اللغة الإنجليزية الإسلامية.. دروب لقاء الدين باللغات العالمية
غلب على المسلمين في الماضي التحفظ في استخدام اللغة الإنجليزية وسيلة للتواصل والممارسة الدينية، ويعود ذلك أساسا لارتباطها في أذهان مسلمي شرق ووسط آسيا والشرق الأوسط بالاستعمار البريطاني المهيمن على بلدان إسلامية كثيرة.
لكن هذه النظرة تغيرت في “عالم ما بعد الاستعمار”، إذ تجنب المسلمون ومجتمعات دينية وعرقية أخرى عن النظر للإنجليزية باعتبارها لغة استعمارية، ويستخدم مئات الملايين من المسلمين حول العالم حاليا الإنجليزية لغة أولى أو ثانية، وأصبحت الإنجليزية التي يتحدثها قرابة 1.5 مليار شخص لغة رسمية في بلدان إسلامية ولغة التعليم وحتى الأدب والمعرفة للعديد من المسلمين، رغم فقدانها لبعض الدلالات المناظرة للمصطلحات الإسلامية.
ولحماية المصطلحات العربية الإسلامية من التشويه عند الترجمة، اقترح المفكر الفلسطيني الأميركي الراحل إسماعيل الفاروقي إدخال المصطلحات الإسلامية كما هي للإنجليزية، مقدما ما سماه “إنجليزية إسلامية” للحفاظ على المصطلحات دون تشوه دلالي، لتستمر في إثراء اللغة العالمية المعاصرة والقواميس الإنجليزية، وتبدو هذه الفكرة متوافقة مع الاتجاه السائد للحفاظ على التمييز الثقافي واللغوي للتقاليد غير الغربية في الإنجليزية.
تشوّه الدلالة
وتبدو اللغة الإنجليزية غير قادرة على التعبير عن دلالات الاعتقاد الديني الإسلامي بطريقة كافية، فمصطلحات قرآنية مثل “الإيمان” و”الجهاد” قد تترجم بالإنجليزية بمعاني “الاعتقاد” أو “التصديق” و”الحرب الدينية”، وهي في السياق الإسلامي لا تعطي المعنى نفسه، ولا تشتمل الإنجليزية على حقول دلالة دقيقة وموازية لهذه المصطلحات في اللغة التي ارتبطت قديما بالثقافتين اليهودية والمسيحية، وارتبطت حديثا بالقيم الغربية والمعرفة المعاصرة.
وتأتي تجربة “الإنجليزية الإسلامية” متأخرة مقارنة باللغات “الإسلامية”، مثل الفارسية والأمازيغية والملايو التي جرى إثراؤها مبكرا بالبنى اللغوية الدينية الخاصة بالدين الإسلامي، وكان على الفرس أن يفصلوا مفاهيم المعتقدات الدينية القديمة عن المفاهيم الإسلامية، لتكتسب لفظة “خدا” الفارسية على سبيل المثال دلالة لفظ الجلالة الله، عند المسلمين.
واستغرقت إعادة تشكل الخريطة الدلالية للمصطلحات الدينية وقتا وجهدا كبيرين، وهو ما يجري حاليا في سياق “الإنجليزية الإسلامية”، بحسب مظفر إقبال رئيس مركز الإسلام والعلوم بكندا.
ورأى المفكر والفيلسوف الإسلامي رائد علم مقارنة الأديان وإسلامية المعرفة إسماعيل الفاروقي (1921-1986) أن هناك شذوذا خطيرا في ترجمة الأسماء والمصطلحات الإسلامية للإنجليزية، لأن الممارسة السائدة لا تبدي ولاء كافيا للمعنى وتنحاز لمعايير اللغة المستهدفة (الإنجليزية) وليس لغة المصدر (العربية)، ويؤدي هذا النهج إلى فقدان هذه الأسماء والمصطلحات لدلالاتها الدينية والاعتقادية.
ولتصحيح هذا الخلل اقترح الفاروقي استخدام ما أسماه “اللغة الإنجليزية الإسلامية”، بحسب محمودول حسن الأستاذ المساعد بقسم اللغة والأدب الإنجليزي بالجامعة الإسلامية في ماليزيا الذي قال للجزيرة نت، إن “اللغة الإنجليزية ينشر بها كثير من المواد العلمية عن الإسلام أكثر من أي لغة أخرى بما فيها العربية”.
لغة إنجليزية إسلامية
ويشير الأكاديمي الماليزي محمودول حسن إلى أن “اللغة الإنجليزية ليست لغة الكتاب المقدس، بل هي لغة الترجمة الإنجليزية للكتاب المقدس الذي كان يكتب بالآرامية والعبرية واليونانية القديمة، واستغرق الأمر آلاف السنين حتى يتم ترجمته (بالمعنى الحقيقي) إلى الإنجليزية”، بحسب ما أورده في ورقته “الإسلام باللغة الإنجليزية ومفهوم إسماعيل الفاروقي للغة الإنجليزية الإسلامية”.
وفي الماضي -وفي سياق مقاومة الاستعمار-تجنب كثير من المسلمين وغيرهم استخدام الإنجليزية سواء في التعليم أو التواصل، ويمكن تفهم هذا الموقف في الهند على سبيل المثال التي كانت الإنجليزية فيها سلوكا استعماريا صريحا من قبل المحتل البريطاني الذي سعى لبناء طبقة “إنجليزية الذوق والآراء والفكر”.
ولكونها مرتبطة بالغزو والاستعمار، نُظر إلى اللغة الإنجليزية على أنها بطبيعتها غير منفتحة على الإسلام وبأنها مختلفة من الناحية التركيبية والخطابية عن أي من اللغات الإسلامية الرئيسة، مثل العربية أو الفارسية أو الملاوية أو الهوسا وغيرها.
لكن الفيلسوف الهندي والرائد الإصلاحي السيد أحمد خان في القرن 19 أطلق حركة قوية لجعل التعليم باللغة الإنجليزية لدى المسلمين الهنود، مستشعرا مأزق عدم أهلية من لا يعرفون الإنجليزية في اكتساب الوظائف ومن الناحيتين المادية والفكرية.
ويعتبر حسن أن الإنجليزية أصبحت لغة عالمية لا غنى عنها للمسلمين، ويستشهد بأحاديث نبوية عن أمر النبي عليه الصلاة والسلام لزيد بن ثابت بتعلم العبرية والسريانية، ويضيف “نظرا لأن الإسلام يعتبر دين جميع الأنبياء، فلا يمكن ربطه بلغة محددة واحدة، وعلى الرغم من أن المسلمين يجب عليهم استخدام اللغة العربية في القرآن والحديث، فيمكنهم استخدام لغات عالمية أخرى للتواصل بين الثقافات وإنتاج الأعمال الأدبية والعلمية”.
قراءة ما بعد الاستعمار
ترتبط الأسماء واللغات ارتباطا وثيقا نظرا لأن الوظيفة الرئيسة للغة، هي توفير الأسماء التي يعرف بها العالم، وفي الواقع المعاصر يظهر صعود التسميات والأسماء الغربية واحدا من جوانب هيمنة الاستعمار اللغوية، وهكذا يؤدي تشويه الأسماء بترجمتها لآثار ثقافية خطيرة بحسب الفاروقي الذي يسعى للاحتفاظ بالمصطلحات والتسميات الإسلامية دون أن تفقد دلالتها بالترجمة الحرفية.
ويشير الفاروقي لهذه القضية ذات الأهمية الدينية والثقافية، معتبرا أن الخسارة الثقافية تحدث “عندما تنتقل الكلمات من لغة إلى أخرى وتخضع لمفاهيم أو قيود مسبقة وسائدة في اللغة الجديدة، فتفقد بعض معانيها الأصلية”.
ومن زاوية أخرى تكون الأسماء بلغتها الأصلية معبرة عن تاريخ وثقافة كاملين وعالم روحي متكامل، ويرفض الفاروقي هيمنة اللغة الأجنبية بشكل صريح أو ضمني على التسميات الإسلامية، ويجادل بأنه “يجب احترام كل تسمية بالتهجئة الصحيحة والنطق الصحيح، هذا هو واحد من حقوق الإنسان الأساسية للمسلم”.
لغة إنجليزية إسلامية
في المقابل يرى الفاروقي أن المصطلحات الإسلامية يمكن أن تدخل اللغة الإنجليزية بالطريقة ذاتها التي دخلت بها اللغات الإسلامية مثل الفارسية والتركية والأمازيغية والسواحلية وكذلك الألبانية والكردية والأوزبكية وغيرها، بحيث توفي بالاحتياجات الدلالية لمعانيها الأصلية.
ويلفت الفاروقي النظر لكون معدل استعارة المصطلحات الاعتقادية الإسلامية من اللغة العربية ضئيلا للغاية، وأكثر من ذلك جرى تهجئة معظم المصطلحات الإسلامية الموجودة في القواميس الإنجليزية بشكل غير صحيح لتناسب اللغة الغربية، ويؤدي هذا النهج لتشوه الكلمات الأصلية ووضعها خارج سياقها، مما يجعل معانيها مختلفة تماما، ويعارض الفاروقي هذا الاتجاه متعدد اللغات ويقترح تصحيحه من خلال “الحرفية الدقيقة”.
ويقول إن “كثيرا من الكلمات العربية غير قابلة للترجمة، وعندما يتم تغيير المعاني الإسلامية وتحويلها ونقلها من خلال الترجمة، فهي خسارة لا يمكن تعويضها للإسلام والمسلمين والروح الإنسانية”.
ويضيف أنه على الرغم من أن المستشرقين استخدموا “مثل هذه الترجمات دون حساب، فإن اتباع المسلمين لهم في أخطائهم وتفسيراتهم الخاطئة أمر غير مقبول”.
وسبق أن اقتبست الإنجليزية كلمات عديدة من اللاتينية واليونانية قديما ومن اللغات الأوروبية مثل الفرنسية والإسبانية حديثا، واليوم تتداخل الكلمات الأجنبية مع الأصلية وتثري الإنجليزية المعاصرة وتخصبها، ويضيف قاموس أوكسفورد مئات الكلمات سنويا للإنجليزية.
ويعتقد الباحثون في دراسات ما بعد الاستعمار أن هناك “مجموعة من اللغات الإنجليزية” -مثل الإنجليزية الهندية والنيوزيلندية-لكل منها تاريخها وخصائصها المميزة.
وهكذا لا يرى الأكاديمي الماليزي محمودول حسن -متابعا العلامة الفاروقي-مشكلة في لغة إنجليزية إضافية تأخذ مصطلحات عربية وإسلامية وترتبط بالتقاليد الثقافية والدينية المشتركة للمسلمين، رغم أن الإسلام ليس كيانا جغرافيا محددا.
المصدر: الجزيرة