“نحو دستورية إسلامية جديدة”.. كتاب جديد يتناول القرآن وإحياء الشريعة
صدر حديثا عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر كتاب “القرآن والشريعة.. نحو دستورية إسلامية جديدة” تأليف أستاذ تاريخ الأديان من أصول فلسطينية وائل حلاق، وترجمة أحمد محمود ومحمد المراكبي، ومراجعة وتقديم هبة رؤوف عزت.
ويتناول الكتاب -الذي يقع في 192 صفحة-أسئلة مركزية عن طبيعة نظام الحكم في الإسلام ويتناول موضوعات، مثل العلاقة بين الفقه والقانون وتقسيم السلطات وآراء المؤلف في النظريتين الدستورية والسياسية.
ويتكون الكتاب من أربعة مقالات كتبت في فترات مختلفة تمتد لنحو عقدين من الزمان وتتناول موضوع القرآن والشريعة، وتتعرض المقالتان الأوليان في الكتاب لنقد ثلاث أطروحات استشراقية أساسية، أولاها عن بدايات الشريعة وأصولها في القرن الأول الهجري.
ويرى حلاق في مقدمة كتابه أن القرآن “هيأ للإسلام الأسس الدستورية التي استند إليها في الـ12 قرنا التالية إلى القرن الـ19 الميلادي عندما دمرت الكولونيالية مؤسسات الإسلام وأفسدت أنماطه الحياتية، ومنها أحكام الشريعة”.
أطروحات استشراقية
في المقال الأول بعنوان “أسس القانون الأخلاقي.. نظرة جديدة في الأخلاق وتشكل الشريعة” يتناول المؤلف بالنقد فكرة المستشرق الألماني جوزيف شاخت عن دور القرآن المحدود كمصدر مبكر وتأسيسي للفقه، ففي حين اعتبر شاخت القرآن مصدرا للأحكام الشرعية في مرحلة تاريخية متأخرة بعد مئة عام من الهجرة تقريبا يرى حلاق أن موقف شاخت من القرآن لا يمكن أن يؤخذ على محمل الجد لأن أدلته غير مقنعة ومشروعه غير مدروس واستقراءه ناقص بالنظر لكون الحديث هو موضوع أمثلته الرئيس.
وتجنب هارالد موتسكي -الذي يعد من أبرز علماء الحديث في الغرب-أخطاء شاخت، وتوصل لنتائج تدحض نظرياته التي وصفها بـ”الواهية”، مؤكدا أن “المسلمين لجؤوا بوعي للقرآن كمصدر من مصادر التشريع طوال القرن الأول الهجري”.
ويرى المؤلف أن المستشرقين أخطؤوا فهم مركزية القرآن بسبب بحثهم عن الجانب التشريعي خارج إطار الوحي، معتبرا أن القرآن يجسد رؤية كونية وأخلاقية تقتبس فيه العناصر القانونية والتشريعية من نظام كوني أشمل، مؤكدا أن “القرآن مثل منذ اللحظة الأولى مصدرا أساسيا لفروع الفقه”.
وترتبط الأطروحة الاستشراقية الثانية بالدور الحقيقي الذي نهض به القرآن في بناء الشريعة، إذ نظر جمهرة المستشرقين لها “باعتبارها نظاما قانونيا لم يعرف سبيل التطور إلا بعد أن هيمن المسلمون الأوائل على النظامين البيزنطي والروماني وغيرهما من الأنظمة القانونية”، وبهذا تأخرت نشأة الشريعة وبدا القرآن بهذه الصورة من الوجهتين المنطقية والتاريخية وكأنه مسوغ للشريعة ظهر بعد تشكلها.
دعوى
ولأن هذه الدعوى الاستشراقية تعتبر أن القرآن لم يكن مصدرا أصيلا للشريعة، فهي تنظر للإسلام من فرضية أوروبية كدين زائف يفتقر إلى هوية تخصه، وتنفي أن تكون له رؤية أصيلة للواقع يستقل بها عن قانون الغرب وثقافته وعن التأثيرات الرومانية واليونانية واليهودية.
لكن حلاق يتعرض في الفصل الثاني بعنوان “الدستورية القرآنية وتحكيم الأخلاق.. نظريات جديدة في المبادئ المؤسسة للمجتمع ومنظومة الحكم الإسلامي” لهذه الأطروحة الاستشراقية بالنقد، مبينا أن القرآن أرسى مبادئ دستورية في الشريعة، وهي بناء مؤسسة دستورية وتطبيق سيادة القانون، و”قانون الفقهاء” وآليات الاجتهاد، و”الحاكمية الأخلاقية” للقانون الفقهي.
ويؤكد حلاق أن القرآن كان “مسؤولا مسؤولية مباشرة عن تنظيم البنية المعرفية والسياسية التأسيسية للشريعة”، مضيفا أن “تأثيرات القرآن كانت في وقت نزوله نفسه ووجهت الممارسات التي أدت لتشكل بنية الشريعة، وحددت ما هو الإسلام وصيرورة أنساقه القانونية والسياسية”.
وأكد المؤلف في الفصل ذاته على كون مفهوم العدالة الإسلامي “تأسيسيا وليس رسميا أو تنظيميا فقط، فهو ممتزج بالنسيج الذي يفترض أنه قد حيكت منه الأنظمة الكونية والإنسانية”.
واعتبر أن مفهوم الفصل بين السلطات إسلاميا كانت له صفة مطلقة -إذا لم نقل مقدسة-بحيث تواجه أي تعدٍ يقع عليها، والنتيجة كانت “نظاما للعدالة لا يمكن الاعتداء عليه”.
واعتبر حلاق أن النموذج الإسلامي القرآني أكثر قوة من نظرية فوكو وجرامشي، لأنه “يتبنى بإصرار مفهوما للعدالة يتجاوز هيمنة الدولة” يخضع الخلفاء أو الملوك أو الحكام لسلطة الله التي تتناغم مع المفهوم الكوني للعدالة.
الشاطبي والمقاصد
ويتناول الكاتب بعد تفنيده الأطروحتين السابقتين أطروحة بنائية ثالثة بعنوان “أولية القرآن في النظرية الأصولية عند الشاطبي” يثبت فيها أن “القرآن لم يكن مصدر الشريعة منذ البدايات المبكرة للفترة المكية فحسب، بل إن الشريعة ظهرت مع القرآن وبأثر منه في أغلب مناحيها”.
ويرى حلاق أن أفكار الإمام الشاطبي تكشف ضمنيا أن الليبرالية أو الرأسمالية وما سواهما من الأشكال السياسية والاقتصادية الحديثة ليست هي معايير الإسلام أو مقاييس المثالية في العصر الراهن، مضيفا أن “القرآن ينهض مستقلا بوصفه نقدا إصلاحيا لما بعد الحداثة، وليس مجرد نظام قيمي مستقل فحسب”.
الحداثة وإحياء الشريعة
ورغم أن الكاتب يشير إلى كون المقالة الأخيرة “هل يمكن إحياء الشريعة؟” تحمل فكرة أن الدولة الحديثة يمكن أن تؤدي دورا في إحياء الشريعة فإنه يؤكد أنه قد تراجع عن هذه الفكرة لاحقا، ودوّن رأيه الأخير في كتابه “الدولة المستحيلة” الذي يعتبر فيه مفهوم “الدولة الإسلامية” مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي، بحسب أي تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة.
وفي خاتمة الكتاب يخلص حلاق لكون الحداثة -رغم جدارتها بالانتقاد-حقيقة واقعة لا يمكن تحييدها، فهي بنية نفسية ومنظومة أخلاقية ونظرية معرفية وطريقة حياة، وقد ظهرت لتبقى فترة طويلة مقبلة على الأقل، والحل يكون “تغيير ما يمكن تغييره”، مقترحا إعادة صياغة النظرية الأصولية بدلا عن أن تكتسحها الحداثة.
وانتقد حلاق في الوقت ذاته من سماهم “المفكرين الإسلاميين النفعيين” و”الليبراليين الدينيين”، مبينا أن أطروحاتهم لم يتم تفصيلها بشكل وافٍ لتكون نظرية منظمة شاملة، كما أنها تظل محدودة الانتشار لا تتمتع بجاذبية لدى المسلمين، وحتى لو حظيت بتأييد فستظل بعيدة عن مراكز السلطة، إذ يصم رجالها آذانهم عنها، على حد تعبيره.
وفيما يبدو خروجا عن الأجواء النظرية التي سادت الكتاب يرى المؤلف في الخاتمة أن “مصلحة الدول الإسلامية بأنظمتها السلطوية المستبدة لا يخدمها بالقطع تبني برنامج شامل للأسلمة”، مؤكدا أن إصدار قانون العقوبات وتطبيق الحدود -كما يجري في السعودية وإيران-لا يعد إحياء أصيلا للشريعة.
ويعتبر حلاق أنه ما دام المفكرون المسلمون مبعدين عن أجهزة الدولة، وما دامت الأنظمة الحالية مستمرة في إحكام قبضتها على السلطة فليس ثمة أمل يرجى في إحياء إسلامي حقيقي”، فالدولة -بحسب حلاق-هي وحدها التي تستطيع أن تمهد السبيل لإحياء الشريعة.
ويرى أن رعاية الشريعة يجب أن تنظم بهيئة هرمية علمية منفصلة عن السلطة السياسية لحد بعيد “فاستقلال الشريعة عن مشاغل السياسة ظاهرة إسلامية بمقدار ما هي -في حالة القانون-ظاهرة أميركية وأوروبية”.
المصدر: الجزيرة