ابن بطوطة في القدس.. كيف رآها أعظم رحّالة المسلمين؟
لعل من أطرف وأمتع ما يقرأه الشغوف بتاريخ مدينة ما في عصورها القديمة قراءتَها من خلال عيون الرحّالة والمسافرين، أولئك الذين يدوّنون في الغالب صورة جديدة غير نمطية كتلك التي تعوّد عليها أهل المدينة فصارت في أعينهم حالة من السكون والتعوّد، وبيئة لمجرد العيش والسكنى والعمل والاستقرار.
وفي كُتب الرحّالة والجغرافيين والسيّاح مُتعة الإحساس بالمكان وخباياه، ولمسة من اللغة التصويرية الرائقة التي تُقرّب لك المسافات، وتشمُّ فيها ومن خلالها عبق الحكايات والآثار والبنايات، وحكايا الناس الذين طواهم الزمن والتراب، كأنما تُساير في ذلك الإحساس ذلك الرحّالةَ القديم في حلّه وترحاله، ونحن نرى هذه القدرة المبدعة على تقريب صورة المدن وخباياها وسحرها قبل مئات السنين عند واحد من ألمع وأشهر رحّالة المسلمين في عصورهم القديمة، ذلك هو الرحالة المغربي الأشهر ابن بطوطة.
محمد بن عبد الله بن محمد اللواتي الطنجي المغربي، الشهير بابن بطوطة، مؤرخ وفقيه وقاضٍ، كما أنه فوق ذلك “أمير الرحّالة المسلمين” في كل تاريخهم كما وصفه علماء الغرب قبل الشرق، عزم على الحج وهو في سن 27 من عُمره، لكن الرحّلة استهوته، وقرر أن ينطلق فيستكشف الآفاق في بلاد آسيا وجنوب روسيا وبلاد العرب وشرق أفريقيا والأناضول والقسطنطينية، وقد أخذت هذه المغامرة الماتعة ربع قرن من عُمره، حتى آثر الرجوع إلى وطنه في أخريات عمره مع سن الكهولة وبداية الشيب، مقررا تسجيل هذه الرحلة الباهرة في كتابه الأشهر “تُحفة النُّظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”.
الرحلة إلى القدس
لم يغِب عن ابن بطوطة أن يزور المدن الدينية الأشهر، فكما زار مكة والمدينة، فقد قرر أن يزور القدس، وينعم بسكناها لأيام، ويتعرف على أهم شيوخها وعلمائها، ويقف على أهم آثارها ومساجدها، ويدون ذلك كله في لغة رشيقة صادقة، وقفت عاجزة في بعض الأحيان عن التعبير انبهارًا بمسجد قبة الصخرة الذي رآه واحدا من أعجب الأبنية التي رآها في حياته.
انطلق من مدينته طنجة مارّا بالشمال الأفريقي ثم مصر التي كان يحكمها واحد من أعظم سلاطين المماليك آنذاك وهو الناصر محمد بن قلاوون الذي امتدت إمبراطوريته إلى الشام وفلسطين وجنوب الأناضول والحجاز وحتى شمال اليمن.
ومن مصر قرر رحالتنا أن يستكشف مدن فلسطين بادئًا من غزّة ثم مدينة الخليل التي زار فيها الحرم الإبراهيمي مارّا بالقرب من البحر الميت ومنه صوب القدس الشريف في الثلث الأول من القرن 14 الميلادي/الثامن الهجري، وكان أول ما لاحظه ابن بطوطة حين رأى المدينة للمرة الأولى أن سورها الذي يحميها من هجمات الأعداء مهدوم كله.
فمن المعروف أن مدن العصور الوسطى كانت كلها محاطة بأسوار تحميها من أي غزو خارجي طارئ، بما فيها القدس الشريف، لكن السلطان صلاح الدين الأيوبي حين أعاد المدينة مرة أخرى من الصليبيين بعد معركة حطين الشهيرة، قرر هدم سور المدينة خوفا أن يعود الصليبيون فيحتلونها مرة أخرى ويتحصّنون بهذا السور، وقد أكمل السلطان المملوكي ركن الدين بيبرس فيما بعد هدم كامل السور لذات السبب.
لاحظ ابن بطوطة أيضًا أن القدس حينذاك قد شُق إليها قناة مائية صغيرة قادمة من مجموعة من الآبار البعيدة عنها، وقد حرص سلاطين المماليك وولاتهم، خاصة أمير بلاد الشام حيث كانت تتبع القدس آنذاك دمشق من الناحية الإدارية، على توفير سبل الأمن المائي للمدينة التي طالما شقّ على سكانها اعتمادهم على آبارها القليلة أو على السقايين الذين يأتون إليها بالماء من مكان بعيد، لذا قرروا حفر هذه القناة المائية التي سهلت على سكان المدينة معيشتهم.
في حضرة المسجد والقبة
انطلق من فوره صوب المسجد الأقصى، وقد أُعجب به وبمساحته الكبيرة، ودوّن بصورة دقيقة حالته وقتئذ قائلاً “وهو مِن المساجد العجيبة الرائقة الفائقة الحُسن، يُقال إنه ليس على وجه الأرض مسجدٌ أكبر منه وأن طوله من شرق إلى غرب سبعماية واثنتان وخمسون ذراعا بالذراع المالكية، وعرضه من القبلة إلى الجوف أربعماية ذراع وخمس وثلاثون ذراعا، وله أبواب كثيرة في جهاته الثلاث، وأما الجهة القبلية منه فلا أعلم بها إلا بابا واحدا وهو الذي يدخل منه الإمام، والمسجد كله فضاء غير مسقف إلا المسجد الأقصى فهو مسقَّف، في النهاية من إحكام العمل وإتقان الصنعة، مموّه بالذهب والأصبغة الرائقة، وفي المسجد مواضع سواه مسقفة”.
غير أن أكثر ما أصابه بالدهشة والإعجاب والروعة مسجد قبة الصخرة، وهو يومئذ قريب من حالته التي عليها اليوم، حيث قبّته المذهّبة الرائعة التي تتلألأ عند تعامد أشعة الشمس عليها، وزخرفته الزرقاء البديعة، (علاوة على) بنائه الهندسي المثمّن الغريب عن العمارة الإسلامية في المغرب خاصة، وحتى في بلاد المشرق.
يقول ابن بطوطة في هذا المسجد بإعجاب واندهاش “وهو مِن أعجب المباني وأتقنها وأغربها شكلا، قد توفّر حظها من المحاسن، وأخذت مِن كل بديعة بطرف، وهي قائمة على نُشز في وسط المسجد، يُصعد إليها في دَرج رُخام، ولها أربعة أبواب، والدائر بها مفروش بالرخام أيضا محكم الصّنعة، وكذلك داخلها وفي ظاهرها وباطنها من أنواع الزواقة، ورايق الصّنعة، ما يُعجز الواصف، وأكثر ذلك مغشي بالذهب؛ فهي تتلألأ نورًا، وتلمع لمعان البرق، يحارُ بصرُ متأملها في محاسنها، ويقصرُ لسانُ رائيها عن تمثيلِها”.
ووصف الصخرة التي عرج من فوقها نبينا صلى الله عليه وسلم إلى السماء، كما وصف ارتفاعها، وما كان أسفل منها يومذاك، وما كان من الشبابيك المطلة على الصخرة المشرفة، قائلاً “وتحتها مغارة في مقدار بيت صغير ارتفاعها نحو قامة أيضا، يُنزل إليها على دَرج، وهنالك شكل محراب، وعلى الصخرة شبّاكان اثنان محكما العمل يُغلقان عليها: أحدهما وهو الذي يلي الصخرة من حديد بديع الصنعة، والثاني من خشب، وفي القبة درقة (درع) كبيرة من حديد معلقة هنالك، والناس يزعمون أنها درقة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه”.
اهتم ابن بطوطة في أيام مكوثه في القدس بزيارة أماكنها ومعالمها الشهيرة، فقد أشار إلى قبر رابعة البدوية وأكد أنها واحدة من قدامى العباد المتنسكين، وهي غير رابعة العدوية العراقية، كما أشار إلى أن كنيسة القيامة في القدس كان حجاجها القادمون من أوروبا يدفعون ضريبة لدخولها، قائلاً “وعلى كل من يحجّها ضريبة معلومة للمسلمين، وضروب من الإهانة يتحملها رغم أنفه، وهنالك موضع مهد عيسى عليه السلام يتبرك به”.
ولعل سبب إهانة السلطات المملوكية لزوار كنيسة القيامة من الحجاج القادمين من أوروبا سببه أن الحروب الصليبية كانت آثارها حاضرة وبقوة في ذاكرة المسلمين آنذاك، وأن دولة المماليك ذاتها، بل والد السلطان الناصر محمد (المنصور قلاوون) وأخوه السلطان الأشرف خليل بن قلاوون، كانا من أواخر السلاطين الذين دخلوا في الصراع النهائي على طرد الصليبيين من بلاد الشام وآخر وأكبر معاقلهم مدينة عكا.
التقى ابن بطوطة بمشاهير علماء القدس حينذاك، وتعلم منهم، وسمع لهم، وحفظ لنا أسماء من قابلهم واستمتع بحديثهم، ونلاحظ أن معظم من قابلهم من العلماء والصوفية كان من المهاجرين القادمين من أقطار مختلفة عن المدينة التي كانت واحدة من أهم مدن الجذب العلمي والثقافي حينذاك.
فقد قابل القاضي شمس الدين محمد بن سالم الغزّي، وأكد أنه “من أهل غزّة وكبرائها” وقابل الخطيب عماد الدين النابلسي، وأيضا شيخ الخانقاه الصلاحية المنسوبة للسلطان صلاح الدين، كان رجلا قادما من غرناطة في الأندلس، وهو العالم الشيخ محمد بن مثبت الغرناطي “نزيل القدس”.
كما التقى ابن بطوطة بأحد كبار الصوفية الزاهدين القادمين من شرق الأناضول الشيخ الصالح العابد أبو عبد الرحيم عبد الرحمن بن مصطفى من أهل أرز الروم، وهو من تلامذة تاج الدين الرفاعي “صحبته ولبست منه خرقة التصوف”.
وهكذا حفظت لنا رحلة ابن بطوطة الأشهر انطباعته الجميلة عن مدينة القدس قبل سبعة قرون، وكيف كان مسجدها الأقصى وقبة الصخرة المشرفة، وسورها وأسباب هدمه، وأشهر علمائها وشيوخها ومتصوفتها الذين جاؤوا من أقطار متباعدة شتى، شاعرين بالقدس بالراحة والسكينة والسلام.