم الاقتحامات اليهودية للمسجد الأقصى خلال عيد الغفران وعيد العرش اليهودي، وكانت وقفة أبناء شعبنا في القدس دفاعًا عن المسجد الأقصى المبارك. واتسعت دائرة الأحداث يومها لتعود المؤسسة الإسرائيلية لمعزوفة التحريض على الحركة الإسلامية بأنها هي من تقف خلف خطاب التحريض وتحركات الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك، الأمر الذي شكّل حرجًا حتى على حلفاء إسرائيل في المنطقة، فكان الاجتماع الشهير الذي دعا إليه جون كيري وزير خارجية أمريكا وكان على يخت في البحر الأحمر مع قيادات عربية مصرية وسعودية وإماراتية وغيرها، وبمشاركة نتنياهو وكان ذلك يوم 25/10/2015.
لم تمض سوى ثلاثة أسابيع وإذا بنتنياهو يصدر يوم 17/11/2015 قراره بحظر الحركة الإسلامية ومصادرة كل مؤسساتها وإغلاق مكاتبها ومصادرة أموال المؤسسات، واعتبار الحركة الإسلامية تنظيمًا إرهابيًا خارجًا عن القانون.
نعم لقد دفعت الحركة الإسلامية ضريبة موقفها الواضح وغير المتلعثم من المسجد الأقصى المبارك، بأنه حق خالص لنا نحن المسلمين وليس لليهود حق ولو في ذرة تراب واحدة فيه. نعم لقد كان ثمن ذلك الموقف ليس إلا الحظر والإخراج عن القانون، لكننا كنا وما زلنا مطمئنين إلى صواب موقفنا وسلامة طريقنا ورؤيتنا وقراءتنا للأحداث.
لم ولن نشعر في يوم من الأيام أنه كان بالإمكان تفادي قرار الحظر عبر تخفيف حدة الخطاب ووضوحه، لأن قضية المسجد الأقصى ليست محل مساومة منا ونحن لم نقل أكثر مما نصّت عليه أحكام الشرع وما تعارف عليه المسلمون على مدار الأجيال. فليترك أصحاب النصائح نصائحهم، وشكرًا لأدعياء العقلانية الذين يعزون ما وقع بالحركة الإسلامية أنه بسبب حماسة زائدة، هؤلاء الذين يوم كنا نقول الأقصى في خطر فإن مناكفتهم الضيقة جعلتهم يومها يقولون “الأقصى بخير”.
# المسجد الأقصى والهزات الارتدادية
ومثلما وضع شارون وباراك المسجد الأقصى المبارك على طاولة المناكفات الحزبية بينهما في مثل هذه الأيام من العام 2000، فها هو نتنياهو وكل الأحزاب الإسرائيلية وخصوصًا القومية منها والدينية عادت لتجعل من قضية المسجد الأقصى المبارك على طاولة المناكفات الحزبية والتنافس الانتخابي بينها وبين حزب الجنرالات بقيادة غانتس، حيث جعل من المسجد الأقصى مادة إعلامية ودعائية في حملة الانتخابات الأخيرة عبر إطلاق وعود بتوسيع سيطرة اليهود على الأقصى وبتغيير الوضع القائم، وبالسماح لليهود بالصلاة في المسجد الأقصى لا بل أطلقت دعوات ووعودات بالسماح بالبدء ببناء الهيكل المزعوم الثالث.
صحيح أن الحالة الفلسطينية سواء بالانقسام الحاصل أو بالتنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنية لسلطه أوسلو وبين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، هذه الحالة يضاف إليها الوضع العربي الاقليمي المأزوم بين شعوب مقهورة وحكام طواغيت دمّروا بلادهم وهجّروا شعوبهم، وبين دول وأنظمة تخوض غمار معارك تستنزفها قد أوقعها فيها الأسياد الأمريكان كما هو الحال في اليمن، أو في احتدام الأمور بين السعودية وإيران ويضاف إليها وجود مجتمع دولي وقوى عالمية باتت تمارس العهر والنفاق السياسي، فلم تسمع لمستغيث ولا تنتصر لمظلوم، وإنما هي التي تداهن القوي وتبرر تصرفاته كما هي الحالة مع الاحتلال الإسرائيلي. هذه الظروف جعلت المؤسسة الإسرائيلية تتفاجأ من حجم التطبيع العربي معها والخليجي خاصة، بل وهي تسمع مواقف إدارة الظهر للمسجد الأقصى بل والتشكيك في هويته العقائدية وصلت إلى حد التشكيك بقدسيته، بل والاعتقاد إنه بني مكان الهيكل وأنه ليس هو المسجد الأقصى المقصود في القران الكريم.
هذه الظروف ولا شك إنها تشجع قادة إسرائيل للقيام بخطوات غير محسوبة اتجاه المسجد الأقصى المبارك. هذه الخطوات والسياسات يتجاهل هؤلاء نتائجها ظانين أن الأمة في حالة موت سريري وأنها الفرصة التاريخية لابد من اغتنامها، متجاهلين ما حذّر منه عقلاء من بني جلدتهم من أن استمرار هذه السياسة بحق المسجد الأقصى المبارك ستقود إلى كارثة تصل إلى حد زوال إسرائيل كما قال بشكل صريح “كارمي غيلون” رئيس جهاز الشاباك السابق في لقاء مع في صحيفة يديعوت احرنوت يوم 29/11/ 2014 وذلك في أعقاب الهبة المقدسية نصرة للأقصى ودفاعًا عنه بعد اقتحام 8 أيلول عام 2014 وقد تكررت في العام 2015، حيث قال: “إن استمرار السياسة المتطرفة ضد المسجد الأقصى ستقود إلى حرب يأجوج ومأجوج ضد الشعب اليهودي وستقود إلى خراب إسرائيل”.
إننا كما نؤمن بقدسية وبركة المسجد الأقصى المبارك، وأنها تبلغ إلى كل ما حوله حيث اعتبرت كل الشام، فلسطين ولبنان وسوريا والأردن كلها من حول المسجد الأقصى وكلها مباركة، إن هذه البركة الارتدادية تنبعث من المسجد الأقصى إلى المحيط حوله، فإنها مثل الهزات الأرضية التي يكون لها موقع هو مركز ثقلها لكن آثارها وارتداداتها تصل إلى مناطق واسعه حولها.
فبنفس هذا الإيمان ببركة المسجد الأقصى المبارك فإننا على يقين أن غباء المؤسسة الإسرائيلية وعمى القلب الذي يلفّ قادتها وحمّى العنصرية الدينية التي تعشعش في صدور حاخاماتها يجعلهم يجهلون أو يتجاهلون حقيقة هذه العلاقة بين المسلمين وبين المسجد الأقصى المبارك، وأن استمرار التضييق والأذى والتدنيس بل والتلويح بهدم المسجد الأقصى وبناء هيكل مزعوم على أنقاضه ستكون هي الهزة الأرضية وارتداداتها التي ستبلغ الدنيا كلها.
ما أغباهم وهم لا يقرأون التاريخ ليعرفوا أن المسجد الأقصى المبارك ومنذ الفتح الإسلامي للقدس عام 637 فإنه كان تحت السيادة الإسلامية إلا في فترتين تاريخيتين وقع فيهما تحت الاحتلال، الأول كان هو الاحتلال الصليبي منذ العام 1099 – 1187 وانتهت هذه الحقبة بهزيمة الصليبيين الذين احتلوه وتطهير المسجد الأقصى من دنسهم. وأما الفترة الثانية فإنها فترة الاحتلال الصهيوني منذ العام 1967 وحتى يومنا هذا. فليس أن المسجد الأقصى قد حُرر من الصليبيين، بل إن احتلاله كان هو الهزة الأرضية التي وصلت ارتداداتها إلى أطراف العالم الإسلامي كلها لتبدأ الجهود والمبادرات والخطط لإعادة تحريره، وهذا ما كان ولو بعد تسعين سنة.
ألا فليعلم قادة المشروع الصهيوني إن مرور أكثر من خمسين سنة على احتلال الأقصى، ومرور سبعين سنة على قيام الدولة العبرية ليس معنى ذلك أن الأمة قد نسيت المسجد الأقصى. إنه ورغم كل ما يجري فإن احتلال المسجد الأقصى مازال يشكل حرقة وغصّة في حلوق وصدور ليس 14 مليون فلسطيني ولا 400 مليون عربي، وإنما هم 1700 مليون مسلم يعتبرون أن لهم ثأرًا عند من احتلوا المسجد الأقصى، وأنه لن يهدأ لهم بال حتى يحرروه.
ألا فليعلم ساسة وحاخامات اسرائيل أن للمسجد الأقصى بركات أكدها الله تعالى لمّا قال {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} آية 1 سورة الإسراء. ألا فليعلم هؤلاء الذين يخططون لتنديس البركات في المسجد وحوله فإن النتيجة الحتمية ستكون هزات وارتدادات ستتجاوز ما حول المسجد الأقصى من بلاد الشام لتبلغ وتصل آثارها إلى الدنيا كل الدنيا معلنة نهاية عهد الظلم وبداية فجر الحرية وقد قال الشاعر في ذلك:
ألا استعـدّوا ويـومُ الـنصر مـوعـدنا
وأكْـثِروا البذْر لا تخْـشـوْا ولا تـذروا
وعـمِّـقُوا الحـرث إن الأرض مُـنْهَـكَة
لـمـا عراها من المـكْـر الذي مكروا
غـدا هنا نلـتـقي فالنّــصر مـوعـدنا
نُقِـيمُ للحق صرحًا عـمْـرُه العُـمُـرُ
وتُشـرق الشّمـس ملْء الكَـوْن ضاحكة
تـدكّ بالـنّور ظـلمًا راح يسـتـتـر
وتنْــتَـشي أمّتي مـن بعـد مِحْـنـتِها
ويـهتـفُ الغُـصْـن للعلياء والحَجَـرُ
قولوا لِمن مَكَروا إنا سَنَنْتصرُ
فادركوا الحقّ أو فروا أو انتحروا
فللذين يظنون أن الدنيا تضحك وتبتسم لهم وليس لغيرهم، إن عليهم أن يتذكروا أن غباءهم وغرورهم سيوقعهم بما حذّر منه العقلاء من بني جلدتهم، بل إنه سيكون سببًا في أن يحق عليهم وعد الله ووعيده سبحانه لمّا قال {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرً} آية 7 سورة الإسراء.
وإن غدًا لناظره قريب.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون